لا تكاد لازمة «الدور الإيراني» في المنطقة تغيب عن ألسنة الإعلاميين والمحللين، سواء من الجبهة العربية التي لا تمانع، في الحدّ الأدنى، «الدور الأميركي» في المنطقة، أو الذين يحاولون أخذ شكل الحياد في التحليل السياسي والأمني، رغم أن واقع الحروب المستمرة في المنطقة لا يحتمل إلا توصيفاً منحازاً ما دامت المعارك قد فُتحت على مصاريعها في كل الجبهات.
مما لا شك فيه، أنَّ ما يحدث في سوريا والعراق تحديداً، يحتمل جرّاء السقطات والأخطاء التي يمكن أن يكون قد وقع فيها محور المقاومة بعض التشكيك في نيّات هذا المحور، الذي لا ينكر أنه لم يكن يتخيل يوماً ما أن تدور الدوائر ويجد نفسه في معركة غير تلك التي كان يخطط لها مع العدو الإسرائيلي، وفق ما تقول مصادر إيرانية، حاولت تقديم تلخيص لما حدث في السنوات الست الماضية، خاصة أنَّ الإقليم يختبر توجهات الإدارة الأميركية الجديدة.
كان، قبل تلك السنوات، شيء كثير لا يمكن أن يقال لأسباب أمنية، كالدور السوري في دعم المقاومة الفلسطينية، أو لأسباب سياسية، مثل غياب الرغبة في التصعيد ضد المملكة السعودية، رغم دور الأخيرة الواسع في «التدمير المنهجي للعراق» والعمل على صناعة نماذج جديدة من الفكر التكفيري وتطويرها، توضح المصادر. صحيح أنَّ أسامة بن لادن، الرجل الأول في تنظيم «القاعدة»، كان قد خدم الأجندة الأميركية لسنوات من حيث يدري أو لا يدري قبل أن ينتقم منه الأميركيون بسبب تغييره نهجه ويلقوا جثته في المحيط، لكنّ النتيجة الخطيرة كانت تحوّل «القاعدة» إلى منصّة للحرب ضد محور المقاومة في عدة محاور أهمها العراق، والآن هي تواصل الدور نفسه في اليمن.
عمِل الرجل الثاني في التنظيم، أيمن الظواهري، الذي جلبه صدام حسين إلى العراق في مرحلة ما، على صناعة النموذج الثاني الذي كان أكثر شرّاً على المقاومة، بل انطلق «كالوحش من قفصه» ليضرب «القاعدة» في مواجهات عدة وينافسها في أخرى، ألا وهو «داعش». ربّ ضارة نافعة، كما يرى الإيرانيون، الذين يقدّرون أنَّ الحاجة الطارئة التي دفعت إلى تكوين «الحشد الشعبي» في ردّ موضوعي على الخطر الداعشي الجيوسياسي سيخدمهم في ملفات أخرى في المنطقة... وإن لم يكن ذلك قريباً، فإنهم ــ كما يوصفون عادة ــ يرون أن «النفس الطويل» قاعدة مهمة بالعمل وسط هذه المعارك.
على النسق نفسه، لا يخفي المعنيّون بمتابعة شؤون فصائل المقاومة أنَّ الدعم الإيراني كان مدروساً وتدرّج في مراحل. فما تلقاه حزب الله بعد عام 2006 ليس كما قبله، وكذلك بالنسبة إلى المقاومة الفلسطينية التي حدث في إمكاناتها تحوّل نوعي بعد 2008 تؤكد المصادر أن ثمشة شبيهاً له بعد الحرب الأخيرة 2014.
لم تكن صعوبات النقل (التهريب) هي الأساس في هذا القرار، بل عوامل منها ما هو دولي وإقليمي، فضلاً عن العمل بقاعدة تزويد المقاومة بالإمكانات اللازمة وفق ما تحتاجه المرحلة، كما لضرورة أن يكون التصعيد تدريجياً في ظل اختلال موازين القوى لمصلحة العدوّ. هذه المرحلة، تحديداً في اليمن، شهدت تحولاً آخر، إذ فُتح لـ«حركة أنصار الله»، ما لم يتح لفصائل المحور الحصول عليه إلا خلال عشر سنوات.
تشرح المصادر أنه في سوريا ثمة «حرب كونية» تدور، لكن ما يحدث في اليمن، فضلاً عن أنَّ فيه مظلومية أعلى وأوضح، فإنه حرب دولية ــ إقليمية كبيرة، تشارك فيها أطراف عدة، وللإسرائيليين أيضاً يد طويلة فيه. وبما أنَّ الساحات متعددة، بحراً وجواً وبراً، وكان الوقت ضيقاً لإيصال ما يمكن بين سيطرة «أنصار الله» على صنعاء وبين بدء الحرب، أخذ اليمنيون استثناءً آخر.
أكثر ما شجّع على تقديم أنواع جديدة من الأسلحة، مثل الصواريخ المضادة للطائرات وللسفن الحربية وليس أخيراً ما كشف عنه من طائرات بلا طيار بأنواع متعددة، عوامل أخرى، مثل: إثبات «أنصار الله» أنها على قدر التحدي، وحفاظها على خريطة ميدانية شبه ثابتة في الشهور الأخيرة، إضافة إلى إثبات قيادة الحركة أنها تعمل بـ«نفسٍ استراتيجي». وحالياً، استجدّ دخول الأميركيين المباشر إلى المعركة، وهو ما يتطلب «إضافة نوعية» تمنع انكسار اليمنيين.
لكن، ماذا يختلف في حديث اليمنيين عن الإنتاج «المحلي الصنع»، عن حالة سابقة شبيهة في غزة أزعجت أطرافاً عدة في محور المقاومة آنذاك، إلى أن خرج المتحدث باسم «كتائب القسام» بعد الحرب، وقال ما قاله حزب الله لاحقاً: كل ما لدينا من إيران؟ تؤكد المصادر الإيرانية أنها لم توجه عتاباً في حرب غزة 2014 إلى «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس»، في هذا الشأن، وأنَّ ما دار كان حديثاً إعلامياً خارج «دوائر الصداقة والتحالف». الآن الأمر نفسه يتكرر مع اليمنيين، بل إنَّ من مصلحة طهران دولياً أن يبتعد اسمها عن الأصداء في هذا الجانب.
أكثر من ذلك، تؤكد المصادر أنها احتوت «شرخاً» كبيراً أقرب إلى «الانشقاق الداخلي» كاد يصيب «حماس» في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وكانت الأولوية الحفاظ على المقاومة أكثر من أي شيء آخر. رغم اعتماد هذه السياسة، كشفت المصادر نفسها أن «نقل السلاح إلى اليمن يجري على قدم وساق بعدة وسائل، آخرها كان النقل عبر الغواصات».
وتؤكد، أيضاً، أنَّ للصناعة المحلية دورها، خاصة أنه يصعب نقل صواريخ بالستية كبيرة، لذلك يعمل اليمنيون بمساعدة «خبرات المحور» على استصلاح ما بقي من نماذج صواريخ روسية فككت أو كانت خارج الخدمة.
هذا جزء من «الدور الإيراني» في المنطقة، كما تفصح المصادر، وهو في مجمله يصبّ في التصدي للأميركيين وللإسرائيليين، فيما ترى أنه ليست مشكلة طهران إن كانت الرياض أو أبو ظبي أو الدوحة، وعواصم أخرى، فضلاً عن تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش» ــ رغم المحاربة الأميركية الظاهرة لهما ــ قد اختارات الاصطفاف علناً أو سراً بجانب «الشيطانين الأكبر والأصغر»، إضافة إلى أن «ليس كل ما نفعله نعلنه في وقته... أو قد لا يعلن أصلاً».
هنا تضيف المصادر أنَّ خطابات مرشد الجمهورية الإسلامية، السيد علي خامنئي، تتحول تلقائياً إلى «برنامج عمل»، مشددة على تحذير الحلفاء في محور المقاومة من «الدول التي تلبس لبوس صداقة المقاومة وتضربها في الظهر».
أما عن سخرية كثيرين من التصريحات الإيرانية المتكررة بالتهديد بمحو إسرائيل عن الخريطة، فتقول إن لهذه التصريحات أهدافها السياسية في ظل عودة خطاب واشنطن وتل أبيب إلى التصعيد وكذلك الدور الأميركي المباشر الذي يريد الرئيس دونالد ترامب العودة إلى ممارسته، وحالياً من بوابة اليمن. وتضيف أنَّ «طهران عندما تتوعد بذلك، فإنها قادرة على فعله... لكن هذا لن ينفذ إلا في حال الاعتداء ــ لا سمح الله ــ على أراضي الجمهورية».
لماذا لا تحررون فلسطين إذن؟ «إذا فعلنا ذلك وقصفنا الكيان الصهيوني دون رد على اعتداء، فهل يمكن أن تتخيلوا شكل الحرب المقبلة في المنطقة؟ الوضع المنطقي والصحيح أن يحرر الفلسطينيون فلسطين، ونحن نساعدهم في ذلك. هم في المقدمة ونحن منذ عقدين وراءهم».