على جناح الإثارة انطلق، مدعوماً بشروط الانتشار: محتوى مدهش، و"مرجعيّة" وازنة، وحماسة الناشرين. كان مبتدأ أمره عامَ 2003 حينما أعطي الخبر صفة "عاجل" عبر وسائل النشر الإلكترونيّ، ونسب إلى "ناسا" وكالة الفضاء الأميركيّة، وفحواه أنّ الأرض ستحظى بقمرين، ثانيهما هو المرّيخ الّذي سيكون في أقرب نقطة له بالنسبة للأرض في موعد محدّد قريب. لم يكن الخبر عديم الأصل، لكنّ قدراً لا بأس به من "التشويق" سمح بحذف بعض المعطيات: قال الخبر (الحقيقيّ) الّذي أوردته مواقع علميّة متخصّصة حينها (لم تكن "ناسا" بينها) إنّ النظر إلى المرّيخ في ذلك الموعد (عبر تلسكوب لا بالعين المجرّدة، بمستوى تكبير يبلغ 75 مرّة) سوف يُظهر المرّيخ مثل قرص القمر في سمائنا.
أمّا الخبر الّذي أشيع وانتشر عالميّاً فقد أسقط ذكر التلسكوب، كما أنّ صفة "عاجل" ظلّت ملازمة له طوال عقد من الزمان، أي رغم أنّ المريخ كان قد غادر موضعه الأقرب إلى الأرض. بطبيعة الحال لم يكن أحد، سوى المتخصّصين، ليعبأ بالرجوع إلى موقع "ناسا" للتثبّت من الخبر، بل إنّ النظر إلى السماء لمشاهدة "القمرين الواقفين بالباب" لن يحظى بـ "متطوّعين" يطلبون البرهان رغم وفرة من صدّق الخبر مندهشاً!
علم مثل الفلك ازدهر في تاريخنا، فكيف يظلّ مسموحاً بسيطرة اتجاه يقدّس الحرفية

يمكن القول إنّ الأمر ليس خطيراً، وهو ليس كذباً محضاً، فهو متعلّق بـ "مجرّد مبالغة"، ولو أنّها مبالغة ضاعفت الحقيقة خمساً وسبعين مرّة! ولعلّه من الممكن تفسير إطلاق هذه الصيغة للخبر بمجرّد الحاجة إلى التشويق "الصحافيّ"! لكنّ "طلوع الشمس من مغربها" يحتاج إلى تفسير يتعدّى مسألة التشويق هذه.

الخرافة المقدّسة

الخبر، هذه المرّة، متعلّق برؤية الشمس من سطح المرّيخ، وهو أمر –حتّى لو صحّ توصيفه - لن يهمّنا نحن، عمومَ الناس، إذ ليس بإمكاننا معاينته بما أنّنا ما زلنا من سكّان الأرض، ولكنّ مصطنِع الخبر يجعلنا معنيّين فعلاً.
الحقيقة الفلكيّة تقول بأنّ الكواكب تختلف في سرعة دورانها حول الشمس، وينجم عن هذا – ظاهريّاً - أن نرى المرّيخ مثلاً يتوقّف، في لحظة معيّنة، عن الحركة قبل أن يأخذ في التراجع للخلف! المسألة يعرفها أهل الفلك، لكنّ هناك من سمح لنفسه بالزعم أنّ الكوكب غيّر مساره فعلاً، واستنتج – دون رابط سببيّ - أنّ الشمس صارت تشرق عليه من الغرب. الخطأ الفادح متعلّق بجهل حقيقة يعرفها تلاميذ المدارس، فمسار الشمس (الظاهريّ في السماء) ناتج عن دوران الكوكب حول نفسه، أي أنّه وبفرض حصول أمر خارق أدّى إلى تغيير مسار الكوكب (أيِّ كوكب) حول الشمس فإنّ اتّجاه شروق الشمس واتّجاه غروبها لن يتأثّرا. لم يُكتَفَ بالتلاعب بصيغة الخبر العلميّ المتعلّق بالمرّيخ نفسه، إذ تمّ تطوير الرواية لتُسقَط على الأرض، فقد قيل إنّ هذا مقدّمة لتحقُّقٍ قريب لـ "طلوع الشمس من مغربها" في سمائنا، أي تحقّق العلامة الدالّة على اقتراب القيامة حسب الحديث النبويّ.
تحظى الخرافة "العلميّة" هنا بمسحة قداسة، وإن كان التثبّت في مثل هذه الحكاية عسيراً بالنسبة لبعض الناس، دون اللجوء إلى مختصّ، فإنّ السؤال المنطقيّ (مجرّد السؤال) يبدو غائباً إزاء "ظواهر" لا بدّ أن تثير السخرية وفق الحسّ السليم.
الدهشة المتسربلة بروح "القداسةِ" الممزوجةِ بالعلم المصطنع، تغيّب سؤال العقل البسيط، وتحيّد فعل التفكير إلى درجة التعطيل. وحتّى لو خلا الخبر من أيّ زعم علميّ، فإنّ الحاجة إلى "معجزة" تمهّد الطريق لتصديق ما لا يصدّق: زعم خبر انتشر عبر رسائل الأجهزة الخلويّة أنّ مسجداً في إحدى الولايات الأميركيّة انطلق فيه الأذان دون مؤذّن، وذلك بعد أن منعت السلطات هناك إطلاق الأذان عبر مكبّر الصوت. وقد أُرفق الخبر بصورة المسجد المفترَض فيما اعتُبر دليلاً عيانيّاً على صدق الخبر! لم تتساءل الجموع الغفيرة من متناقلي الخبر ما إذا كانت صورةٌ لمسجد تدلّ بذاتها على أنّ شيئاً خاصّاً وقع في هذا المسجد! الجموع بحاجة إلى معجزة، وبما أنّها معجزة تثأر من خصم تاريخيّ فإنّها ستغدو حلّاً مناسباً في الانتصار للذات الجريحة، ولا داعيَ، بعدُ، لتفحّص حقيقة "المسكّن"!
هذا عند المتلقّي، فماذا عن الناشر الأصليّ؟
توالي انتشار مزاعم مثل هذه يشي بما هو أكثر من "سذاجة" البسطاء، فكلّ انتشار لا بدّ له من نقطة انطلاق، وشيءٌ من التمحيص يوصل إلى نتيجة مفادها أنّ اختلاق الوقائع من هذا النوع أمر مقصود. ثمّة آلة دائبة تعمل على "اختراع حقائق" تخاطب نوازع الجمهور، أو تعمل على إنامته وتخدير وعيه.

في اصطناع القمر

لن يَعدِم كشف الوعي الزائف في الأمثلة السابقة احتفاءً لدى فئات متباينة من المتلقّين الناقدين، يختلفون في دوافع نقدهم، وأسلوب قراءتهم للظواهر الاجتماعيّة: فهناك من يهوى شتم "الشعب المتخلّف والأمّة الرجعيّة"، وهناك من يأسى غاضباً لـ "تفشّي الجهل وبؤس نواتج التعليم"، وهناك من يحيل "تردّي مستوى الوعي" لأنظمة بعينها.
في الأمثلة السابقة كان المنفعلون بالأخبار/ الإشاعات المغلوطة جمهوراً عامّاً مشتّتاً لا يمكن حصره، وكان الفاعلون مطلقو "الأخبار العلميّة/ الإعجازيّة" مجهولين أيضاً، ساعدت في تجهيل شخصيّاتهم تقنية الاتّصال الحديث لا سيّما الوسائل الإلكترونيّة واسعة الانتشار. كان الفعل والانفعال "غير مسؤولين" أي أنّهما جماهيريّا الطابع.
ولكنّ المثال التالي لا يمكن أن يدخل ضمن هذا التصنيف:
يأتي الرجلان المسلمان البالغان الراشدان ويقسمان على رؤية الهلال، فيعلن القاضي الشرعيّ في الدولة الخليجيّة الكبرى ثبوت دخول رمضان، وخلال دقائق تعلن معظم دول الخليج العربيّ تباعاً الإعلان ذاته، وفيما تصوغ إعلانات رسميّة في دول عربيّة أخرى الإعلان الشرعيّ بناء على "رؤية" الغير، تختار دولٌ ثانية ادّعاءَ ثبوت الرؤية الفعليّة من أراضيها.
ليس مهمّاً أنّ الرصد الفلكيّ يقول بعدم إمكانيّة الرؤية، إذ يكفي أنّ هناك من أقسم على أنّه شهِد! بل يكفي أن "يزعم" ذو سلطة شرعيّة أنّ هناك شاهداً (ولو أنّ التمحيص والتقصّي لم يوصل إلى الشاهد المزعوم حتّى وإن كان كاذباً) كما حدث في شقيقة كبرى أخرى!
هذه ليست حكاية للتسلية، ولا روايةً على عهدة رواة المجالس هواةِ القصّ والسرد، هذا ملخّص لواقعة تكرّرت على نحو مريب، وأثبتتها سجلّات الرصد الفلكيّ وعلمائه وخبرائه على مدى سنواتٍ آخرُها ليس ببعيد.
في الأمر دهشة غاضبة تندلع موسميّاً، وسرعان ما تنطفئ، فالأمر، في النهاية، ليس مرتبطاً بأثر "حيويّ" ملموس النتائج في حياة الناس، لكنّ الدهشة الّتي يولّدها السؤال الفارض نفسَه لا تلبث أن تتحوّل إلى صفعة: أليس شأنٌ كثبوت رؤية الهلال أمراً يمكن حسمه بوسائل القياس الحسّيّ؟! أليس هذا الشأن من الحالات القليلة الّتي لا يحتاج فيها البشر إلى التأويل والتحليل وتقليب وجهات النظر، وبالتالي ألا يمكن، ببساطة، كشف الكذب الصريح هنا؟!
فهذا إعلان لا يصدر إلّا عن سلطة محدّدة بإمكانها التثبّت والتحقّق لو أرادت، واستنكافها عن التحقّق بالوسائل القاطعة الدلالة (وهي متوفّرة) لا يمكن إلّا أن يثير الغضب والمرارة: المنظومة المهيمنة فكريّاً في بلد مثل المملكة السعوديّة لم تزل على تحجّرها حتّى في ما ثبت قصوره وفواته. والمفارقة هنا أنّ علماً مثل الفلك قد ازدهر في تاريخنا القديم، أي أنّ "السلف" من أهل الاختصاص أخذوا بأسباب العلم في التثبّت ممّا يخصّ الهلال، فكيف يظلّ مسموحاً سيطرة اتّجاه يقدّس الحرفيّة وقد خرجت عن مقصد الحكم الشرعيّ؟!
ثمّ إنّ سؤالاً كبيراً آخر لا بدّ أن يطرح نفسه عن التسليم لهذه الهيمنة حتّى تتمدّد خارج حدود المملكة، لتشمل معظم الدول العربيّة، سؤال حريّ بأن يؤشّر على فعل السياسة فاضحاً عوامل التبعيّة.
ولكن أينتهي أمر الأكذوبة المسوّقة سلطويّاً إلى نمط محدّد، أم يمكن للمفاجآت ألّا تتوقّف!؟ غيرَ بعيد عن يومنا هذا حدثَ ما هو أمرّ وأدهى بخصوص الخرافة المسنودة إلى سلطة السياسة وهيمنتها: كدنا ننسى –رغم قرب العهد - أنّ "اختراعاً مذهلاً" تمّ على يدي بعض العسكر في جيش الشقيقة الكبرى مصر، يتيح كشف الأمراض الخطيرة حتّى دون فحص، بل يتيح الشفاء منها حتّى دون عقار، لا بل يحقّق "فتوحات" يقصر المجال عن حصرها!
"المبدع" في هذا الخبر، أيضاً، ليس مجهولاً، إنّه معروف الاسم والصفة والموضع. والجهة الراعية ليست كياناً غامضاً، فهي المؤسّسة الكبرى الّتي "هتف الشعب باسمها لتنقذه"! وإن كان يمكن الادّعاء أنّ مأفوناً أراد الدعاية لنفسه ولو بالتهريج فإنّ سيلاً من الأسئلة لا يجد الجواب الشافي في مثل هذا "التفسير"، إذ هناك من روّج ومدح، وهناك من عرض هذه المهزلة – دون نقد، وبحياديّة تساوي بين العقل وجنون التهريج - عبر وسائل إعلام معروف من يملكها ومن يديرها. أفلا ينتمي الفضاء الناشر إلى سلطة يمكنها أن تحاسِب على استغباء الشعب باعتباره خطراً يهدّد الأمن القوميّ والوطنيّ؟!
صحيح أنّه انطلقت أصوات ساخرة مندّدة، وأصوات مطالبة بالمحاسبة، ولكنّها انتهت إلى الاضمحلال، لتطوى الحكاية كما لو كانت مجرّد فصل كوميديّ عابر.
ولكن كان هناك من تآمر على وعي الناس، بالصمت، منذ البداية، وهم فريق من الّذين "يرذلون الرجعيّة والجهل" إيّاهما حينما يتعلّق الأمر فقط بمن يخاصمون.
ولكنّ الصمت، إزاء هذه الفضيحة، لم يكن قعر التردّي، إذ ظلّ هناك من واصلوا التزييف واصطناع "الأقمار"، متجاهلين العتمة الصادرة عنها. أقمار تسعى في الأرض، هذه المرّة، لا في السماء، يسبّح بحمدها المسوّقون صورة "البطل" و"المنقذ" بل و"المصلح الاستراتيجيّ الّذي سيتولّى افتتاح عهد الإصلاح الدينيّ"!
مروّجون يدّعون انتصاراً لتنوير، ولا تستوقفهم عتمة خرافات سلطة بلغ بها أن تتّهم الموتى في قبورهم، والأسرى في سجونهم بارتكاب جرائم، ليأتي قضاء "شامخ" لا يجوز المسّ بقداسته – متّكلاً على الله ثمّ المفتي - فيحكم بالإعدام!
إذا كان الناس غير محصّنين تجاه الوقوع في خديعة الخرافة المكشوفة، فكيف بها إذا كانت الفخاخ مموّهة بفعل سحرة الإعلام وأرباب المال والسلطان؟! رمضان جاء، لكن هل من قمرٍ لا ريب فيه؟

* كاتبة فلسطينية