ليس التمييز بين «القوّة الصلبة» و«القوّة الناعمة»، أو ما أسمته هيلاري كلينتون في حملتها الانتخابيّة الفاشلة بـ«القوّة الذكيّة»، إلا تنويعات في رغبة الحكومة الأميركيّة في فرض السيطرة العالميّة. لم يرد جوزيف ناي أن تعزف الحكومة الأميركيّة عن استعمال القوّة، بل هو كان يريد أن يوازي—أو أن يُصاحب—استعمال القوّة الحربيّة قدرٌ من القوّة الناعمة. (أما القوّة الذكيّة فليس لها معنى على الإطلاق، ولم تحاول هيلاري أن تعرّفها، إلا في محاولة — كما كان زوجها يفعل — للتآلف بين جذب الجمهوريّين عن طريق الوعد باستعمال «القوّة»، وجذب الديموقراطيين عن طريق استعمال «الذكاء» في استخدام القوّة).
يمكن اختزال الفروقات بين الحزبيْن في أميركا بأنه اختلاف حول رصد النفقات في الميزانيّة. الحزبان يتفقان على الفلسفة الأساسيّة للحكم، وهما يعبّران عن التقديس نفسه للدستور الأميركي، لكنها يفترقان في أمور رصد النفقات الاجتماعيّة ـ الاقتصاديّة والعسكريّة. باختصار شديد: الحزب الجمهوري يريد أن ينفق (دوماً) أكثر على الدفاع والاستخبارات، فيما يريد الحزب الديموقراطي أن ينفق أكثر من الحزب الجمهوري على البرامج الاجتماعيّة التي تهدف إلى خدمة الطبقة الوسطى (أما الفقراء فلهم «الجنّة» فقط، بحسب وصف جمال عبد الناصر الساخر). وبعد الحرب العالميّة الثانية، نشب خلاف مستحكم بين الحزبيْن حول نسبة رصد النفقات للحروب وللدعاية الأميركيّة. طبعاً، لا تصف أميركا دعايتها هي بأنها «دعاية» سياسيّة، مع أنها من أبرع من استخدم الدعاية السياسية وأنفق عليها أكثر من أي حكومة أخرى. وفي الرجوع إلى نقاشات الكونغرس الأميركي بعد الحرب العالميّة الثانية، يجد المرء أن نفقات الدعاية السياسيّة التي كانت تطالب بها كل إدارة تعاقبت على الكونغرس، لم تكن تحصل عليها إلا بشق النفس. هناك شبه إجماع هنا (بين الحزبيْن) أن القنابل والصواريخ هي أكثر فعالية وجدوى من الكتب والدعاية السياسيّة. صحيح أن الحكومة الأميركيّة أنفقت أكثر من أي حكومة أخرى في العالم على الدعاية والتضليل حول العالم، لكن إنفاقها كان بحدود ١٪ من النفقات العسكريّة والاستخباريّة. كان أعضاء الكونغرس لا يرون ضرورة في الإنفاق على ما تحقّقه القنابل والصواريخ. وكان هناك — ولا يزال — عند المحافظين (من الحزبيْن) نظرة مُحتقرة نحو الثقافة والمثقّفين، وأن مَن يعمل في مجال الدعاية لا بدّ أن يتسخ بالثقافة والفن والمعرفة الضارّة.

«الأخبار المزّيّفة» هي وسيلة لم تمتنع الحكومة الأميركيّة عن استخدامها في حروبها

وربط ضرورة الدعاية بالحروب كان واضحاً من وراء إنشاء أجهزة الدعاية الأميركيّة. فقد صرّح بذلك ويلمام بنتون، الذي عيّنه ترومان مساعداً لوزير الخارجيّة لشؤون «الشؤون العامّة»، في شهادة له أمام الكونغرس في عام ١٩٤٥، إذ قال: «إن قوّتنا العسكريّة والاقتصاديّة كبيرة إلى درجة أنها ستحتّم أن هناك في العالم أشخاصاً ومجموعاتٍ في العالم ممن ويشكّكون بنوايانا ويخشوننا وحتى يكرهوننا». (راجع كتاب لورا بلمونت، «بيع الطريقة الأميركيّ: الدعاية الأميركيّة والحرب الباردة»، ص. ١٠). وقد أكد الدعائيّون الأميركيّون الأوائل على ضرورة نشر «الحقيقة»، لكن حسب ما تقتضي المصلحة الأميركيّة. وفي إجابة عن سؤال حول طريقة تقديم أجهزة الدعاية الأميركيّة لموضوع النزاع العرقي بين البيض والسود، أصرّ بنتون على ضرورة تقديم صورة تقدّم الوضع العرقي، مع التأكيد على ضرورة حجب «العناصر غير المُحبّبة» في الواقع الأميركي (كتاب لورا بلمونت، ص.١٣-١٤). أما الديبلوماسي، جورج كنن، (صاحب نظريّة الاحتواء) فقد حثّ على «صنع وتقديم صورة بنّاءة وأكثر إيجابيّة (عن أميركا) للبلدان الأخرى».
كأن الحكومة الأميركيّة مُصمّمة على الاستحواذ على قلوب وعقول الناس حول العالم، خصوصاً في زمن سلبت الشيوعيّة والاشتراكيّة والقوميّة العربيّة العقول والقلوب بالمجّان، ومن دون مؤامرات. وفي عام ١٩٥٥، أصدر جهاز الدعاية الأميركي (المعروف حينها باسم «الهيئة الأميركيّة للمعلومات» (وقد دُمجت بمكاتب وزارة الخارجيّة المختصّة بعد نهاية الحرب الباردة) كتاب «هذه أمريكتي» وطبعت ١٢,٤٠٠ نسخة في طبعة أوليّة. وفي الكتاب ترويج للحياة الأميركيّة حيث لا فروقات طبقيّة أو اجتماعيّة وحيث لا فقر ولا عنصريّة ولا قهر جندرياً. أراد خبراء الدعاية في الحكومة الأميركيّة إقناع شعوب العالم بصوابيّة الرأسماليّة عبر صور خياليّة غير حقيقيّة عن الحياة في أميركا. (راجع كتاب لورا بلمونت، ص. ٣-٤).
قرّرت الحكومة الأميركيّة أخيراً أن هناك خطراً من «الأخبار المزيّفة»، وأن هناك حاجة ضروريّة ماسّة للتعاون بين الحكومة الأميركيّة وبين شركات التواصل الاجتماعي لمحاربة الآفة هذه. والتهويل من أخطار الأخبار «المزيّفة» رافق حملة هيلاري كلينتون الانتخابيّة وترافق مع تهويل أجهزة المخابرات الأميركيّة من تأثير دور الحكومة الروسيّة على الانتخابات الأميركيّة. والتحذير المخابراتي الأميركي غير مسبوق وترافق مع نشر الحكومة الأميركيّة تقريراً لأجهزة مخابرات أميركيّة ثلاثة عن الدور الروسي. وتقرير الأجهزة لم يتضمّن دليلاً واحداً، وتضمّن اختلافاً في تقييم مصداقيّة المصادر بين الأجهزة (كما أن التقرير اعترف ضمناً بأن أجهزة المخابرات الأميركيّة كانت ضالعة بنشر «وثائق بنما»، والتي نُشرت عبر جمعيّة الصحافيّين الاستقصائيّين العالميّة والتي تضمّ ممثّلين عن جريدة «الحياة» التابعة لأمير سعودي ربما لأن آل سعود مشهودٌ لهم بالاستقصاء الصحافي)، كما أنها تضمّنت ضمناً اعترافاً بمصداقيّة كل وثائق «ويكليكس».)
لكن «الأخبار المزّيّفة» حقيقة من حقائق الدعاية السياسيّة. هي وسيلة من الوسائل العديدة التي لم تمتنع الحكومة الأميركيّة عن استخدامها في عقود حروبها الكثيرة والطويلة بعد الحرب العالميّة الثانية. هي استخدمتها على نطاق واسع في نشر كم هائل من الأكاذيب التي نشرتها بكل اللغات عن «فظائع» الشيوعيّة فيما كانت هي تتستّر على فظائعها هي: يعلم العالم اليوم الأكاذيب عن «فظائع الشيوعيّة» (والتي يُنسب لها ضحايا الكوارث الطبيعيّة والمجاعة) فيما لا يعلم العالم عن الفظائع الأميركيّة. لو أن العالم يعلم فقط عن فظائع وويلات حروب المخابرات الأميركيّة ضد دولة لاوس مثلاً: بدأ تدخّل المخابرات الأميركية في لاوس في عام ١٩٦١ في عهد جون كينيدي بقوة تدريب صغيرة ضد الشيوعيّة، ونمت بسرعة فائقة إلى حرب سريّة شاملة ضمّت عشرات الآلاف من المرتزقة والمجرمين واللاوسيّين المحليّين. رمت أميركا على لاوس من القنابل والصواريخ في الستينيات والسبعينيات أكثر مما رمت على كل ألمانيا واليابان في الحرب العالميّة الثانية. قتلت أميركا عُشر سكّان لاوس (أي نحو ٢٠٠,٠٠٠ ضحيّة)، وقتلت مخلّفات قنابلها وألغامها ٢٠,٠٠٠ من السكّان بعد انتهاء الحرب في عام ١٩٧٥ (راجع الكتاب الجديد «أميركا في لاوس وولادة المخابرات الأميركيّة العسكريّة» لجاشوا كُرلانتزيك).
إن نشر أخبار مزيّفة ومُصنّعة صنعة أميركيّة معاصرة ضد أعدائها. تزخر الصحافة العربيّة هذه الأيام، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي، بأخبار ملفّقة (مُصنّعة غالباً في جهاز مخابرات كوريا الجنوبيّة الخالي المصداقيّة) عن حاكم كوريا الشماليّة: هو يوماً يقتل مسؤولاً له لأنه غطّ في النوم في اجتماع، وهو يقتل رجلاً لم يبتسم له يوماً آخر. لا توثيق لكل هذه الأخبار. والحكومة الأميركيّة والإسرائيليّة درجت لعقود على تلفيق «أخبار مزيّفة» عن أعدائهما. كان العدوّ الإسرائيلي يزرع في الصحافة الأجنبيّة «أخباراً مزيّفة» عن الحياة الشخصيّة لياسر عرفات (الذي عاش زاهداً، خلافاً للكثير من القادة في منظمّة التحرير وخلافاً لخلفه، محمود عبّاس وأولاده) وعن حفلات مجون وعن إسراف اجتماعي له (راجع تسريبات أكاذيب الـ«موساد» عن ياسر عرفات في كتاب «في داخل منظمة التحرير الفلسطينيّة» لخبير الإرهاب الأميركي، نيل لينفغستن). والحكومة الأميركيّة تجتهد في الترويج لأكاذيبها عبر تصوير حقائق أعدائها على أنها أكاذيب. أي إن الحملة الحالية ضد «الأخبار المزيّفة» ليست جديدة كليّاً بل هي نسق مُتجدّد من خدعة أميركيّة قديمة بهدف إيلاء أكاذيبها الأولويّة في التغطية الصحافيّة.
كانت أميركا في سنوات الحرب الباردة تنسب كل ما لا يعجبها من أخبار عن جرائمها حول العالم، أو حتى عن جرائم حلفائها، إلى قسم الـ«ديس إنفورميشن» (أو المعلومات المضادة) في المخابرات السوفياتيّة. لكنها كانت هي أنشط في المعلومات المضادة من خصمها: كانت مثلاً تزرع في إعلام الدول الإسلاميّة أخباراً مزيّفة عن احتفالات سوفياتيّة رسميّة (مع ختم للجيش السوفياتي في إعلانات) بعيد الاجتياح السوفياتي لأفغانستان. والانقلابات العسكريّة التي حاكتها أميركا في دول العالم كانت تُصاحب بزرع مقالات ملفّقة عن أعدائها، من إيران إلى لبنان وغواتيمالا وتشيلي ونيكاراغوا ومصر. لم يكن الاتحاد السوفياتي يتمنّع عن هذه الأساليب لكن لم يكن غزير الإنتاج كما كانت أميركا.
والحرص الأميركي على دعايتها يكمن في التسميات: فليس هناك من إطلاق مصطلح «بروباغندا» على الـ«بروباغندا» الأميركيّة. الـ«بروباغندا» تصلح لوصف دعاية الأعداء فقط، مع أن الدعاية الأميركيّة استقت الكثير من دعاية غوبلز (والأخير استقى أيضاً بدوره من دعاية أميركا، وكان مستشار هتلر، إرنست هفتزنغل، يمدّ الدعاية النازيّة بتجربته في جامعة هارفرد حيث الكلمة والأغنية والأناشيد والأعلام والمهرجانات كانت جزءاً من النشاط الطلاّبي الرسمي). أميركا تطلق أوصافاً أخرى على دعايتها: هي «معلومات» أو «شؤون عامّة» هي «سياسة عامّة» أو هي تضاد الـ«بروباغندا»، لأن الديموقراطيّة لا تكذب (يسمح القانون الدستوري الأميركي للمسؤولين الأميركيّين بالكذب وذلك في نطاق أعمالهم، مع أن القانون الأميركي المعاصر يفصل بين حق الحكومة في نشر الدعاية الأميركيّة في دول العالم وبين تحريم ذلك في الأراضي الأميركيّة.) واليوم تروّج الحكومة الأميركيّة لدعايتها باسم «الأخبار الصحيحة»، كما الأحاديث الصحيحة.
خبِرنا «الأخبار المزوّرة» في بلادنا في أكثر من محطة. قبل التحضير لحرب العراق في ١٩٩١، قامت الحكومة الأميركيّة بالاشتراك مع وسائل إعلام السلالات الديموقراطيّة في الخليج بنشر أخبار هائلة ومهولة عن العراق وعن نيّات العراق من أجل تطويع الرأي العام العربي (المشكلة أن النظام العراقي كان دموياً بما فيه الكفاية، لكن الدعاية الأميركيّة تحتاج دوماً إلى المبالغات والأكاذيب لتدعيم سياساتها والتحضير لحروبها). والقصّة الشهيرة في هذا السياق هي قصة الفتاة الكويتيّة، «نيرة»: ظهرت فتاة كويتيّة في سن الخامسة عشرة أمام لجنة حقوق الإنسان في الكونغرس الأميركي وأدلت بشهادة باكية متهدّجة عن رؤيتها لانتزاع الجنود العراقيّين لأطفال من حاضناتهم الوقائيّة من مستشفيات في الكويت. لم تستعمل الفتاة اسمها الكامل. ضجّت كل وسائل إعلام العالم بتلك القصّة ومنظمّة العفو الدوليّة (التي يهزج بحمدها هذه الأيّام إعلام آل ثاني وإعلام آل سعود، والتي يعتبرها الكثيرون في العالم العربي بأنها فوق الشبهات والدعاية والترويج السياسي) وافقت على قصة نيرة ووزّعتها مؤكدّة صحتها. تبيّن في ما بعد أن قصة نيرة ملفّقة من أساسها وأن شركة «العلاقات العامّة» الأميركيّة، «هيل ونولتن»، هي التي حاكت تلك القصة وأن الفتاة نيرة لم تكن إلا ابنة سفير الكويت في واشنطن، سعود الصباح (اعتذرت «منظمّة العفو الدولية» متأخرة بعد دمار العراق على ترويجها للكذبة الأميركيّة ــ الكويتيّة الشنيعة).
لكن الدعاية الأميركيّة لم تشتدّ وتصبح أولويّة بدرجة الحروب نفسها، إلا بعد ١١ أيلول. انخفضت نفقات الدعاية السياسيّة الأميركيّة بدرجة ٣٣٪ بعد اندثار الاتحاد السوفياتي ثم تضخّمت بدرجة كبيرة بعد تفجيرات ١١ أيلول وبروز اهتمام — أو هوس — أميركا بصورتها السلبيّة حول العالم. في عام ٢٠٠٥ فقط، أنفقت وزارة الخارجيّة الأميركيّة وحدها ١,٣ مليار دولار على الدعاية ومشتقّاتها (تلقّى لبنان المحظوظ كميّة محترمة من هذه الملايين). وأنشأت الحكومة الأميركيّة إذاعة وفضائيّة خاصّة بالعالم العربي وزادت من عملها (عبر مكتب خاص في دبي، بعد أن كانت سفارتها في لندن تتكفّل بالتنسيق مع وسائل الإعلام العربيّة من أجل توحيد الجهود لتقديم صورة إيجابيّة عن الحروب الأميركيّة). كما نشطت الدعاية تلك في اختلاق أخبار كاذبة (كأن تنشر صوراً للأقمار الاصطناعية عن إنشاء صدّام حسين لقصور جديدة له في غمرة الحصار، أو توزيع صورة مُركّبة لبن لادن ويظهر فيها حليقاً ويرتدي بزّة غربيّة، أو أن تنشر خبراً من دون دليل عن أن حاسوب بن لادن كان يحتوي على بورنوغرافيا). وتعاقدت الحكومة الأميركيّة مع عدد من شركات العلاقات العامّة والدعاية (مثل شركة «لنكلن») من أجل نشر مقالات مفيدة في الإعلام العربي، وبتوقيع أسماء عربيّة، مع أن مكاتب الصحف والإعلام العربي في العواصم الغربيّة كانت — ولا تزال — تقدّم خدمات مجانيّة لدعاية الحروب الأميركيّة. وفي خريف عام ٢٠٠١، أنشأت وزارة الدفاع الأميركيّة «مكتب التأثير الاستراتيجي» وكانت مهمته نشر «العمليّات النفسيّة»، بما فيها الأكاذيب، في الإعلام الأجنبي. وثارت حفيظة البعض في الكونغرس لأن ذلك ممكن أن يخالف القانون لأن نشر الدعاية في الإعلام الأجنبي يمكن أن ينتهي في الإعلام المحلّي الأميركي. وجاء في كتاب «الضرب أولاً: القوّة الوقائيّة الاستراتيجيّة العسكريّة الأميركيّة» أن الحكومة الأميركيّة دفعت لصحافيّين عراقيّين مبالغ ماليّة لنشر أخبار ومقالات ترويجيّة عن الاحتلال الأميركي. ظن البعض أن مكتب «التأثير الاستراتيجي» قد أغلق، لكن مهامه تحوّلت إلى مكاتب أخرى ناشطة في الوزارة، ولا تزال عيونها ساهرة.
وقد خبِرنا في لبنان عمل «الأخبار المزيّفة»: بعد أيّام فقط من عدوان تمّوز نشر موقع «إيلاف»، وغيره من المواقع اللصيقة بإعلام دول الخليج، خبراً مختلقاً عن أن هيفاء وهبي انتقدت حسن نصرالله بعدما شنت إسرائيل عدوانها. كما أن الحرب السوريّة شهدت ترويجاً مكثّفاً من الطرفيْن لـ«أخبار مزيّفة»، من نوع أن عادل إمام أعلن تأييده لبشّار الأسد أو أن هيلاري كلينتون أعلنت في كتابها عن مسؤوليّة حكومتها عن خلق «داعش»، أو أن بشّار الأسد أصيب بجلطة (بقي موقع «إل.بي.سي» على الإنترنت يروّج على مدى أسبوعيْن لـ«خبر» إصابته بجلطة)، وبعد ظهور الأسد سارعت المواقع إلى التعليق على حركة يده. والإعلام الأجنبي نقل هذه «الأخبار» كما وردت في الإعلام والمواقع العربيّة. إنتاج الدعاية السياسيّة محموم هذه الأيّام.
لكن إدارة أوباما رفعت من وتيرة اعتراضها على «الأخبار المزيّفة»، وهي طالبت بتنسيق بين الحكومة الأميركيّة (أي مُحتكرة الحق والحقيقة في الكون، ألم يقل مسلسل «مغامرات سوبرمان» التلفزيوني في الخمسينيات أن البطل الأميركي يسعى لتحقيق «الحقيقة والعدل والطريقة الأميركيّة»؟) وبين شركات التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي. وستيفن كوك، رئيس شركة آبل، طالب قبل أيّام فقط بالتنسيق بين أجهزة الحكومة الأميركيّة وشركات التكنولوجيا من أجل «محاربة الأخبار المزيّفة». وحذّر كوك، بطريقة أورويليّة من أن «الأخبار المزيّفة» «تقتل عقول الناس بطريقة ما». وشركة «فايسبوك» عيّنت الصحافيّة المحافظة، كامبل بروان قبل أسابيع، لمساعدتها في تنقية الأخبار «الصحيحة» من «المزيّفة».
وتتزامن التحذيرات هذه مع وعي الحكومة الأميركيّة بانتشار الوجود العربي على شبكات التواصل الاجتماعي. وهي قد عملت من قبل على بثّ دعايتها ضد «الإرهاب» (بالتعريف الأميركي السياسي-الصهيوني)، ليس فقط على شاشات الحاسوب بل أيضاً على الهواتف والألواح الذكيّة. وقد أنشأت الحكومة الأميركيّة مركزاً سريّاً في دولة الإمارات وأوكلت إليه الحكومة هناك للتعاون معها لمحاربة الإرهاب (باستثناء طبعاً الإرهاب الإسرائيلي المحمود من قبل الطرفيْن). لكن المحاولات تلك لم تلق نجاحاً وكان اسم وزارة الخارجيّة الأميركيّة يثير شكوكاً لدى المتلقّي العربي. لكن «مركز التواصل العالمي» في وزارة الخارجيّة الأميركيّة يعمل على تحسين سبل عمل وسائل الدعاية الأميركيّة على وسائل التواصل الاجتماعي العربيّة. وتلقّى المركز دعماً ماليّاً كبيراً من الكونغرس لحض الشباب العربي على نبذ «داعش» (أو غيرها ممن تعتبرهم الحكومة الأميركيّة منظمّات إرهابيّة). وقد بدأ المركز مشروعاً جديداً للوصول إلى الشباب في فرنسا وليبيا والأردن وتونس والمغرب والسعوديّة، وفي دول أخرى لا تستطيع الحكومة الأميركيّة أن تفصح عن أسمائها لأنها تتعاون مع الحكومة الأميركيّة. ويقول المدير السابق للمركز «انه باستطاعتك مقابل ١٥,٠٠٠ دولار أن تبتاع لنفسك جمهوراً. وتحرص على أن «تضربهم» بأفضل المعلومات حسب ما تتوافق مع معلوماتهم الشخصيّة. هذا «بزنس جيّد» (من مقابلة في «واشنطن بوست»). والمركز الجديد سيزيل عن الدعاية والفيديوهات والصفحات الفايسبوكيّة أي إشارة إلى الحكومة الأميركية، وسيعمل مع الحكومات المحليّة على صياغة دعاية مُوجّهة بتحديد إلى مواطني الدولة المعنيّة. ويشارك رجال دين و«مستخدمون» على «تويتر» مثلاً في حملات دعائيّة عبر الردود والردود المضادة. والذي يبحث عن فيديوهات عن «داعش» على يوتيوب سيجد فيدوهات معدّة بعناية (سريّة) من قبل الحكومة الأميركيّة (لا ضير من دعاية ضد «داعش» لكن هل تكتفي الحكومة الأميركيّة بدعاية ضد «داعش» فقط؟ حتماً لا). والنشاط على «فايسبوك» كثيف، ومن دون أن يكون ممهوراً باسم.

إن فكرة «الحقيقة الواحدة» هي الفكرة الأورويليّة بعينها

وكان ثيودور أدورنو في دراسته عن «النظريّة الفرويديّة وأنماط الدعاية الفاشيّة» قد تحدّث عن أسلوب الدعاية الذي يُحوّل الفرد إلى مجموع: وهذا ما تريد الحكومة الأميركيّة أن تفعله. الحكومة الأميركيّة تريد أن تحوّل الفرد العربي إلى ضحيّة لما تصنّفه هي بـ«أكاذيب» أو هي تحوّله إلى ضحيّة افتراضيّة لإرهاب تكون هي أو حليفتها إسرائيل مسؤولة عنه وتحمّل مسؤوليّته لأعدائها. لكن الدعاية الأميركيّة فاقت ما فعلته الدعاية الفاشية التي تحدّث عنها أدورنو: هي حوّلت (بالاشتراك مع «الحكومات المحليّة») المجموعة العربيّة إلى مجموعات وقبائل متناحرة، وهي تعمل على جمعهم في دعاية مّوجهة بعناية لهم إلى مطيعين، مثلهم مثل طاعة المُستعمِر لمُستعمِره.
المفارقة أن الحملة ضد «الأخبار المزيّفة» تقودها وسائل الإعلام المتنفّذة في أميركا. صحف مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، التي نشرت على مدى أعوام تقارير مُسرّبة إليها من أجهزة استخباريّة غربيّة معلومات مضلّلة وكاذبة عن أسلحة دمار شامل وعن غيرها من الأكاذيب لتبعئة الشعب وراء الحرب والغزوات، ولتخويف الناس من خطط إرهابيّة يحيكها غالباً مكتب التحقيقات الفدرالي للإيقاع بأغبياء وحمقى من المرتادين إلى الجوامع، كي يُقال إن الحكومة تتصدّى للإرهاب وإنها تحتاج إلى مزيد من النفقات. والأجهزة الاستخبارية الأميركيّة، التي تتمتّع هذه الأيام بسلطة رئيس التحرير في الصحف الأميركيّة والتي تقود الحملة ضد ترامب وإدارته، هي التي تريد أن تقضي على «الأخبار المزيّفة». أي أن للمخابرات الأميركيّة القدرة على احتكار «الأخبار الصحيحة» التي تفيد المواطن وما على المواطن إلا الطاعة والإصغاء. وعندما حاولت مستشارة ترامب، كيلي آن كنوي، أن تعترض على مقولة «الأخبار الصحيحة» وأن هناك «أخبار بديلة» ثارت الصحف ضدّها واتهموها بالأرويليّة. الحقيقة أن فكرة «الحقيقة الواحدة» هي الفكرة الأورويليّة بعينها: أي أن الصحافة الأميركيّة (المتعاونة مع تسريبات سياسية من أجهزة المخابرات) تحتكر الحقيقة وتريد أن تزيل من أمام أنظاركم «أخباراً مزيّفة».
لا مثيل لما نشهده هذه الأيّام. صفحات ومواقع بأسماء مختلفة عن «التنوير» وعن «العلم» وعن «الثقافة العامّة» و«المكتبات» تملأ الصفحات العربيّة على مواقع التواصل الاجتماعي. وهي تُسرّب بين معلومات علميّة قيماً تطبيعيّة وسخرية عنصريّة من العنصر العربي، كما أنها تضخّ كماً من الالحاد الصهيوني الغربي، الذي لا يعترض إلا على دين واحد، لا غير. والشباب العربي والإعلام العربي بات يشارك في الحملة ضد «الأخبار المزيّفة» باسم الصحافة المهنيّة من دون أن يعلم، أو من حيث هو يدري (أو تدري) أن هذه الحملة تريد مصدراً واحداً عن «الحقيقة» باسم الحقيقة. لقد استُعمِرنا سابقاً باسم العلم والتنوير والحداثة، ولعل شعار الاستعمار الجديد هو «الحقيقة» و«الأخبار الصحيحة». لن تنجدنا الملاجئ من هذه الحملة.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)