«الخطّة» وحرّاسها
في كتاب «الوفرة الحمراء» تتمحور حياة أغلب شخصيات فرانسيس سبِفور، بشكلٍ أو بآخر، حول ما كان يسمّى الـ»غوزبلان» أو، اختصاراً، «الخطّة». إن كان الاتحاد السوفياتي اقتصاداً مركزياً مخطّطاً، فـ»الخطة» هي عقل هذا الاقتصاد وقلبه، والعمليّة التي يتقرّر عبرها كلّ شيء في البلد. في كلّ سنة، كان المسؤولون عن «الخطّة» في موسكو يحلّلون أرقام العام الماضي والحاجيات وأهداف النموّ، ثمّ يرسلون إلى كلّ وحدة إنتاج في الاتحاد السوفياتي (وهي بمئات الآلاف) ورقة عملٍ فيها كميّة الإنتاج المطلوبة للعام القادم والمواد الخام والموارد التي ستخصّص لهذه الشركة.

يستقبل مديروا الشركات الأوامر القادمة من موسكو ثمّ يرسلون ورقة ردٍّ، قد يطلبون فيها كوتا إنتاج أصغر أو زيادةً في الموارد والمواد الأولية. تدرس الإدارة المركزية هذه التعديلات، وتقيس أثرها على باقي عناصر «الخطة»، ثمّ ترسل مقترحاً مختلفاً. وقد يحصل هذا الأخذ والردّ ستّ أو سبع مرّات قبل أن يحلّ الربيع، وتعرف كلّ وحدة إنتاجٍ في الاتّحاد ميزانيتها وأهدافها.
هذه العمليّة المعقّدة ولّدت، بالطبع، مشاكل في الفعاليّة والتنسيق، وحالات أشبه بالكوميديا، يصف سبفورد بعضها. كأن يقوم مدير شركةٍ بتخريب آلة لإنتاج البلاستيك في معمله عن قصد لأنها من نموذجٍ قديم بطيء، وهو لن يتمكّن من تحقيق أهداف الإنتاج الموضوعة له من دون امتلاك الطراز الأحدث. فيدبّر، بغية إنقاذ حياته المهنية، «حادثاً» بالتواطؤ مع الميكانيكي لتدمير الآلة وطلب بديلٍ لها. ولكن، حين تصل الماكينة «الجديدة» من المصنع يكتشف أنّها من الطّراز القديم ذاته، وأنّ مصنع الآليات لا يورّد النموذج المحدّث. السبب؟ تبيّن أنّ «الخطّة» تقوّم هذه الفئة من الآليات بحسب وزنها، ولأنّ النموذج الحديث أخفّ وزناً من نظيره القديم، فإنّ سعره بالتالي أقلّ، والشركة التي تنتجه لا مصلحة لها في بيعه.
في الوقت ذاته، كان مزيجٌ من الاقتصاديين والمديرين والعلماء منشغلاً باستمرار في تحسين «الخطّة» ورفع كفاءتها والخروج بنظريات جديدة عن كيفية إدارة الاقتصاد الاشتراكي. حاجج عددٌ من الاقتصاديين، مثلاً، بأنّ الطريقة الوحيدة لتسهيل جريان «الخطّة» هي عبر خلق «أسعارٍ» في السّوق، تكون هي دليل الشّركات لما يجب أن تشتريه وتنتجه. ولكن كيف تقرّر أسعاراً وأنت لا تملك سوقاً رأسماليّاً، تفرض فيه الأسعار نفسها عبر العرض والطّلب؟ وكيف تخرج بأسعارٍ لكلّ سلعة أو غرضٍ في الاقتصاد السوفياتي، وهي بالملايين؟ هذا مستحيلٌ بالطبع باستخدام الورقة والقلم، ولكن الاقتصاديين لجأوا إلى علماء الكمبيوتر، الذين كانوا قد بدأوا بصناعة النماذج الأولى من الحواسيب الحديثة؛ وهذه، لو صنعت لها برنامجاً مناسباً وأدخلت إليها المعلومات اللازمة، فهي تقدر على إجراء حساباتٍ لا يمكن بشريّاً مجاراتها (وهنا أيضاً كانت هناك نظريات مختلفة، علماء موسكو كانوا يقترحون برنامجاً يحدّد في كلّ سنةٍ أسعاراً للسلع بحسب أرقام السنة الفائتة. أمّا في مختبر كييف، فقد صمّموا برنامجاً يحدّث الأسعار بشكلٍ لحظيّ ومستمرّ، فتنشر «الخطّة» كلّ يومٍ أو أسبوع لوائح سعرٍ جديدة، بحسب تغيّر العرض والطّلب).
في روسيا خروتشيف وبريجينيف، لم يكن مهمّاً بالنسبة إلى مديري الشركات أن يحقّقوا ربحاً في موازنتهم السنوية، على الطريقة الرأسمالية، بل كانت النتائج المالية أمراً ثانوياً. ملاقاة أهداف الإنتاج والنموّ كانت هي المقياس، فلو حصّلت «الكوتا» المفروضة فعليك أن تنال الحوافز والمكافآت، وتقدر على تحسين ظروف عمّالك، وتنتبه اليك النخبة في موسكو وترتقي أكثر على السلّم الوظيفي. أمّا لو فشلت، فهذا كان السيناريو الذي يؤرّق ليل المديرين السوفيات طوال السّنة. في الستينيات، ككادر إداري، أنت لم تعد تخشى (كما في أيام ستالين) أن تكون نتيجة فشلك في تحقيق الأرقام السنوية محاكمة عسكرية بتهمة «التخريب» أو العمالة، أو أن تسجن وتُعدم. ولكنّك كنت تحصل على الموازي البيروقراطي للإعدام: تُقصى عن المراتب المهمّة وتبتعد أكثر فأكثر عن موسكو وقيادات الحزب، وتخسر رتبتك وموقعك، أو قد تجد نفسك في قازان في وظيفة معاين لمواسير التدفئة. في القطارات التي تقل، نهاية كلّ عامٍ، مديري الشركات من الأرياف والمناطق إلى موسكو، لاستعراض نتائجهم مع «القيادة» وتلقّي الثواب والعقاب، كنت تعرف بسهولة من حقّق أهدافه هذه السنة ومن فشل، يكتب سبفورد. البعض يجلس في المقصورة واجمٌ أسود الوجه، كأنّه يُقاد الى سريّة الإعدام، فيما آخرون يحتفلون ببهجة ويتبادلون أطراف الحديث، ويفتحون قناني الفودكا وعلب الكافيار والجبنة والسجق طوال الطريق.

غورباتشوف والسقوط

حتّى بعد ربع قرنٍ على سقوط الاتّحاد السوفياتي، ما زالت حجّة «السّقوط» كافية لإنهاء أيّ نقاش لدى الكثيرين، وما زال البعض يعيدون علينا «اكتشاف» أنّ التجربة قد سقطت (من دون شرحٍ أو تعليلٍ أو أسباب، والإمبراطوريات البريطانية والرومانية، بالمناسبة، سقطت أيضاً وانهارت في نهاية الأمر). البعض الآخر، كما شرحنا مسبقاً، يؤطّرون النّقاش عن الاتحاد السوفياتي تحت عنوان «الفشل» (كأنّه تجربة سقطت في مرحلة التأسيس، أو بعد فترة قليلة على قيامها. هذه إمبراطورية دامت سبعين عاماً!) وسردية «القنبلة الموقوتة» هي الأكثر شيوعاً: أنّ النظام السوفياتي كان فيه، في أصله وجوهره، خللٌ عميق في الإيديولوجيا أو العقيدة أو القيادة، وهو كانت يتجه إلى السقوط في كلّ الأحوال، ولم يجرِ عام 1991 غير توكيد المحتّم.
في كتابه الجديد عن غورباتشوف والسنوات الأخيرة للاقتصاد السوفياتي، يبدأ الباحث كريس ميلر نقاشه عبر تفنيد هذه النظرة «الحتمية» لتاريخ الشيوعية في روسيا. حين تسلّم غورباتشوف القيادة عام 1985، لم يكن الوضع مثالياً، يقول ميلر، ولكنّه كان بعيداً جدّاً عن الانهيار. النموّ لم يعد كما كان في الستينيات، ولكنّه كان مقبولاً ومستمرّاً. ميزانية الدولة متوازنة ولا عجز فيها، والمواطنون يشتكون من نواقص، ولكن النظام قادرٌ على تزويدهم بحاجياتهم ورعايتهم. بحلول عام 1989، يقول ميلر، كان الاقتصاد في حالة سقوطٍ حرّ، الميزانية فيها عجزٌ هائل، لا شيء في البلد يعمل والسلع مفقودة ــ والاقتصاد الموازي أصبح بحجم الاقتصاد الرسمي. هذا لم يكن تطوّراً طبيعياً للأمور، يكتب ميلر، بل نتيجة مباشرة لسياسات غورباتشوف وتبعات فشلها.
غورباتشوف كان الرئيس الأوّل الذي درس وتخرّج في جامعة، ابن «الطبقة الوسطى» السوفياتية الجديدة. أمثال خروتشوف وأندروبوف كانوا من نتاج الحقبة الستالينية: عمّال مناجم ومصانع فقراء، تعلّموا وهم كبار في السن في خلال العمل، وارتقوا وأصبحوا مديرين وقادة. خطّة غورباتشوف لتحرير الاقتصاد الرّوسي فجأة ودفعة واحدة كانت كارثيّة، تصميماً وتنفيذاً، وتحمل إيماناً مطلقاً بفكرة «السّوق»، وقدرته على بناء نفسه بنفسه ما إن تعطي الشركات والناس فرصة البيع والشراء بحريّة. سمحت الـ»بيريسترويكا» لكلّ مصنعٍ أو وحدة إنتاج بأن يقرّر مقدار ما يصنعه ونوعيته، وأن يبيع ويشتري كما يريد هو، لا بحسب «الخطة» والأوامر المركزية. في الوقت نفسه، أبقى غورباتشوف على مساعدات كبرى لقطاع المزارع وصناعاتٍ ثقيلة أخرى تحتاج إلى دعم الدّولة، ولا يمكنها أن تتحوّل إلى سلع. كانت فكرة غورباتشوف، على طريقة الحريري في لبنان، هي أنّ النموّ السريع الذي ستنتجه «الإصلاحات» سيغطّي العجز الناتج من توسّع الإنفاق. النتيجة كانت أنّ عجز الدولة ارتفع بشكلٍ ضخم، والاتحاد السوفياتي لا يملك أسواق دينٍ لتغطيته، فأصبح يطبع العملة حتّى فقدت قيمتها ولم تعد الأسعار الرسميّة تعني شيئاً. ابتداءً من عام 1987، لو كنت تنتج أي سلعةٍ لها قيمة وعليها طلب، ولو كانت بسيطة كالحليب والخبز، فأنت لن تريد بيعه بالسّعر الرسمي إلى متاجر الدولة، بل تفضّل أن تقايض به أو تجد له شارياً بسعرٍ أعلى في السوق الموازي.
مع أنّ ميلر متعاطفٌ، بالمعنى السياسي، مع غورباتشوف ويحاول أن يجد له أعذاراً، إلّا أنّك لو أردت أن تخرّب الاقتصاد السوفياتي بشكلٍ مقصود لما تمكّنت من فعل أكثر مما فعله الزعيم السوفياتي الأخير. هذا الواقع تعكسه نظرة المواطنين الروس اليوم، الذين يصنّفون غورباتشوف كأسوأ رئيس في تاريخ روسيا (بحسب ميلر)، فيما أكثر من نصف الروس لديهم رأي إيجابي عن ستالين، وأكثر من 56% منهم يقدّرون خروتشيف. يقتبس ميلر عن إيغور ليفاتشيف، الذي كان الرجل الثاني في النظام خلال الثمانينيات، وهو يقول إنّه صدّق أنّ «بريسترويكا» غورباتشوف وفريقه كانت محض إصلاحات وتحسينات للنظام الاشتراكي، ولكنّه اكتشف سريعاً أنّ الاتحاد السوفياتي قد وقع في يد نخبةٍ شابّة نظرتها ليبرالية بالكامل إلى الاقتصاد والسياسة، وهي مصرّة على إحداث تغييرات جذرية في بنية النظام؛ مضيفاً أنّه لو عرف بذلك منذ البداية، لما ماشاهم في شيء (يشرح ميلر أن انقلاب آب 1991 لم يكن صنيعة المخابرات والأمن وحدهما، بل دعم مديرو الصناعات الكبرى وأهم المسؤولين عن الاقتصاد والقطاع العسكري والأبحاث خطّة تغيير غورباتشوف وإنهاء عهده).

أن يموت الحلم

يكتب سمير أمين أنّ خوض أيّ بلدٍ في الجنوب لمشروع استقلالي يجب أن يمرّ عبر ثلاث دوائر أو مستويات، لا يمكن تجاهل أيّ منها. المستوى الأوّل هو «حالة النّاس» بالمعنى المادّي المباشر. أوضاعهم المادية والصحية ومستوى العدالة والخدمات، وهذه مسألة مادية بحت لا علاقة لها بالوعي والسياسة. المستوى الثاني هو مجال الوعي الجماعي، وهو «محلّي» و»خصوصيّ» بطبيعته: تاريخك الاستعماري، ذلّ الهزيمة الذي يسكن ماضيك القريب، تراثك الديني، فكرتك عن الأمة والوطن، إلخ. أمّا الدّائرة الثالثة، بحسب أمين، فهي الدّولة، باعتبارها الكيان التكنوقراطي الذي يحقّق الأهداف أعلاه ويتولّى ترجمتها إلى سياسات. الدّولة هي أكثر هذه المجالات إشكاليّة، يقول أمين، لأنّ الفئة التكنوقراطية التي ستدير جهازها البيروقراطي (ولو في مجتمع ثوري أو اشتراكي) هي، بالتعريف، طبقة وسطى. مصالحها لن تتفق دوماً مع مصالح الشعب، وقد تخيفها فكرة المواجهة مع الغرب والعزلة عنه وهي، غالباً، لا تنضمّ إلى مشروعٍ يخدم الأكثرية إلّا تحت التهديد وفي غياب بديل. هذه الفئة، في الوقت ذاته، هي ضرورةٌ لا غنى عنها للمشروع القومي، فالأفكار والإيديولوجيا وإرادة الشعب لن تتحوّل إلى مؤسسات وسياسات من دون جهاز الدولة و»خبرائه».
هل كان سقوط الاتّحاد السوفياتي، إذاً، هو حالة لنظامٍ ينتج برجوازية تنقلب عليه وعلى ثقافته وترفضه في نهاية الأمر؟ قد يكون رمي المسألة كلها على غورباتشوف وأترابه تبسيطاً لتاريخٍ معقّد، ولكنّ هذا كان رأي جيان زيمين، الرئيس الصيني الذي قال عام 1990، حين سُئل عن مشكلة الاتحاد السوفياتي، إنّ مشكلة الاتّحاد السوفياتي الأساسية هي، ببساطة، غورباتشوف «وإنّ غورباتشوف خائن، تماماً مثل تروتسكي». مهما يكن، فإنّ هذا التاريخ موجود لمن يريد أن يتعلّم منه، وهو موضوعٌ أبعد من الإيديولوجيا والماركسيّة. كما يحاجج آلان باديو، فإنّ أكثر عناصر التجربة اللينينية تخاطب حاجات ومطالب وأحلام إنسانية قديمة، سبقت الماركسية بقرون وتجلّت في صورٍ كثيرة عبر التّاريخ (إمكان مجتمعٍ بلا ملكية فردية، ولا نظام عمل رأسمالي، ولا تراتبية في الكرامة والحرية بحسب القدرة المالية)، وهي لن تزول مع زوالها. بل، كما يقول الكاتب السوداني محمود المعتصم، قد يجدر بنا أن نقلب المعادلة الشهيرة التي ساقها مثقّفون عرب وغربيون بعد سقوط الاتّحاد السوفياتي: «الشيوعيّة ماتت، ولكن الماركسية لم تمت» (أي الماركسية باعتبارها نظريّة «أكاديمية»، تفسيرية). المعادلة الحقيقية التي يجب أن ننطلق منها اليوم، يحاجج المعتصم، هي أنّ الماركسية اللينينية، كإيديولوجيا ووسيلة تحشيدٍ وتثويرٍ وحكمٍ طبعت القرن العشرين، قد تكون انتهت بالفعل، ولكن الحلم الشيوعي هو الذي لم يمت.