وفي مراجعة ووتربي سخرية غير معتادة منه من كتاب ديفدسون، ويقول إن ما فيه حول تعاون الاستعمار البريطاني والأميركي ليس جديداً وإن المؤلّف لم يأتِ بجديد. الغريب أن ووتربري الذي يراجع كتب بأسلوب محافظ ومتحفّظ لا ينتقد ما يُراجع، حتى لو كانت الكتب سيّئة أو منحازة بالكامل لوجهة النظر الصهيونيّة. لكن استثارة غيظ ووتربري جاءت لأن مضمون كتاب دفدسون يحمّل الغرب مسؤوليّة كبيرة عن حالة التراجع والقمع في العالم العربي. (أعلمني ديفدسون للتوّ أن النسخة الالكترونيّة من المراجعة قد صُحّحت بعد أن أثبت الناشر لووتربري أن الكتاب يعتمد على وثائق جديدة، خلافاً لما ورد في مراجعة ووتربري).
تتحدّث الوثائق عن مؤامرات مخابرات أميركيّة وبريطانيّة منذ عام ١٩٥٤ لاغتيال عبد الناصر
وفي الكتابة عن العالم العربي، تتراوح النظريّات بين مَن يحمّل كامل المسؤوليّة لإسرائيل والغرب عن الوضع القاتم للمنطقة، وبين مَن يزعم أن جروح المنطقة وصراعاتها هي «ذات مُسبّبات ذاتيّة»، بحسب وصف فؤاد عجمي (بالانكليزيّة). والغرب (حكومات، ومؤسّسات وإعلام) يفضّل النظريّة الثانية على الأولى لأن تحميل العرب المسؤوليّة عمّا يعيشون فيه من وضع مزرٍ يُبرّئ الغرب من المسؤوليّة (لكن أحداً لا يحاول أن يربط بين صعود الهويّات العشائريّة والطائفيّة وصراعاتهم الحاليّة وبين الغزو الأميركي للعراق، ويفضّل المتخصّصون الغربيّون نسب الصراعات إلى نزاعات على مدى قرون طويلة). النظريّة الأولى ليست سائدة في الكتابة الأكاديميّة الغربيّة عن منطقتنا لأن منطق التخفيف من وطأة جرائم واحتلال وغزوات واستعمار الغرب هو السائد. وفي أميركا، مثلاً، تشدّد المؤسّسة الحاكمة أن البيض الحاليّين لا يجب أن يُحمّلوا مسؤوليّة عن جريمة استعباد السود وأن ليس هناك من آثار أو مضاعفات للاستعباد بعد عتق العبيد. طبعاً، يختلف المتحدّرون مِن أسر العبيد في وجهة النظر هذه.
كريستوفر ديفدسون هو أكاديمي بريطاني صاعد في جامعة درهام. وله مؤلّفات عديدة عن دول الخليج العربي وكان قد توقّع انهيار أنظمة الخليج في كتابه «بعد الشيوخ: السقوط القادم للأنظمة الملكيّة في الخليج». قد تكون توقّعات ديفدسون بالانهيار مبالغ فيها لما تتمتّع به أنظمة الخليج من حماية غربيّة مباشرة (طالب ترامب حكّام الخليج بدفع نفقات حمايتهم، أثناء حملته الانتخابيّة، وقال ذلك مرّة واحدة بعد انتخابه، لكن الإعلام النفطي والغازي تجاهل ذلك). وكتابات ديفدسون تزداد حدّة (سياسيّاً) وتطرّفاً (كنتُ قد قلتُ له في مؤتمر في أوسلو قبل سنوات إن كتابه عن دبيّ («دبيّ: هشاشة النجاح») لم يكن متعاطفاً بما فيه الكفاية مع الحركة العماليّة في الخليج). لكن كتاب ديفدسون الجديد يذهب بعيداً في النبش في جذور الأزمات العميقة في جسم العالم العربي، وهو لهذا يستحق أن يُنشر بالعربيّة وأن يصبح مرجعاً لدى الجيل الجديد عن الاختراق الغربي الفظيع لمنطقتنا وعن سيرة استعمار لم ينتهِ ــ وإن تغيّر ألواناً وأشكالاً.
باختصار، يرى ديفدسون أن جذور التخلّف والتراجع والجمود في العالم العربي لا تعود إلى عدم الانقياد الكامل وراء وصفات البنك الدولي وصندوق النقد (وهذا تشخيص جون ووتربري في كتابه «مصر عبد الناصر والسادات: الاقتصاد السياسي لنظاميْن») كما أن جون ووتربري (بالاشتراك مع ميلاني كيمت واسحاق ديوان وألان ريتشاردز) في النسخة الجديدة من كتابه المعروف عن «الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط» (وهو مرجع أكاديمي مُعتمَد) يشرح معايير تحليله للاقتصاد السياسي في المنطقة، فيقول إن المعايير تتلخّص في الدولة وسياساتها وفي الفاعل الاقتصادي وفي العوامل الاجتماعيّة (من مجموعات أو أفراد). أي أن دراسته للوضع الاقتصادي يتجاهل عامل التدخلات والحروب الغربيّة وليس هناك من شرح لتأثير وجود دولة الاحتلال الإسرائيلي. ويكتفي الكتاب بالتطرّق إلى السياق العالمي في الحديث عن «الاندماج والعولمة». يمكن وضع كتاب ديفدسون في نقيض هذا المنهج الكلاسيكي المحافظ.
يرى ديفدسون أن دول الغرب، وتحديداً الحكومة الأميركيّة والحكومة البريطانيّة، تقود منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية (ومن قبلها في أحيان) ثورة مضادة تحارب كل النزعات التقدميّة والتحرريّة في العالم العربي. ويعرض ديفدسون تاريخاً من التحالف الغربي مع الإسلام الرجعي. من دون الوقوع في نظريّات مؤامرة خالية من القرائن، يعتمد ديفدسون على ما أُفرج عنه وثائق ديبلوماسيّة بريطانيّة وأميركيّة لتوثيق التعاون بين الإسلام الرجعي ودول الغرب.
وهذا المنهج يهدف إلى: 1) الربط بين ما يجري من ظواهر للإسلام السياسي والجهادي في الوضع الحاضر وبين تاريخ طويل من الاستثمار الغربي (بالاشتراك مع دول الخليج) في الحركات الاسلاميّة الرجعيّة لمواجهة حركات اليسار والقوميّة العربيّة والتقدميّة. 2) يهدف هذا السياق إلى توضيح الموقف «العلماني» للغرب، من حيث قدرته على التكيّف مع الإسلام عندما يريد ومع العداء للاسلام متى يريد، وأن حالة العداء للإسلام والتحالف مع الإسلام الرجعي لا يتعارضان بالضرورة. لا تجد دول الغرب الحاليّة تعارضاً بين ما يبدر منها من عداء ضد الإسلام (كدين وكأفراد مؤمنين ومؤمنات) وبين تحالفها الوثيق مع دول إسلاميّة العقيدة (المُعلنة) أو مع تلك الدول التي تستقي شرعيّتها السياسيّة المفروضة من العقيدة الدينيّة. 3) يربط المؤلّف بين الثورة الغربيّة المضادة (ضد كل أوجه اليسار والتقدميّة) وبين تاريخ من الثورات الغربيّة المضادة حول العالم. كان وينستن تشرشل مسؤولاً عن تشكيل حركة عالميّة لمؤازرة «الحركة البيضاء» الرجعيّة ضد الثورة البلشفيّة. وحتى الولايات المتحدة أرسلت خمسة آلاف من جنودها للمشاركة في الحرب ضد الثورة البلشفيّة (يعتمد التأريخ الغربي المحافظ على وصف الحرب الغربيّة العالميّة ضد الثورة الشيوعيّة في روسيا بـ«الحرب الأهليّة»، كما هو يصرّ اليوم أن لا يدَ له في الحرب الجارية في سوريا). واعتمدت دول الغرب في حينه على قوى رجعيّة — كالعادة كما جرى في أفغانستان في الثمانينيّات، والكاتب يريد أن يربط بين هذه الفصول من الثورات الغربيّة المضادة — في حملاتها، إن في أوكرانيا أو في آسيا الوسطى. ورأت بريطانيا يومها أن تُجنّد خبراء يستطيعون أن يجروا «دعاية محمديّة» ضد الشيوعيّة، وتحالفت مع قوى أرادت تشكيل إمارات إسلاميّة تعتمد على الشريعة (ص. ٥).
وشيطنة حركات التحرّر لم تكن حصريّاً في العالم العربي. يكفي أن نراجع الخطاب البريطاني الرسمي حول حركة الـ«ماوماو» في كينيا. كانت الحركة (باعتراف الحكومة البريطانيّة في مراسلات داخليّة أُفرجَ عن بعضها) ضد القمع والاستغلال الاقتصادي والاستعمار. لكن الحكومة البريطانيّة حوّلتها إلى حركة شيوعيّة خارجيّة (وإن اعترفت سرّاً بأن لا دليل على ذلك على الإطلاق) كما أن الاستعمار البريطاني العنصري استعان بتراث عريق من العنصريّة ضد السود فصوّرَ ثوّار الـ«ماوماو» على أنهم «مجرمون يتعاطون أكل لحوم البشر والسحر وعبادة الشيطان وحفلات الجنس الجماعي وعلى أنهم أرهبوا المُستعمرين البيض ومثّلوا بالنساء والأطفال» (ص. ١٣).
والوثائق البريطانيّة التي نبش بعضاً منها ديفدسون تظهر أن الحكومة البريطانيّة كانت تنطق في العلن بما لم تكن تنطق به في السرّ. كانت تعترف سرّاً بعد الحرب العالميّة الثانيّة بأنها تجهد للحفاظ على أنظمة «رجعيّة» متخلّفة بوجه «حركات إصلاحيّة وثوريّة». وعبّر تقرير بريطاني في عام ١٩٥٢ بعنوان «مشكلة القوميّة» أن الخطر (على مصالح الاستعمار) هو في بروز حكومات «تصرّ على إدارة شؤونها بنفسها... بما في ذلك من صرف المستشارين البريطانيّين والاستيلاء على الأرصدة البريطانيّة وإلغاء الاتفاقيّات مع بريطانيا وتأميم الممتلكات البريطانيّة». (ص. ١٤) لكن الخشية البريطانيّة كانت في غير محلّها. كانت بريطانيا ترى آنذاك أنها تخوض «معركة خاسرة للحفاظ على الأنظمة الرجعيّة لكن النفوذ البريطاني ــ الأميركي ــ الفرنسي منتشر اليوم في العالم العربي، والمستشارون الأجانب لا يزالون يحيطون بكل حكّام الخليج، وكل المبادرات الفارغة التي تصدر عن حاكم دبي وعن حاكم أبو ظبي (ومن وزيرة السماح إلى مسؤول الراحة، الخ) ليست إلا نتاج أفكار شركات علاقات عامّة غربيّة تعمل لصالح السلالات مقابل مبالغ طائلة.
وفي الوقت الذي يتحدّث فيه كتاب عبدالله السناوي «أحاديث برقاش» (تنشره «الأخبار» على حلقات) عن شكوك محمد حسنين هيكل في إمكانيّة وفاة عبد الناصر بالتسمّم، فإن الوثائق البريطانيّة تتحدّث عن مؤامرات مخابرات أميركيّة وبريطانيّة منذ عام ١٩٥٤ لاغتيال عبد الناصر. نجحت القوى الغربيّة في التخفيف من وطأة أخبار ووثائق المؤامرات الغربيّة ضد بلادنا عبر زرع فكر التشكيك بنظريّة المؤامرات وتحويل كل القرائن عن مؤامرات الغرب إلى مجرّد خيال. ويشير ديفدسون إلى برقيّة من المخابرات الأميركيّة إلى لندن يرد فيها أن المخابرات الأميركيّة «على اتصال بعناصر ملائمة في مصر والعالم العربي» لاغتيال عبد الناصر. وكانت المؤامرات البريطانيّة الأميركيّة لاغتيال عبد الناصر مُنسّقة مع حركة «الإخوان المسلمين». ( ص. ١٨). وروى السفير الأميركي في مصر أن قيادة «الإخوان» أبدت استعدادها «وسعادتها» «لإزالة الضبّاط الأحرار» (لم يكن عنف النظام الناصري — المحدود نسبيّاً — ضد «الإخوان» إلا ردّة فعل على المؤامرات الإرهابيّة للتنظيم). وكالعادة، تكون العناصر الطبقيّة الثريّة ضالعة في المؤامرة: كانت نماذج النظام السابق (من كبار الملاّك والصناعيّين) مشاركة في مؤامرات فاشلة لاغتيال عبد الناصر في الخمسينيات. ولم تخفِ الوثائق الأميركيّة من تلك الفترة أن السيطرة على «الإخوان»، وتجنيدهم لم يكن يتطلّب إلا إذناً من النظاميْن السعودي والأردني (الذين رعيا واحتضنا «الإخوان» رسميّاً آنذاك). وكانت بعض الخطط البريطانيّة الفاشلة ضد عبد الناصر تتضمّن تسميم سهام وقهوة (وشكوك هيكل عن تسمّم عبد الناصر في عام ١٩٧٠ تمحورت حول إعداد أنور السادات لفنجان قهوة لعبد الناصر) وشوكولاته.
أما التدخّل البريطاني المباشر في حرب اليمن في الستينيات، فكان سرّاً عمدت الحكومة البريطانيّة إلى نفيه. صحيح أن الحكومة البريطانيّة فضّلت الاعتماد على حليفتها في الأردن والمملكة السعوديّة، إلا أن جنوداً فرنسيّين وبريطانيّين كانوا يعملون مع القبائل، بالإضافة إلى مرتزقة، في الحرب. وفي عام ١٩٦٤، كان رئيس الوزراء ألكس دوغلاس هيوم ينفي علناً أي دور بريطاني في الحرب اليمنيّة، فيما كان يأمر وزير خارجيّته سرّاً بأن «يجب أن نجعل الحياة لا تطاق لعبد الناصر عبر المال والسلاح» (ص. ٢٥). وكان بريطانيّون يقودون الطائرات السعوديّة المشاركة في القتال.
وقد كتبتُ من قبل عن الدور الإسرائيلي في حرب اليمن في الستينيات. والوثائق البريطانيّة تقول إن الحكومة البريطانيّة طلبت من الـ«موساد» بأن تشرف على عمليّة تدريب القبائل الرجعيّة المتحالفة مع المملكة السعوديّة. وأمدّت حكومة العدوّ الحكومة السعوديّة بأسلحة سوفياتيّة كانت قد غنمتها من معارك أخرى. ويضيف ديبلوماسي أميركي أن الطائرات الإسرائيليّة كانت تقوم بدوريّات فوق البحر الأحمر في إشارة إلى الحكومة المصريّة كي تبتعد عن الأراضي السعوديّة. ولا نعرف بعد الدور الأميركي المباشر في حرب اليمن لكن كان هناك عمليّات سريّة لقوّات الـ«غرين بيريه». ولم يقلّ الحماس البريطاني في المشاركة في قمع الثورة في ظفار (أصبح المرجع الأكاديمي الأوّل عن تلك الثورة كتاب عبد الرزاق تكريتي، (ثورة الـ«مونسون»)).
كانت المناشير البريطانيّة تدين خطط «الجبهة الشعبية» في تحرير المرأة وفي حظر تعدّد الزوجات
وكانت الحكومة البريطانيّة تترك ألغاماً بإشارات سوفياتيّة كي تحرّض القبائل ضد «الجبهة الشعبيّة». وفي كل تاريخ الاستعمار البريطاني والفرنسي والأميركي اللاحق، كانت القوى الغربيّة متحالفة مع عتاة القوى الرجعيّة في المجتمع العربي. وفي عُمان، كانت الحكومة البريطانيّة تستعين في دعايتها (المكتوبة بعربيّة رديئة) بالتذكير بالأفكار التقدميّة التحريّريّة للثوّار من أجل تقويض شعبيّتهم. وكانت المناشير البريطانيّة (مكتوبة بالعربيّة) تدين خطط «الجبهة» في تحرير المرأة وفي حظر تعدّد الزوجات. وكانت المناشير البريطانيّة تعد القبائل العمانيّة بأن الحكم الرجعي سيحافظ على حق تعدّد الزوجات، وتصوّر قضيّة الاستعمار بأنها «قضيّة السلطان والإسلام» (ص. ٢٩).
وكانت الحكومة البريطانيّة (كما بعد ذلك الحكومة الأميركيّة، خليفتها في الاستعمار) تدبّر أمر الخلافة في السلالات وتفضيل الشقيق على الحاكم، إذا كان ذلك في صالح مصالحها. وكان زايد بن سلطان آل نهيان يسعى دوماً لخلافة شقيقه شخبوط. وكان زايد يقول لشخبوط «عليك ليس فقط أن تسعى إلى أخذ مشورة (العميل) البريطاني بل عليكَ أن تقبلها» (ص. ٣٢). وكانت بريطانيا راضية عن الشيخ زايد الذي نصح عميلاً سريّاً بريطانياً: «على بريطانيا أن تفعل بالقاهرة ما فعله الروس لبودابست».
والوراثة الأميركيّة للاستعمار الأوروبي ظهرت في دور الحكومة الأميركيّة في الانقلاب الذي دبّرته المخابرات الأميركيّة ضد حكومة محمد مصدّق المُنتخبة. كالعادة، لجأت الحكومة الأميركيّة إلى الأكاذيب والإشاعات و«الأخبار المزيّفة» التي أتقنت حياكتها كما لم تتقن حكومة على وجه الأرض. كانت الكذبة الأولى حول علاقة مصدّق بحزب توده، لكن هذه لم تنطلِ حتى على الحليف البريطاني. وكالعادة، بدأت الحكومة الأميركيّة بتسريب أخبار أنها لن تقدّم مساعدات في حال بقي مصدّق في السلطة (وهذا الأسلوب في التهديد بهدف التأثيرعلى نتائج الانتخابات لا يزال سارياً — وتعترض الحكومة الأميركيّة بوقاحة على ما تسمّيه تدخّل الحكومة الروسية في انتخاباتها هي، لكن من دون أن تقدّم دليلاً). ووقع اختيار المخابرات الأميركيّة مبكّراً على نازي (سابق)، اسمه فضل الله زاهدي، كبديل من مصدّق. لكن «عمليّة أجاكس» انطلقت في عام ١٩٥٣، وكانت مثالاً لطبيعة التدخّل الأميركي السرّي لتعطيل انتخابات ديموقراطيّة (كما عمدت إلى الطلب من محمد دحلان في ٢٠٠٧ للانقلاب على «حماس» في غزة قبل أن تكشف «حماس» الخطة وتعطّلها). وبداية الخطّة في طهران كانت في إثارة قلاقل واحتجاجات: زعران مُشغّلون من قبل المخابرات الأميركيّة والبريطانيّة انطلقواً في الشوارع منتحلين صفة أعضاء في حزب «توده»، يهدّدون القيادات الدينيّة بالقتل في حال عدم دعم مصدّق. وكانت كل وسائل وأدوات وسيّارات وشاحنات الأوغاد هؤلاء من تمويل الحكومة الأميركيّة. وكانت خطّة الإيقاع باليسار واضحة: الأوامر كانت برمي الجوامع ورجال الدين بالحجارة أمام المراسلين الأجانب، ولوم عناصر «توده» على ذلك. أبدى المسؤول الأميركي عن عمليّة «اجاكس»، كيرميت روزفلت، إعجابه بما حصل: يمكنكَ أن تبتاع «(مظاهرة من) الغوغاء» (ص. ٥٥). ومراسل «نيويورك تايمز» في تلك الفترة كتب أن المتظاهرين كانوا يتقاطعون مع حزب «توده» ومع مصدّق. والطريف أن الذين انتحلوا صفة «توده» في الشوارع (بأمر من المخابرات الأميركيّة) هم أنفسهم الذين تظاهروا فيما بعد للمطالبة بعودة الشاه، أو للترحيب به. أما مراسل «نيويورك تايمز» فوصف ما جرى بأنه نتيجة تمرّد لعبّاد الشاه. ولم تستعن الخطة الأميركيّة بنازي إيراني واحد فقط: فقد اعتمدت الحكومة البريطانيّة على آية الله أبو القاسم كاشاني (الذي كان عمل مع النازيّين في الحرب العالميّة الثانيّة وأنشأ فيما بعد تنظيم «فدائي الإسلام»). وكاشاني كان مساعداً لخطة مواجهة متظاهري مصدّق. أما مستشارة الحكومة البريطانيّة في تلك الفترة، آن لامبتن، فقالت إن «كاشاني تلقّى أموالاً طائلة من جهة ما». لكن سفيراً للشاه كشف أن الحكومة البريطانيّة كانت تأتي بحقائب المال لتوزيعها (وهناك دليل على تمويل أميركي له أيضاً (ص. ٥٧). وسارعت الحكومة الانقلابيّة الجديد إلى تجديد عقود النفط مع أميركا وبريطانيا، وهتف الغرب لفوز الحريّة في إيران. المخطط الشيوعي تمّ دحره.
ولعاب الحكومة الأميركيّة سال في الشرق الأوسط بعد نجاح عمليّة «اجاكس». لم يكن العدوان الثلاثي العدوان الغربي الوحيد (والذي فشل بسبب مواجهة عبد الناصر الناجحة له، بل أيضاً بسبب إفهام أيزنهاور للحكومة البريطانيّة أن عهد تحكّمها بمقدّرات الشرق الأوسط بمفردها قد ولّى). فقد سعت الحكومتان الأميركيّة والبريطانيّة إلى إحداث انقلاب في سوريا في عام ١٩٥٦عبر حزب الشعب (الذي تلقّى تمويلاً أميركيّاً من أجل شراء ضبّاط في الجيش السوري)، فيما تولّت بريطانيا التفاهم مع الحكومة التركيّة على افتعال حادث حدودي لإشغال القوّات السوريّة. وتضمّنت الخطّة انتفاضة من قبل القبائل العراقيّة المّموّلة من قبل بريطانيا على أن «تتسرّب عناصر لبنانيّة من جهة الغرب» (ص. ٦٢). وتفاهمت الحكومة البريطانيّة مع «الإخوان المسلمين» في سوريا على التظاهر في عدد من المدن. وخطة الفوضى هدفت إلى إعطاء ذريعة من أجل تدخّل القوّات العراقيّة (الموالية بالكامل لبريطانيا). لكن رسالة من وزير الخارجيّة البريطاني إلى أنتوني إيدن تفضح هدفاً أبعد للخطّة (اسمها كان «عمليّة ستراغل») وهو إلحاق الدولة السوريّة بالعراق الموالي للاستعمار البريطاني. لكن فشل العدوان الثلاثي هو الذي أجهض الخطة، بعد أن حذّر إيدن من تنامي حالة العداء للغرب لدى الرأي العام العربي. لكن الأميركيّين استحدثوا خطّة بديلة لعام ١٩٥٧ (اسمها كان «الخطّة المُفضّلة») وكانت تعتمد على مظاهرات من قبل الإخوان المسلمين وتسليح لميشليات محليّة لصالح الخطة الغربيّة. لكن الخطة هذه فشلت أيضاً بعد أن سلّم عدد من مُتلقّي الأموال الأميركيّة أموالهم إلى المخابرات السوريّة وفضحوا مُشغلّيهم في السفارة الأميركيّة. كما أفصحوا عن وعد أميركي بمساعدة بقيمة ٣٠٠ إلى ٤٠٠ مليون دولار في حال وقّعت الحكومة الانقلابيّة الجديدة في سوريا معاهدة سلام مع إسرائيل. وفي هذا السياق، تدخّلت الحكومة الأميركيّة مباشرة لحماية النظام الاستبدادي في الأردن، ولحماية كميل شمعون في لبنان. لكن ثمن حماية النظام الأردني لم يكن بخساً: فقد حصلت المخابرات الأميركيّة على حق التصرّف والتحرّك كما تشاء في كل أنحاء الأردن، كما كشفت «واشنطن بوست» في مقالة في عام ١٩٧٧. ونصحت الحكومة البريطانيّة الملك حسين بالتعاون مع «الإخوان المسلمين» لمواجهة المعارضة المتنامية في الأردن.
الحروب السريّة، أو «حروب الظلال» لم تتوقّف للحظة. لا نزال نلهث ونحن نتعاطى مع كمٍّ متوالٍ من المؤامرات الغربيّة في بلادنا. لم يعد التدخّل سريّاً وأصبحت «حروب الظلال» حروباً معلنة وبأعلام أميركيّة. لكن سياق كتاب ديفدسون الضخم يربط بين مؤامرات الأمس ومؤامرات اليوم، ويكشف كيف أن الإسلام الرجعي الذي كان أداة طيّعة بيد الاستعمار الغربي تفرّع وتشظّى، إلى أن أصبح بعضه معارضاً للغرب على طريقته. لكن التحالف بين الغرب والإسلام الرجعي لم يتوقّف، لكن أشكال هذا التحالف تتغيّر في حالات تفلت فيها بعد عناصر التحالف الغربي عن السيطرة. يُقلّل العرب إلى اليوم من حجم التدخّل الغربي في منطقتنا، والاجتياحات والغزوات الغربيّة باتت تتمتّع بأسماء مُحبّبة ومُلطّفة. لكن قرناً من التدخلاّت يفصح عن حجم معضلات الغرب: كم من القرون تقتضي كي يُحكمَ الغرب سيطرته بالكامل؟ وهل أصبحت «المشكلة الشرقيّة» المستعصية عربيّة ــ إسلاميّة بالكامل؟
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)