عندما انتخب شكري القوتلي رئيساً للدولة السورية من قبل البرلمان عام 1955 كان ذلك كسراً للقاعدة السورية: «من يخسر لا يعود لمركزه السابق ولا ينجح»، بعد ست سنوات من إطاحة حسني الزعيم به في أول انقلاب عسكري سوري.
حكمت هذه القاعدة الملك فيصل بن الحسين الذي خسر إثر (معركة ميسلون) حكم دمشق عام 1920، وقد حاول بعد توليه في العام التالي حكم العراق هو ومن خلفه من الهاشميين في بغداد حتى عام 1958 العودة إلى حكم دمشق تحت شعار «الهلال الخصيب» من دون نتيجة. لم يستطع القوتلي الاستمرار في منصبه وذهب تحت ضغط العسكر وحزب «البعث» وسلم عاصمة الأمويين لعبد الناصر عام 1958.
كان الظن بعد هزيمة (جماعة «الإخوان المسلمين» في سورية) في أحداث 1979 ــ 1982 بأنها لن تستطيع تصدر المشهد السياسي السوري المعارض ثانية، وبأنها قد فقدت حظوظ الوصول إلى السلطة: عندما قدمت الجماعة وثيقتي «ميثاق الشرف الوطني» و«المشروع السياسي لسوريا المستقبل» بعامي 2001 و2004 كان هناك ترجيحات في المعارضة السورية اليسارية بأن «الإخوان» قد استخلصوا دروس هزيمة حماة عبر البعد عن نزعة العسكرة وأنهم في اتجاه نحو الإيمان بالتعددية الفكرية ــ السياسية. شاركت الجماعة في تأسيس «إعلان دمشق» مع طيف واسع من المعارضة السورية في 16 تشرين أول 2005 ولكنهم من دون أن يطلعوا حلفاءهم قاموا بقفزة مفاجئة في شباط 2006 عبر الاتفاق مع نائب الرئيس السوري المنشق عبد الحليم خدام لتأسيس تحالف سياسي جديد، ثم من أجل خلع هذا القميص الجديد ونحو محاولة الاتفاق مع السلطة السورية، عبر جهود من رجب طيب أردوغان وخالد مشعل، استغلوا حرب غزة وأعلنوا «تجميد نشاطهم المعارض» في كانون الثاني 2009. لما فشلت تلك المساعي قام «الإخوان» بخلع القفازات الناعمة التي كان يمثلها المراقب العام للجماعة علي صدر الدين البيانوني وانتخبوا قيادة متشددة من حمويين ثلاثة: رياض الشقفة مراقباً عاماً، وفاروق طيفور نائباً للمراقب العام، ومحمد حاتم الطبشي رئيساً لمجلس شورى الجماعة، أثناء اجتماع في آب 2010 جرى في تركيا، وهم ثلاثتهم تلاميذ لمروان حديد وسعيد حوى اللذين نظرا للسلاح المعارض الإسلامي في السبعينيات.
على الأرجح كان هذا الاجتماع في تركيا مؤشراً على غيوم اعترت العلاقات التركية ــ السورية التي بدأت في عام 2004 بأجواء جديدة لم تشهدها علاقات دمشق وأنقرة منذ عام 1946.عندما انفجر الوضع الداخلي السوري مع درعا في 18 آذار 2011 كان الكثير من المعارضين تتملكهم الخشية من أن يحاول «الإخوان» أو «السلفيون الجهاديون السوريون» الذين برزت قوتهم في عراق ما بعد التاسع من نيسان 2003، أسلمة الحراك السوري المعارض واقتياده إلى السلاح. زادت هذه الخشية عندما كان الإسلاميون، وتابعوهم من «الليبراليين الجدد»، وراء فشل تشكيل «جبهة عريضة معارضة» من خلال محادثات جرت حول وثيقة حوارية للمعارضة وضعت في التاسع من أيار2011 ثم كانا، أي «الإخوان» و«اعلان دمشق»، وراء فشل محادثات الدوحة في الأسبوع الأول من أيلول 2011 مع «هيئة التنسيق» لما أصرّا في الوثيقة التي تم التفاوض حولها على رفض تضمين أي كلام يتضمن «رفض العنف المعارض ورفض التدخل العسكري الخارجي».

منذ عام 2013 كان واضحاً غروب شمس الأصولية الإسلامية الإخوانية

في تشرين أول 2011، وبعد أيام قليلة من تشكيل «المجلس الوطني السوري» في الثاني من ذلك الشهر في اسطنبول، أخذ مجلس شورى جماعة «الإخوان المسلمين» في سوريا قراراً بالعمل المسلح مثل قرار مشابه أخذه مجلس شورى «التنظيم العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا» في نيسان 1979 أي قبل مجزرة مدرسة المدفعية في حلب، يوم 16 حزيران 1979 والتي نفذها تنظيم الطليعة لجماعة «الإخوان» قبل أن يتحد مع «التنظيم العام» و«تنظيم الطلائع الإسلامية» بقيادة عصام العطار في «مؤتمر الوفاق» في كانون أول 1980. يبدو أن القراءة الإخوانية كانت بأن دمشق لن يتكرر بها سيناريو تونس 14 كانون الثاني 2011 والقاهرة 11 فبراير 2011 عندما الشارع أسقط الحاكم، بل يمكن أن تكون هناك «محاولة سورية» لتكرار السيناريو الليبي عندما قاد «العنف المعارض» ضد القذافي إلى استجرار التدخل العسكري الخارجي لحلف «شمالي الأطلسي». كان فاروق طيفور في خريف 2011 هو المتحكم بالمال القطري والموزع له تحت رعاية تركيا وكان هو الذي يجبر التشكيلات العسكرية المعارضة، وخصوصاً للمنشقين عن الجيش السوري النظامي، على أسماء إسلامية لهذه التشكيلات وعلى الانضواء تحت أجندات الإسلاميين.
لم يتحقق السيناريو الليبي في سوريا وقد طالب رياض الشقفة بمؤتمر صحافي يوم 18 تشرين ثاني 2011 بتدخل عسكري تركي في محاولة لوضع أردوغان في سوريا بموضع كأنه ساركوزي في ليبيا قبل أشهر (تحت قيادة من الخلف أميركية وفق تعبير أوباما). يبدو أن الفيتو الروسي في مجلس الأمن يوم الرابع من تشرين الأول 2011 ثم إرسال قطع الأسطول الروسي للبحر الأسود إلى طرطوس بعد أسبوع من طلب الشقفة قد منعت ذلك. كانت الأجواء تقول بقرب وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في تونس والقاهرة. بعد ثلاثة أيام من صدور «بيان جنيف1» في 30 حزيران 2012، وهو اليوم نفسه الذي تولى فيه محمد مرسي السلطة المصرية، رفض فاروق طيفور عرض ناصر القدوة، نائب المبعوث الدولي كوفي عنان إلى سوريا، بإدراج قبول مؤتمر المعارضة السورية المنعقد في القاهرة في الثاني والثالث من تموز 2012 في بيان جنيف في نص بيان المؤتمر الختامي، وقد شهد تموز 2012 ذروة الجهد العسكري الإسلامي مع سقوط شرق حلب ومع محاولة لاختراق قلب مدينة دمشق عبر هجوم من الغوطة الشرقية تزامن مع تفجير مكتب الأمن الوطني أثناء اجتماع خلية الأزمة في يوم 18 تموز.
كان واضحاً من تدويل الأزمة السورية، ودخول موسكو على خط الدفاع عن السلطة السورية: قال لافروف أمام وفد من هيئة التنسيق في نيسان 2012: «نحن ندافع عن موسكو في دمشق» ــ بأن الموجة الإخوانية ستنحسر في دمشق بعد مدها القوي وتسيدها السلطة في تونس والقاهرة ومشاركتها بالسلطة في صنعاء وطرابلس الغرب، وهذا ليس فقط بحكم الرفض الروسي لتلك الموجة بل أيضاً بحكم الرفض السعودي لتلك الموجة الإخوانية التي كان يتزعمها أردوغان، حيث لم ينسَ آل سعود مصير الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى التي دمرها محمد علي باشا الحاكم المصري عام 1818 بأمر السلطان العثماني. انضمت واشنطن، بعد قبول منها بالموجة الإخوانية إثر سقوط حسني مبارك يوم 11 شباط 2011، إلى رافضي ونابذي تلك الموجة الإخوانية إثر قتل الإسلاميين الليبيين للسفير الأميركي في ليبيا في بنغازي يوم 11 أيلول 2012، وهو ما حكم مصير «الإخوان» بالسقوط في القاهرة وتونس عام 2013 ونزع الملف السوري من أيدي تركيا وتسليمه الى روسيا منذ اتفاق السابع من أيار 2013 في موسكو بين كيري ولافروف.
منذ عام 2013 كان واضحاً غروب شمس الأصولية الإسلامية الإخوانية وبداية تصدر «السلفية الجهادية» للمشهد الإسلامي السوري: كان هناك تنظيمات في الوسط بين «الأصولية» و«السلفية الجهادية»، مثل «لواء التوحيد» و«أحرار الشام»، ولكن كانت تنظيمات «السلفية الجهادية»،مثل «جبهة النصرة» (الفرع السوري لتنظيم القاعدة) و«داعش»، هي الأقوى عسكرياً، وهذا ما جعل الرايات السود متصدرة للعمل العسكري السوري المعارض، وعندما جاء القرار الدولي 2170 في يوم 15 آب 2014، أي بعد شهرين من سقوط الموصل بيد «داعش»، كان واضحاً بأن المجتمع الدولي، وبالذات في الغربين الأميركي والأوروبي، قد أصبح يرى التناقض الرئيسي مع (الرايات السود) التي ضربته في نيويورك 2001 ومدريد 2004 ولندن 2005، وليس مع السلطة السورية.
كانت حلب كانون الأول 2016 هزيمة ثانية للإسلاميين السوريين بعد هزيمة حماة شباط 1982 تلقاها السلفيون الجهاديون بعدما سبقهم إلى ذلك قبل ثلث قرن الأصوليون الإخوانيون: ألن يكون مصير الإسلاميين السوريين في «مرحلة ما بعد حلب» مثل مصير شكري القوتلي بعد فشل الوحدة السورية ــ المصرية وحصول انفصال 28 أيلول 1961؟
* كاتب سوري