التحليلات الصحافية العربية للسياسة الأميركية تعكس أوّل ما تعكس مصالح أنظمة الخليج. وحكومات الخليج التي تسيطر على المفاصل الأساسيّة لوسائل الإعلام المكتوبة والمرئيّة، وهي التي تقرّر ما يُسمح بنقله على «عرب سات» و«نايل سات»، وهي التي تقترح مواد للنشر ومواد للحظر ومواد للهزل. اعترف جهاد الخازن (الذي قال أخيراً إن نصف أصدقائه هم من أبناء وبنات المملكة السعوديّة) في «الحياة» قبل سنوات ان تركي الفيصل (عندما رأس جهاز المخابرات) كان يرسل له تقارير لنشرها كمقالات في جريدة الأمير خالد بن سلطان، «الحياة».
وكان بيان الاجتماع الأخير لوزراء إعلام دول مجلس التعاون الخليجي أفضل مؤشّر على مدى إمساك حكّام النفط والغاز بمفاصل الصحافة العربيّة إذ ان البيان الختامي أصدرَ أوامر صريحة إلى القيّمين على الإعلام العربي تتضمّن ما يلي: «واتفق الوزراء على ان تتولّى دولة قطر بالتنسيق مع الأمانة العامة بوضع رؤية استراتيجيّة للتحرّك الإعلامي المُشترك لمجابهة مثل هذه الحملات والتصدّي لها على أن تعكس البعد الدولي في الخطاب الإعلامي لتبيان أحقيّة دول المجلس ممثّلة بدولة قطر في تنظيم هذا الحدث العالمي الهام». وبالفعل، مَن تابع الإعلام بعد هذا الإعلان شعر بسرعة التنفيذ. والإعلام العربي - الرسمي (يجب ان نشدّد لأن الإعلام الخاص نادر، وإعلام أصحاب المليارات مرتبط عضويّاً بمصالح دول الخليج التي تؤثّر عليه. هل قلتم «الجديد» في تغطية حرب اليمن؟) غير راض عن أوباما، وعدم الرضى ينطق في تعليقات الكتّاب. هناك حنين خليجي لعهد بوش، أو رغبة في تتويجه رئيساً لمدى الحياة.
حكّام الخليج يأخذون
على أوباما امتناعه عن خوض المزيد من الحروب
في المنطقة

وتحليل السياسة الأميركيّة طقس من طقوس الفولكلور العربي، واللبناني خصوصاً. تدعو وزارة الخارجيّة أو إدارات أخرى وفوداً من إعلاميّين عرب مُنتقين بعناية فائقة إلى واشنطن لإجراء مقابلات مُقرّرة مع مسؤولين أميركيّين في وزارات وإدارات مختلفة، ويعود هؤلاء الإعلاميّون والإعلاميّات إلى بلادنا كي يُترجموا حرفاً حرفاً ما وردهم من خطاب الإدارة الرسمي. هناك من لا يجرؤ على مساءلة السفير الأميركي في لبنان: يندر ان يتلقّى السفير الأميركي سؤالاً محرجاً من الإعلاميّين والإعلاميّات المتجمهرين أمامه، حتى عندما يهين فريقاً من اللبنانيّين أو عندما يدافع عن عدوان إسرائيلي، وحتى عندما يهين ذكاءهم ويزعم ان حكومته لن توفّر سلاحاً للجيش اللبناني. أما سركيس نعّوم فقد أصبح صاحب مدرسة خاصّة في الحديث عن الإدارة الأميركيّة وسياساتها بعد ان نضبت مصادره التي كانت في أكثرها مرابطة في مكتب عبد الحليم خدّام، الذي أثراه في أحاديث عن ضرورات «وحدة المسار والمصير والمسيار»، كما ان لنعّوم (وهو داعم حالي من داعمي «الثورة» السوريّة) مقالات عن «الفكر الاستراتيجي» لحافظ الأسد (له مقالة بهذا العنوان في عام 2001). تصبح أحاديث نعّوم وغيره على طريقة «تقول واشنطن» أو «تظنّ واشنطن» أو «وصلت واشنطن إلى قناعة» أو «ترى واشنطن»، الخ. لكن مقالات نعّوم في «النهار» تكون أكثر تخصيصاً وتخصّصاً، فالأحاديث مع واشنطن لا تنتهي، وهي إما تُنسب إلى «متابع جدّي» أو إلى «متابع مزوح» أو إلى «مسؤول سابق في إدارة حاليّة تتعاطى عن بعد مع الشرق الأوسط» أو مع «مسؤول حالي في إدارة سابقة لا تتعاطى مع الشرق الأوسط إلا لماماً» أو «خبير أميركي لا علاقة له بالشرق الأوسط لكنه يشاهد التلفزيون يوميّاً» أو «رجل أميركي مرّ في لبنان ليوميْن»، الخ، إلى ما هنالك من تحليلات. أحسنت سمر أبو خليل أخيراً في حديث مع نعّوم عندما سألته بما معناه: وكيف توصّلت واشنطن إلى هذه القناعة عن سوريا؟ فقال لها نعّوم: هذا بناء على «دراسات ومتابعة». أي دراسات وأي متابعة، لا ندري. والإعلام العربي يبالغ في قيمة تحليلات أي أميركي، خبيراً كان في شأن المنطقة أم لم يكن (مرّة علّق خبير في شؤون الشرق الأوسط بعد زيارته إلى لبنان أن الكل هناك افترض أن لديه كل الأجوبة عن كل الأسئلة حول تفاصيل الوضع اللبناني الذي لم يكن يعلم عنه شيئاً).
والافتنان بالشأن الأميركي وتفاصيل تفاصيله والإعجاب المبطن أو الصريح بشخصيّاته تقليد إعلامي عربي قد يكون محمد حسنين هيكل أتقنه أكثر من دعاة السياسة الأميركيّة في الإعلام مثل غسّان تويني. والحديث عن الشأن الأميركي يتعاظم هذه الأيّام في إعلام النفط والغاز. العتب لا بل الغضب هو سيّد الموقف، وحكّام الخليج غير راضين البتّة عن سياسات وحروب أوباما. والحاكم الأميركي مُتساهل مع حليفه الخليجي، كما هو متساهل أيضاً مع حليفه الإسرائيلي لكن مع فارق: أن أوباما يدعم ويقوّي ويُعزّز التحالف مع دولة العدوّ الإسرائيلي فيما هو لا يخفي امتعاضه من شخصيّته وسلوك نتنياهو السياسي. الأخير، طبعاً، لا يتورّع من ردّ الصاع صاعيْن ومن قوس الكونغرس الأميركي نفسه. لكن الرئيس الأميركي - مثله مثل كل من سبقه في المسؤوليّة - يتمنّع بصورة قاطعة عن توجيه أي نقد لحكّام الخليج، لا بل هم يضفون هالة من القدسيّة على مَن يتوالى من أميّين وجهلة في الخيم الحاكمة في دول الخليج. وقد سرّب أوباما انطباعاً إيجابيّاً عن محمد بن سلمان، فيما كانت «نيويورك تايمز» تفرد مقالة طويلة تشكّك في قيادة وطيش وتفلّت الرجل، ربما بإيعاز من المؤسّسة العسكريّة او الاسخباراتيّة الحاكمة.
والانزعاج الخليجي من أوباما له أكثر من وجه، هو يبدأ من سوريا ولا ينتهي في العراق (ونظريّة أن أوباما مسلم شيعي باطني تسود في وسائل إعلام آل سعود وتعكس الهوس الطائفي المذهبي لأولي الأمر في مملكة القهر). يرى آل سعود ان أوباما مُلزم بتسليم المنطقة العربيّة إلى قيادة التحالف الأميركي ــ الإسرائيلي فيما لا تثق إدارة أوباما بالنزعة المغامرة للحليفيْن، خصوصاً في حقبة صعود محمد من سلمان. ويتم التعبير الخليجي عن عدم الرضى عن أوباما من خلال معلّقي البلاط خصوصاً في صحف الأمراء، وفي «الشرق ألأوسط» بالتحديد لأنها تعبّر عن آراء النخبة الليكوديّة (السعوديّة) الحاكمة في مرحلة سلمان بن عبد العزيز (هذه من أخطاء عبد الله بن عبد العزيز أنه لم يتخذ لنفسه - أو لذريّته - وسيلة إعلام خاصّة به ما زاد من ضعفه وهو الذي يفتقد إلى أشقّاء في العائلة). والحنق الخليجي على سياسات أوباما لا تردّد النغمة العربيّة التقليديّة (العلنيّة) عن استياء الرأي العام العربي من الانحياز الأميركي لصالح دولة العدوّ الإسرائيلي. تغيّر النظام العربي الرسمي كثيراً عن تلك الأيّام وأصبح اللوبي الخليجي يعمل يداً بيد مع اللوبي الإسرائيلي في واشنطن: وما قصّة الغزل العلني في اللقاءات بين مسؤولين سعوديّين ومسؤولين إسرائيليّين إلا تعبيراً خجولاً عن عمق التحالف بين الطرفيْن (طريفة حكاية ان المسؤول السعودي الفلاني في لقائه مع مسؤول إسرائيلي لا يمثّل سياسة الحكومة السعوديّة وكأن المملكة تسمح بالخلاف في الرأي وكأن الجَلد وقطع الرأس لا ينتظر من تسوّله نفسه المجاهرة بمخالفة مشيئة العائلة الحاكمة. على العكس من الماضي، فإن الالتصاق بنتنياهو في هذا الظرف من التوتّر (غير البعيد المدى) بين أوباما وبين رئيس الحكومة الإسرائيلي يهدف إلى الترميز على تفضيل آل سعود السياسات الإسرائيليّة في المنطقة على السياسات الأميركيّة. ولم تعد مسألة «مسيرة السلام» أمراً يُذكر في المفاوضات واللقاءات بين أنظمة الخليج وبين الحكومة الأميركيّة (قبل أيّام من قمّة كامب ديفيد التي جمعت بين أوباما وبين حكّام الخليج المُطيعين طلبت الحكومة السعوديّة إجراء تعديل على أجندة الاجتماع فظنّ البعض في الإعلام الأميركي ان الحكومة السعوديّة تريد ان تفتح موضوع القضيّة الفلسطينيّة فتبيّن ان التعديل يتعلّق برغبة آل سعود في بحث المسألة السوريّة. لم يرد ذكر فلسطين في تلك القمّة).
وإذا كانت الاعتراضات العربيّة الشعبيّة (والرسميّة) تتعلّق بالحروب الأميركيّة والعمليّات العسكريّة فإن حكّام الخليج يأخذون على أوباما امتناعه عن خوض المزيد من الحروب في المنطقة، وعن تنفيذ المزيد من عمليّات القصف والقتل في العالميْن العربي والإسلامي. المشكلة التي يراها حكّام الخليج في أوباما هي في ما يسمّيه خالد الدخيل وغيره بـ «الانكفاء» الأميركي، أي ان الحكومة الأميركيّة تُلام على عدم توغّلها واقتحامها في منطقة الشرق الأوسط. إن سياسات دول الخليج باتت تتطابق مع سياسة جون ماكين الذي أصبح المدافع الأقوى عن مصالح دول الخليج وعن عصابات التطرّف الإسلامي في سوريا. وموقفه هذا لا يتناقض البتّة مع مواقفه الليكوديّة المتطرّفة ومع تاريخه الطويل في التعصّب والعنصريّة ضد الإسلام والمسلمين. جون ماكين هو مرشّح آل سعود (و«الثورة» السوريّة) المُفضّل لكن زمن طموحاته الرئاسيّة ولّى إلى غير رجعة، وقائمة المرشّحين الديمقراطيّين والجمهوريّين تعبّر عن سياسات ماكين. لكن ما هي حكاية «انكفاء» أوباما هذه؟
يمكن النظر إلى سياسات وحروب أوباما على أنها كانت فاصلة في اختلافها عن سياسات وحروب جورج بوش، الذي كان مُفضّلاً عند حكومات الخليج خصوصاً وان دعواته اللفظيّة لنشر الديمقراطيّة لم تنعكس إلا مطالبة بتحقيق الديمقراطيّة في سوريا وإيران فقط (هو للأمانة كان يدعو إلى تحقيق الديمقراطيّة الانتخابيّة في فلسطين إلا ان فوز حماس في انتخابات 2006 غيّر رأيه ودبّر بعد ذلك انقلاب دحلاني ضد حماس، لكن الأخيرة أحبطته قبل ان يبدأ). هل أوباما كان نقيض بوش أم انه كان مكمّلاً له؟ هذه هو السؤال.
طبعاً، إن عهد أوباما بدأ بخطب طويلة دشّنها في خطاب له في القاهرة جذب نحوه العديد في الرأي العام العربي والإسلامي. كاد بعضهم ان يعلنه إماماً على المسلمين. ظنّ كل هؤلاء ان أوباما سيعكس في سياساته نقيضاً لحروب بوش ولحملاته. لكن كان هذا التوقّع ضرباً من ضروب الخيال والسذاجة مجتمعةً. ليس من يدرس طبيعة الحكم في أميركا يرى ان شخصيّة الرئيس يمكن لها ان تؤثّر على مسار الإمبراطوريّة الأميركيّة في العصر الحالي. نكتشف فيما كُتب عن الأيام العصيبة في أزمة الصواريخ الكوبيّة ان القادة العسكريّين كان يحاولون ان يدفعوا باتجاه حرب حتميّة مع الاتحاد السوفياتي لكن الرئيس الأميركي كان يتمتّع بثقة ذاتيّة وسياسيّة وأصرّ على انتهاج خط مستقل عنهم، لكن بصعوبة بالغة. لكن نفوذ القادة العسكريّين في تقرير مسار الحروب زاد عبر السنوات وهو ينمو خصوصاً في عهد إدارة أميركيّة «ليبراليّة» (الرئيس الديمقراطي هو دوماً مشكوك في نيّاته الحربيّة بحسب توجّهات الرأي العام الذكوري الأبيض). هذا الرئيس يسيّر شؤون السياسة الخارجيّة بنفسه (وقد يكون البيت الأبيض هو مصدر تقرير السياسة الخارجيّة للمرّة الأولى منذ عهد نيكسون) لكنه يعاني من شعبيّة متدنيّة كما انه لا يحظى بتأييد حزبه في السياسات التي تحيد عن خط تدعيم الإمبراطوريّة الأميركيّة. هذا لا يعني ان أوباما كان يريد ان ينتهج انفصالاً عن سياسات بوش، على العكس: هو رئيس يحاول إطالة أمد الإمبراطوريّة الأميركيّة لكن بثمن (سياسي) أقلّ وبأخطاء (بالمعيار الأميركي المحض) أقلّ. هو تقمّص بوش من دون أن يتقمّص غباء وجهل بوش، وفي هذا إفادة للإمبراطوريّة.
إن إدارة الرئيس لشؤون السياسة الخارجيّة بنفسه لا يعني البتّة ان الفرد – الرئيس - يمكن له ان يتحرّر من ضوابط وشروط التحكّم العالمي الأميركي. الرئيس لا يخضع فقط لضوابط الدستور من حيث قدرة الكونغرس على تعطيل سياسات الرئيس إذا ما حادت عن الخط المرسوم (كما يفعل الكونغرس في مسألة النفور الشخصي بين أوباما ونتنياهو) لكن هناك أيضاً تلك الضوابط التقليديّة التي تفرضها سياسات الإدارات والأجهزة الرسميّة للدولة، بحيث يصبح الروتين الإداري لمختلف قطاعات الدولة سياسة يصعب التخلّص منها (وهناك نظريّة في تقرير السياسة الخارجيّة ومفادها ان صنع السياسة الخارجيّة ما هو إلا تراكم الخبرة البيروقراطيّة مع إضافات جديدة فيما يحلّ من أزمات). هناك مثلاً برامج متعدّدة للتنسيق بين الحكومة الأميركيّة وبين دولة العدوّ الإسرائيلي. وإن الإخلال بهذه البرامج يصبح أمراً ذا أبعاد سلبيّة تتردّد في مختلف قطاعات الدولة. تحتاج نظريّة المؤرّخ أرثر شلسنجر عن «الرئاسة الإمبراطوريّة» إلى تعديل. صحيح ان سلطات الرئاسة اتسعت وتضخّمت في عهد فرانكلين روزفلت وفي عهد ليندون جونسون لكن الإجماع النخبوي في سياسات الحزبيْن (في مجال السياسة الخارجيّة فقط) تُقرّر الوجهة الأساسيّة لتلك السياسات. لهذا، فإن حرب فييتنام استمرّت وتوسّعت بين الإدارات الجمهوريّة والديمقراطية على حدّ سواء. كل رئيس تبع رئيساً آخر وجد أن إنهاء الحرب ليس بيده —هذا لو أراد ذلك أصلاً. هيبة الإمبراطوريّة هي في المحك، والآلة الحربيّة تسحق الرئيس الذي يعارض مشيئتها. وكلّما تضخّمت الإمبراطوريّة وكلّما امتدّ نفوذها حول العالم كلما أصبحت الإمبراطوريّة خاضعة إلى حدٍّ كبير إلى نظام التسيير الذاتي. كان كل رئيس أميركي يطبع السياسة الخارجيّة بطابع خاص به إلى حدّ ما. لم يعد هذا قائماً باستثناء اللمسات الشخصيّة (مثل أن بوش كان يُشدّد على الكيمياء الشخصيّة فيما لا يقيم أوباما وزناً للصداقات الشخصيّة بين الزعماء). يستطيع الرئيس الأميركي الجديد ان يغيّر في أسلوب ممارسة السياسة الخارجيّة والحروب، لكن تغيير الوجهة صعب المنال. والسياسة هنا تُتَناتش بين حزبيْن يتفقان في معظم عناوين السياسة الخارجيّة (يختلف الحزبان في درجة الحماسة في شن الحروب وإلقاء القنابل والصواريخ فقط). والعلاقة بين تعاظم الإمبراطوريّة وبين خضوع الرئاسة إلى نظام التسيير الذاتي هي علاقة اضطراد مباشر.
يكتمل مسير ومصير الإمبراطوريّة الأميركيّة وعناصرها الحربيّة في عهد أوباما. أسيء فهم ذلك الخطاب الشهير لروبرت غيتس، وزير الدفاع الأسبق، الذي ألقاه قبل رحيله عن وزارة الدفاع في الكليّة العسكريّة في «وست بوينت» عندما صرّح بأن أي رئيس مُقبل للجمهوريّة يفكّر في إرسال جيوش إلى الشرق الأوسط سيحتاج إلى فحص في قواه العقليّة. قرأ البعض التصريح على أنه مؤشّر على بداية إنكفاء أميركي دراماتيكي عن منطقة الشرق الأوسط بينما كانت محاولة من الإمبراطوريّة لإنقاذ نفسها بنفسها من سقوط ذريع. كان مسار الإمبراطوريّة في عهد بوش يتجه نحو مزيج قاتل (للإمبراطوريّة) من إنفاق غير محدود وتدهور اقتصادي وبين اتساع في نشر القوّات الأميركيّة حول العالم والإستمرار في الحروب: أي هي معادلة تشخيص المؤرّخ بول كنيدي لسقوط الإمبراطوريّة الحتمي.
لم تكن القيادة العسكريّة الأميركيّة ولا أجهزة الاستخبارات ولا حتى حلفاء أميركا في وارد الاستمرار بوتيرة عقيدة بوش الحربيّة. أوباما ركّز على إنقاذ الاقتصاد الأميركي إضافة إلى العودة إلى نسق من عقيدة دونالد رامسفلد الدفاعيّة والتي تعتمد على قوّات خاصّة متنقّلة وعلى تدريب قوّات محليّة للقيام بالقتال والموت بالنيابة عن القوّات الأميركيّة، بالإضافة إلى القتل من الجو عبر الطائرات من دون طيّار لأن هذه الوسيلة تفتقر إلى الثمن السياسي: مَن ينزعج هنا من أخبار مقتل مَن تصفهم أميركا بالإرهابيّين أو حتى المدنيّين في بلاد الفقراء المسلمين؟ لم يسبق ان طالب أحد في الكونغرس بالتقليل من الاعتماد على القاتل من دون طيّار. هذه الوسيلة ستنمو والطلب على هذه الطائرات يزداد إلى درجة ان المصانع لا تقدر ان تلبّي الطلب عليها. ستصبح أجواء الشرق الأوسط تعجّ بالطائرات الأميركيّة والإسرائيليّة فوق رؤوسنا، تقتل من الجوّ من تشاء باسم محاربة الإرهاب.
إن المفاضلة بين أوباما وبين بوش هو من نسيج خيال معلّقي (المعلّقات عورات في عقيدة الوهّابيّة السعوديّة الحاكمة) أمراء آل سعود. يرون في أوباما انكفاء وإحجاماً فيما وسّع الرجل من نطاق الحروب الأميركيّة في المنطقة، ولم ينهِ حرباً واحدة بدأها بوش. صحيح انه أعاد القوّات الأميركيّة - أو عدداً كبيراً منها - إلى قواعدها لكنه لا يزال ينشر قوّات في قواعد عسكريّة معلنة وسريّة في كل المنطقة العربيّة. لم نعلم للساعة ماذا كان كل هؤلاء الأميركيّين يفعلون في مدينة أربيل عندما برز الخطر الداعشي: الإعلام أرادنا ان نظنّ ان الآلاف من الأميركيّين في أربيل كانوا يقيمون هناك لأسباب سياحيّة محض.
يحقّ للأميركيّين المفاضلة والمقارنة بين حكم بوش وحكم أوباما. هناك قضايا داخليّة تفرّق بين الحزبيْن مع ان الأحزاب الليبراليّة في الدول الغربيّة - بما فيها الأحزاب الاشتراكيّة خارج أميركا - تحوّلت نحو اليمين. لكن للأميركيّين والأميركيّات أن يفاضلوا ويفاضلن بين الرجليْن في مسائل التأمين الصحّي وتعيين أعضاء المحكمة العليا وفي السياسة الضرائبيّة. أما في الشرق الأوسط، فالمفاضلة عقيمة لأن الصواريخ والقنابل الأميركيّة، وقنابل وصواريخ حليفتها إسرائيل، لم تتوقّف عن الهطول فوق رؤوس الآمنين في عهدي بوش وأوباما. لكن الحروب الأميركيّة غير كافية للدول الخليجيّة. هي تريد ان تُلزّم بعضاً من تلك الحروب، ولا تمانع أميركا في ذلك. لكن دول الخليج لا تزال في نشوة ارتقاء درجة تحالفها مع الحكومة الأميركيّة منذ عهد بوش ومشاركتها الفعّالة ليس فقط في «الحرب على الإرهاب» وإنما أيضاً في الحروب الأميركيّة في العراق وأفغانستان، بالإضافة إلى حروب المخابرات الأميركيّة السريّة والتي شاركت فيها الحكومة السعوديّة منذ عهد كمال أدهم، ومن دون توقّف. لكن هناك حدود للتلزيم الأميركي لآل سعود.
لن تلزّم أميركا النظام السعودي إلا في ما ترتأيه وتقرّره. والمغامرة السعوديّة في اليمن - والتي بدأت بإطلاق وعد عن صدّ وطرد الحوثيّين من صنعاء وعدن وهي الآن بلغت المرحلة التي عبّر عنها عنوان جريدة «الحياة» قبل أسبوع، عن «صدّ محاولة الحوثيّين اختراق جازان» - لم ترفع من درجة الثقة الأميركيّة بالمبادرات والمغامرات السعوديّة في ظلّ حكم محمد بن سلمان وأعوانه. الإمبراطوريّة الأميركيّة ستمضي في مسيرتها وفي غيّها من دون اعتبار لهذا الحاكم العربي الحليف أو ذاك. لكن الإمبراطوريّة تتخبّط وتعود القهقرى في مسيرتها في الشرق الأوسط: هي على مشارف توقيع اتفاق مع إيران وهي تتفاوض مع حركة «طالبان» الأفغانيّة لعلمها ان حكم الطالبان آت لا محال. ولو كان صدّام حسين حيّاً يُرزق، لكانت الإدارة الأميركيّة غارقة في مفاوضات معه لصدّ تقدّم «داعش».
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)