مسار التسوية يتقدّم ببطء شديد، متكئاً على مرجعيتي الأستانة وجنيف، بالإضافة إلى قرار مجلس الأمن 2254، ومعتمداً على رغبة القوى الدولية في التخلّص من العبء الكبير الذي تمثّله المسألة السورية.
الانفجار الذي أحدثته الأزمة في الإقليم والعالم هو الذي يدفع بهذه القوى إلى التحرّك، لا البحث عن حلّ بحدّ ذاته، فالحلّ مسألة تخصّ السوريين في النهاية، وتحوّلها إلى شأن دولي نابع من عجزهم المديد عن احتوائها بقواهم الذاتية، ومن انعدام قدرتهم على مجابهة التبعات التي سبّبها إخفاقهم في لملمة الوضع الداخلي بعد انفجار الأزمة.

حتمية التدخّل الدولي

قاد ذلك إلى تعميق البعد العسكري للأزمة على حساب بعدها السياسي، ورَبط الحلّ الذي كان في ذلك الوقت بعيداً بالكيفية التي ستنتهي إليها التدخّلات العسكرية لدول الجوار والإقليم. فشهدنا صولات وجولات كانت كلٌّ منها تنتهي بهزيمة قوىً تابعة لدولة معينة، وغالباً ما تكون هذه الدولة صغيرة وذات تأثير مالي أكثر منه سياسياً أو جيوسياسياً، لتحلّ بدلاً منها الدولة التي تملك الموقع الجيوسياسي الكبير، بالإضافة إلى القدرة على منافسة قوى الإقليم الأساسية الأخرى في سوريا، وإدامة الاشتباك معها. استمرّت مرحلة الصراع هذه حتى تدخّل روسيا في أواخر عام 2015، حيث حدث التحوّل الكبير الذي حجّم دور القوى الإقليمية المتصارعة (تركيا، إيران، السعودية) لمصلحة اشتباك تقوده قوى دولية، يتحدّد مساره في ضوء موازين القوى الجديد الذي تغيّر جذرياً وفتح لأول مرة منذ بداية الأزمة أفقاً لإنهاء الحرب في طورها الإقليمي. كان لا بدّ من حصول ذلك، لأنّ الاستمرار في الصراع بين قوىً لا تملك القدرة على الحسم كان سيقود الدولة أو ما بقي منها إلى الانهيار الكامل، وسيسمح للقوى الميليشيوية التي تملك اليد العليا بالتمدّد من الأطراف إلى المركز، والبدء باستنزاف قدرة «الدولة» على حماية البيئات الاجتماعية الباقية في البلد. أما الجرائم المصاحِبة للتدخّل الروسي، والتي سبّبت حملة دولية على النظام، وإفقاد سلطات المعارضة جزءاً من شرعيتها، فيمكن وضعها في سياق الشلل الذي تُصاب به القوى المحلّية حين تفقد السيطرة على الأمور، فيتضاعف جرّاء ذلك الاستقطاب ــ القائم أساساً ــ ويبدأ كلّ طرف في الدفاع عن عجزه تجاه القوى الدولية التي تقود الصراع وتسبّب جرائم هنا وانتصارات هناك. وفي الحالتين يعجز الطرفان عن رؤية المشهد كما هو، أي في سياق تطوّره الموضوعي وخروجه عن الإطار الذي كان يسمح لكلٍّ منهما بادعاء القدرة على الفعل، سواء لجهة قيادة العملية العسكرية لمصلحة طرف إقليمي بعينه، أو لناحية حماية الناس من القتل حين تنتقل القيادة إلى هذا الطرف الدولي أو ذاك. هذا إن لم نتحدّث عن تدخّلات أخرى كانت ستقع لو لم يحدث التدخّل الروسي وينهَر التوازن القائم حينها، فتركيا كانت في تلك المرحلة قد أنجزت بالاعتماد على حلفائها في «جبهة النصرة» وسواها عملية احتلال إدلب، وكانت تتهيأ لتصعيد المعركة في حلب تمهيداً للاستيلاء على جزئها الغربي لكي تبدأ بعدها عمليتها ضدّ الأكراد وتمنع وصل الكانتونات الثلاثة في الشمال. لكن الفيتو الذي رفعته إدارة أوباما على العملية، بالإضافة إلى تعقّد العلاقة مع روسيا بعد إسقاط الطائرة منعها من ذلك. ففضّلت بدلاً من العمل بالتعارض مع مصالح روسيا وأميركا «التنسيق معهما»، أو على الأقلّ اللعب على التناقضات في العلاقة معهما، فتقرّبت من روسيا بعد حدوث الانقلاب على قاعدة المصالح المشتركة التي تجمعهما تجارياً، وساعدها في ذلك الموقف الروسي الذي أيّد أردوغان ولمّح إلى مسؤولية الغرب والولايات المتحدة تحديداً عن رعاية الانقلابيين. وفي الوقت ذاته لم تتأثّر علاقتها بأميركا كثيراً، فبقيت ثابتة ومحكومة باستمرارية المصالح، وهذا ما سمح بتطوير التعاون معها لاحقاً على قاعدة التخلّص من إرث أوباما، والتعويل بدلاً منه على سياسة مختلفة لترامب في المنطقة. سياسة يكون الاعتماد فيها على دولة كبيرة ومؤثّرة مثل تركيا أهمّ من الاتكال على قوىً صغيرة وذات مصالح وتحالفات متغيّرة مثل الاتحاد الديموقراطي وسواه من القوى الكردية الموجودة في سوريا.

تغيير المسار

لم يغيّر ذلك المسار بنحو كامل، لكنه أضفى عليه تعديلات كبيرة، فحصلت عملية «درع الفرات» التي اعتمدت على التفاهمات الروسية ــ التركية، وانطلاقاً منها تمكّنت تركيا من انتزاع مكانٍ لها في التسوية، إلى جانب روسيا وإيران، في انتظار تبلور سياسة الإدارة الأميركية الجديدة بعد انتهاء عملية الانتقال السياسي.

شهدنا صولات وجولات
كانت كلٌّ منها تنتهي بهزيمة قوىً تابعة لدولة معينة
في هذه المرحلة كانت روسيا قد استعادت حلب ووطّدت نفسها مرجعيةً أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في التفاوض، وقد قبل الجميع بذلك على قاعدة الإقرار بدورها المزدوج في قيادة الصراع، ثم في ربطه لاحقاً بعملية سياسية فرعية تقودها هي بالاشتراك مع آخرين، ولا تكون في الوقت ذاته بديلاً من العملية الأساسية القائمة في جنيف، التي تتولّاها الأمم المتحدة برعايةٍ مما يسمى مجموعة «دعم سوريا». المزاوجة بين المسارين أفضت إلى تقسيمٍ للعمل متفق عليه بين جميع هذه القوى، فبينما استمرّت جنيف منصةً للتفاوض بين القوى التي تمثّل (نظرياً) السوريين سياسياً، تولّت أستانة برعاية مشتركة من قوى الإقليم الفاعلة جمع الأذرع العسكرية لهذه القوى، لإرغامها على تثبيت ومراقبة وقف إطلاق النار الذي كان الاتفاق بشأنه قد حصل بين روسيا وتركيا في نهاية شهر كانون الأول من العام الماضي. في هذه المرحلة أيضاً بدأت تتبلور ملامح سياسة جديدة لأميركا في المسألة السورية، لكنها لم تصل إلى حدّ صياغة تصوُّر كامل لها، وجرى الاكتفاء بإطلاق تصريحات متفرّقة عن المناطق الآمنة التي يجب إقامتها ولكن من دون تحديد مكانها أو الآلية المتبعة لإنشائها، بالإضافة إلى ظهور ملامح تقارب مع الأتراك، ولكن أيضاً من دون اتضاح ما إذا كان هذا التقارب سيكون على حساب التحالف مع الأكراد أو لا. وفي هذه الأثناء كانت معركة الباب التي تُعَدّ انعكاساً مباشراً للاتفاق الروسي ــ التركي تزداد تعقيداً، وتقترب من التحوّل إلى بؤرة فعلية للصراع على النفوذ بعد إخراج «داعش» منها. فقوّات «درع الفرات» التي تدعمها تركيا سيطرت كلياً على المدينة، ولكنها سيطرة تضعها على تماس مع قوّات الجيش السوري الذي يتمدّد في الجنوب والجنوب الشرقي من المدينة على حساب «داعش»، ولا يكتفي بذلك، بل ينسّق أيضاً مع المجلس العسكري لمدينة منبج، ويتفق معه على تسليمه من دون قتال بعض القرى في غرب المدينة للحيلولة دون تمدّد قوات «درع الفرات» إليها كما هدّد أردوغان أكثر من مرّة إثر الانتهاء من عملية السيطرة على الباب وإخراج «داعش» منها. الجديد هنا ليس الاتفاق بين الروس والأتراك على تقدُّم متزامن لكلٍّ من قوات «درع الفرات» والجيش السوري باتجاه الباب (اتُّفق على أن تكون بلدة تادف هي خط الفصل بين القوتين)، بل معاودة التنسيق بين القوات السورية والأكراد (عبر مجلس منبج العسكري الذي تقوده «قوات سوريا الديموقراطية») بعد الخلافات الحادّة التي اندلعت بين الطرفين إثر اشتباكات الحسكة في العام الماضي. هذا لا يعقّد الصراع على الأرض فحسب، بل يربطه أيضاً بالتحالفات السياسية التي تتغيّر باستمرار، وتقود في كلّ مرحلة من مراحل تغيُّرها إلى إعادة صياغة الاتفاقات بما يتناسب مع التطورات الميدانية. آخر هذه التطوُّرات محطتا الباب ومنبج، وبعدهما الرقّة التي يتسابق الجميع للوصول إليها، لكونها ستضع حداً نهائياً لسلطة «داعش» في سوريا، ليبدأ بعدها التفكير في مرحلة ما بعد التنظيم، وما إذا كانت ستقاد بنفس التحالفات السابقة أو بسواها.
* كاتب سوري