استنفر العالم في وقتنا الحالي لمواجهة «داعش». وضعت الخطط وأنشئت التحالفات الدولية لشن غارات على مراكز نفوذه وامتداده في كل من سوريا والعراق. صرف المال الخليجي لتمويل الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة والاوروبيون بمشاركة عربية خليجية، أياً تكن الفاعلية والاثار المتوخاة من هذه الضربات ومدى جدية واشنطن وحلفائها في القضاء على هذا التنظيم الذي تمدّد بشكل مفاجئ في مساحات واسعة، فإن نظرة معمّقة في تاريخ المنطقة التي ظهر فيها فكر «داعش»، كفيلة بكشف بعض من الوقائع التي قد تكون قد غابت أو غيّبت عن المواطن العربي.
بين عامي 1912 و1926 استحدث عبد العزيز آل سعود المئات من الهجرات في الجزيرة العربية، وطّن فيها عشرات الآلاف من البدو، واوعز الى علماء الوهابية في ذلك الوقت بأن يعكفوا على زرع الأفكار الدينية لدولته الحديثة، التي كان قد استتبّ لها الأمر في معظم مناطق نجد والعين على باقي ارجاء الجزيرة العربية. قام الدعاة الوهابيون بنشر افكار محمد بن عبد الوهاب وتدريس كتبه بين افراد البدو الذين تم افهامهم انهم انما يهاجرون في سبيل الله وجهاد الظالمين تحت لواء السلطان عبد العزيز، الذي ارسله الله ليحكم بما انزل ويقيم العدل ويهدم اركان الشرك في جزيرة العرب. أولى تلك الهجرات واكبرها عرفت بالهجرة الأرطاوية، ثم تبعتها هجرات الغطغط، ساجر، الداهنة، الصرار، الاجفر وغيرها العشرات، حتى بلغت عام 1926 نحو 200 هجرة.
مفهوم الهجرة في
سبيل الله والجهاد ضد أعداء الدين أعيد استحضاره

أشرف الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ (حفيد ابن عبد الوهاب) على التوجيه الديني للكتائب التي تجندت في الهجرات، فأخذ يفتي بكفر خصوم عبد العزيز، وأبرزهم آل الرشيد والاشراف في الحجاز، فصدر الحكم بالجهاد ضدهم ليقود عبد العزيز جيشاً من عشرات الآلاف من البدو الذين عرفوا وقتها «باخوان من طاع الله» (وهم لا علاقة لهم بتنظيم الاخوان المسلمين في مصر).
بعد هزيمة آل الرشيد في حائل على يد عبد العزيز آل سعود في بداية عشرينيات القرن الماضي واتجاهه الى الحجاز عام 1926 وانتصاره عليهم، كان تعداد جيشه قد بلغ نحو 200 مقاتل من الاخوان. أصبحت ممارساتهم في ما بعد تثير قلق البريطانيين الذين كانوا يوجدون في الكويت والعراق والأردن، وقد كتب الشريف حسين عام 1918 إلى القائم بعمل المندوب البريطاني في جدة، يناشده قائلاً: «ومن ثمّ، فإن ما يقلقني قبل أي شيء آخر، هو أن صاحب جلالة الملك البريطاني، ينبغي أن يجبر الأمير عبد العزيز، على إلغاء وتسريح، ذلك التنظيم الذي يطلق عليه اسم (الإخوان)، تلك الجمعية السياسية التي ترتدي عباءة الدين». وفي الارشيف الوطني البريطاني نجد تقريراً كتبه ممثل بريطانيا السياسي في الكويت هارولد ديكسون في 2 سبتمبر/ أيلول عام 1929 يقول فيه: «الإخوان تأسست من ناحية أخرى على يدي ابن سعود، لتخوض له معاركه، وتنتصر فيها باسم الدين، ونظراً لأنهم كانوا إخواناً وتستعر داخلهم جذوة الدين، فقد أصبحوا بحق لا يقهرون، ويمكن تشبيههم بمدرعات كروميل، أو قوات العاصفة الألمانية».
وذكر جون فيلبي (مستشار ابن سعود) في مذكراته قولاً لعبد العزيز حول الاخوان: «إنه يكفي أن أصدر النداء، ليهبَّ للقتال تحت رايتي ألوف، من بيشة إلى نجران، ومن رنية إلى تثليث، ليس فيهم من لا يحب الموت في سبيل العقيدة، وكلهم يؤمنون بأن الفرار من الزحف يدخلهم النار».
وعلى غرار ما تقوم به الحكومة السعودية في وقتنا الحاضر في اشتراكها في التحالف الدولي ضد «داعش» في استشعار لخطر هذا التنظيم، كذلك كان عبد العزيز المؤسس قد استشعر خطر الاخوان على حكمه، فبعد تمرد ابرز قادتهم وهم فيصل الدويش، سلطان بن بجاد، نايف بن حثيلين وصاهود بن لامي، اصدر علماء الوهابية فتوة تكفير الاخوان ومما جاء في الفتوة: «وأما قول السائل، إنهم (أي الإخوان)، يرون أن جميع المسلمين وولي أمرهم، ليسوا على حق، فهذا من ضلالهم، ومن الأسباب الموجبة لكفرهم، وخروجهم من الإسلام… أما من أجاب دعوتهم، وساعدهم من أهل نجد، فحكمه حكمهم، يجب على جميع المسلمين قتاله وجهاده، وأما من أبى عن جهادهم، وادّعى أنهم إخوان له، وأنهم على حق، فهذا حكمه حكمهم».
اتفق عبد العزيز مع البريطانيين على انهاء ظاهرتهم وكرد فعل بريطاني على غارات الإخوان على الكويت وجنوب العراق والاردن، قام سلاح الجو الملكي البريطاني بالعراق بمهاجمة الإخوان في 19 فبراير/ شباط عام 1928 على مدى ثلاثة ايام وخلال العمليات تمكن الإخوان من إسقاط إحدى الطائرات وقتل قائدها البريطاني، بعدها استمرت مناوشات عبد العزيز مع الاخوان حتى استطاع ان ينهي ظاهرتهم في معركة السبلة في 29 مارس/ آذار عام 1929.
ظاهرة «اخوان من طاع الله»، وان كانت قصيرة فهي كفيلة بجعل الباحث يستشرف جذور مشروع الايديولوجيا الدينية عند السعوديين مع بداية تأسيس مملكتهم الثالثة، فهم سيطروا على الجزيرة العربية وقضوا على منافسيهم مستخدمين الافكار والعقيدة الدينية الوهابية، وبعد ان استقر الأمر وسيطر ابن سعود سيطرة كاملة على كل المناطق التي استحلها بسيف الاخوان، انتهى الدور الذي اراده عبد العزيز لهذه الظاهرة، فكان الاتفاق بينه وبين الاستعمار البريطاني آنذاك على القضاء عليهم، وقد اثبت السعوديون انهم جاهزون في كل وقت لاعادة استحضار فكرة الحشد تحت شعار الدين، للحصول على مكاسب سياسية وعسكرية لهم او للغرب، وافغانستان خير دليل على ذلك، فالدعم السعودي المادي بالمعسكرات والسلاح والمقاتلين المجندين من كل الدول العربية بالتنسيق مع الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي فعل فعله في افغانستان، وفرّخ مدرسة فكرية قائمة على التكفير والارهاب واستخدام الاساليب الوحشية في ارهاب من يعارضها او يقاتلها، ارتدّت على منطقتنا وبالاً اسمه تنظيم القاعدة، اعيدت صياغته ليصبح «داعش» الذي وجد فرصة لا يمكن تعويضها في التكاثر والاستقطاب في سوريا بعد اندلاع الازمة فيها ليتمدد الى العراق ويهدد كل دول المنطقة. فمفهوم الهجرة في سبيل الله والجهاد ضد اعداء الدين اعيد استحضاره ليستقطب من كل بقاع الارض عشرات الآلاف، ليؤسس بنظره دولة الخلافة التي ستحكم بما انزل الله، والسبب في ذلك يعود الى المسبب بظهور نواة تنظيم داعش «دينياً وعقائدياً على الاقل» (تنظيم الدولة الاسلامية في العراق)، وهو فكر استمر في الظهور عبر القرون الثلاثة الماضية وإن بأسماء مختلفة كلما استدعت الحاجة، ليملأ الارض تكفيراً وذبحاً وقطعاً للرؤوس وتمثيلاً بالجثث وافساداً لعقول الشباب باسم الدين.
* صحافي لبناني