هنالك قراءتان خاطئتان للشخصية النرجسية. الأولى هي قراءة شعبية رائجة والأخرى تنتمي إلى ما يمكن تسميته مجازاً «علم النفس الأميركي أو البراغماتي». تقول القراءة الشعبية إن الشخص النرجسي هو شخص معتز بنفسه يحتقر الآخرين، هو شخص مغرم بصورة مرضية بنفسه، شخص مثل كريستيانو رونالدو أو كايني ويست كما هو رائج.
هذه القراءة الشعبية لها جوهر حقيقة، ولكنها كذلك تجعلنا ننظر إلى الشخص النرجسي باعتباره خروجاً عن القاعدة، وتهمل حقيقة أن الشخصية النرجسية هي شخصية «عادية» هذه الأيام، إن لم تكن القاعدة. وبرغم أن هذه الصفات النمطية هي صفات يمكن فهم ارتباطها بالنرجسية، إلا أن الحقيقة هي أن الشخص النرجسي لا يحتاج بالضرورة إلى الظهور بهذا الشكل النمطي، بل يمكنه أن يكون شخصاً مبالغاً في التواضع ولطيفاً جداً في معاملة الآخرين. على سبيل المثال، يجب على السياسي الناجح في عالم اليوم الذي تسيطر عليه ديموقراطية شكلية يحركها الإعلام، أن يكون شخصاً محبوباً ومتواضعاً، ولكن يجب عليه في الوقت نفسه أن يحتفظ بمسافة بينه وبين الناس، أن يعاملهم «كناخبين» فقط، وبالتالي أن تكون العلاقة التي تجمعه بهم هي علاقة استغلال وخداع. الزعيم الذي يحبه الناس ليس لأنه «لبق» و«بيّاع كلام» بل لأنه مرتبط مع الناس بشكل عضوي عبر شبكة مصالح هو «صادق» في سعيه لتحقيقها، مثل غاندي أو تشي جيفارا اختفى هذه الأيام، وحلّ محله الزعيم النرجسي المحبوب إعلامياً.

ما يهم علم النفس الأميركي هو
«الفعالية» و«الأداء»

أما بالنسبة إلى علم النفس الأميركي، فإن المشكلة تكمن في أن هذه المدرسة بدأت منذ البداية كمدرسة «ممتثلة». ما يهم علم النفس الأميركي هو «الفعالية» و«الأداء»، وعلى هذه الأسس يتم تعريف الحالة النفسية المثالية بأنها الحالة التي تجعل الإنسان يؤدي دوره الاجتماعي بصورة جيدة. ثلاثية فرويد (الإيغو، السوبر إيغو، والإيد) تم تفسيرها بالشكل المبسّط التالي: الإنسان منفصل بين هذه الثلاثية، فهو من جانب خاضع لضغط غرائزه البدائية (الإيد) ومن جانب خاضع لضغط الصورة القانونية المثالية (السوبر إيغو). وبين الاثنين يقف الإيغو كعامل معادل يمنح الإنسان هوية متّزنة. مثلاً، يريد الرجل أن يعامل المرأة بصورة غرائزية ولكن تمنعه الصورة المثالية، فينتج عن ذلك إيغو يحاول أن يحب المرأة وأن يكتب لها شعراً... إلخ. الإيغو إذاً هو العامل النفسي الجيد، الجانب الذي على العلاج النفسي تقويته بحيث يصبح قادراً على أداء مهامه بكفاءة. من هنا جاءت التسمية: علم النفس المتوجه بالإيغوEgo Oriented Psychology. وبهذا الشكل تم تقسيم الأمراض النفسية إلى نوعين: الذهان Psychosis وهو الحالة التي تُعرف بعدم قدرة الإنسان على أداء وظائفه الاجتماعية وبفقد اتصاله بالواقع (حالة جنون) والعصاب Neurosis الذي يُعرف بضعف الإيغو وعدم قدرته على أداء وظيفته التوفيقية، وينتج عن هذه الحالة إما هوس أو هيستيريا (في الحالتين يعود السوبر إيغو إلى الظهور بصورة مبالغ فيها إذ لا يستطيع الإنسان التصالح معه). من هذا التقسيم جاءت في الأربعينيات نظرية (الأشخاص في المنتصف) Borderline، وذلك لأن حالات عديدة لم يكن بالإمكان تصنيفها لا في خانة العصاب ولا في خانة الذهان. وأحد هذه التشخيصات كان «النرجسية المرضية».
من جانب، فإن النرجسي يُظهر أعراضاً عصابية، كشعوره الدائم بالقلق بلا سبب، واهتمامه الهوسي بآراء الآخرين به وعدم قدرته على تحمّل أقل قدر من الفشل الاجتماعي (يقابل أقل فشل باكتئاب حاد). ومن جانب آخر، فإن النرجسي يظهر أعراضاً ذهانية خفيفة، كعدم قدرته على قبول الواقع، وتورطه في مشاعر طفولية غير مفسّرة منطقياً، ككراهية أشخاص قريبين له بناءً على تفسيرات ارتيابية لتصرفاتهم البسيطة (ابتسامة أحدهم ستُفسّر على أنها سخرية من الشخص مثلاً). هذه الأعراض المتناقضة، من وجهة نظر علم النفس الأميركي، جعلت النرجسية المرضية إحدى تشخيصات الـ Borderline. الآن دعونا نقدم توضيحاً «فينومينولوجياً/ ظاهرياً» للشخصية النرجسية كما جاء في ورقة سلافوي جيجك («النرجسي المرضي، شكل الذاتية المطلوبة اجتماعياً» 1986):
النرجسي شخصٌ ناجح، ومتفوقٌ أحياناً، متوائم بصورة مثالية داخل المجتمع. ولكن هذا الوجود المثالي يعتمد على تناقض غريب: النرجسي يعامل الآخرين كمجرد دمى، يستغلّهم، هم موجودون في الخارج فقط كأشياء يمكن الاستفادة منها. ولكن مع ذلك، فالنرجسي يهتم جداً لآراء الآخرين، في الحقيقة فإن كل النجاح الذي يسعى له النرجسي هدفه هو السمعة التي سيحظى بها بين الآخرين. ولذلك فإن أقل فشل اجتماعي هو كارثة حقيقية. النرجسي «سيّد» ولكنه سيد أسير لعبيده. هذا التناقض الأساسي بين النرجسي و«الآخر» يؤدي إلى تبعات عدة: أولاً، لا يحمل النرجسي أيّ قدرة على «التعاطف»، على اختبار مشاعر الآخرين كأشياء حقيقية، ولا على إدراك الآخرين كأشياء لها عمق لا يمكنه الوصول إليه، كشخصيات في الخارج. وهذا يجعله يقسم الناس بصورة سطحية إلى ثلاثة أقسام: الآخر المثالي، ذلك الذي يريد النرجسي أن يحصل منه على الإعجاب. الآخر العدو، أولئك الذين «يحسدون» النرجسي ويشكلون خطراً على صورته وسمعته، و«البقية» مجموعة الدمى التي لا يبالي النرجسي بوجودها، الأشخاص الفاشلون العاديون الذين ليس لهم أيّ فائدة عندما يتعلق الأمر بصورة النرجسي عن نفسه. وحتى عندما يتعلق الأمر بعلاقة النرجسي بالآخر المثالي، فإن هذه العلاقة ليس لها أيّ عمق، يمكن لهذا الآخر المثالي أن يسقط إلى خانة «البقية» بسهولة في أي لحظة يفقد فيها قيمته بالنسبة إلى النرجسي. كلّ أنواع البشر إذاً هي بالنسبة إلى النرجسي أدوات يجب استعمالها بلا أيّ تورّع. لذلك يظهر النرجسي للآخرين كشخص «أناني» و«بارد» ومتهكم Cynical. وإن أخفى ذلك خلف قناع من اللطافة وحسن المعاملة التي تهدف فقط إلى خداع الآخرين.
لا يستطيع النرجسي، كما هو واضح، أن يكوّن ارتباطاً عميقاً بالآخرين، ارتباطاً يجعله «يثق» فيهم و«يعتمد» عليهم، وأن «يتلزم» تجاههم. هو يعتمد على الآخرين لكن فقط كملاحظين ومعجبين بنجاحه. هو يعتمد على «اعترافهم» به. ولكن هذا الاعتماد هو اعتماد مختلف عن اعتماد الواحد منا على الآخرين كأشخاص يوفرون لنا التعاطف والفهم و الوفاء. النرجسي يسعى «للاستفادة» من الآخر، وحتى عندما يحترم الآخر فإنه يحترمه لأسباب نرجسية ذاتية بحتة. هذا الغياب للعلاقة الحقيقية مع الآخرين يجعل النرجسي متوجساً بشكل دائم منهم. هو يخاف من أن يفتح قلبه لهم وأن يرتبط بهم «أكثر من اللازم». ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في العلاقات الغرامية التي يفضلها النرجسي: العلاقات القصيرة الباردة التي لا تجبره على الالتزام الشاق تجاه الآخرين وتمنحه مساحته «حتى يتنفس».
يحترم النرجسي القوانين، ولكنه يحترمها على أنها «جزء من اللعبة» ولا يأخذها بجدية. النرجسي ممتثل، يرى في مقاومة القوانين الاجتماعية غباء، وفي الامتثال لها ذكاء وفهلوة. عليك أن تكون ذكياً و«تُمشّي أمورك». وهو يرى أن الجميع يفعلون الشيء نفسه: خلف أقنعة الامتثال للقوانين الاجتماعية، فإن الكل يخفي شخصه الحقيقي ويشارك في اللعبة حتى يصل إلى أهدافه فقط. جميع الناس يحاولون خداع بعضهم البعض، ولذلك عليك أن تكون ذكياً وأن تخدعهم أنت في البداية. عليك أن تكون ذكياً أيضاً وأن تعرف كيف «تتأقلم» بلا أي حدود أخلاقية. القانون، الأخلاق والمثل كلها بالنسبة إلى النرجسي ليست أكثر من مجرد لعبة، ولكنها مع ذلك لعبة يجب الالتزام بها، كما هي بلا تغيير، حتى يتمكن الواحد منا من النجاح.
ليس للنرجسي قدرة على الحزن، بمعنى أنه يواجه الفقد والفشل بغضب عارم، وليس له قدرة على تقبلهما عبر الحزن. الخسارة بالنسبة إلى النرجسي إهانة، ولذلك فهي غير مقبولة.
أخيراً، وذلك يعود بنا إلى البداية؛ ليس للنرجسي قدرة أصيلة على «الاستمتاع». النرجسي يستمتع فقط عندما يعرف الآخرون أنه سعيد. ويظهر ذلك في التناقض الغريب، حيث يبحث النرجسي عن النجاح ليس لأجل الفائدة التي سيجلبها ذلك النجاح «استعمال المال للسفر والترفيه... إلخ»، بل لأجل الإعجاب الذي سيظهره الآخرون. وبذلك يصبح النجاح هدفاً بذاته. غياب القدرة على الاستمتاع الفردي (والرغبة الأصيلة) يجعل النرجسي يشعر بأنه «فارغ من الداخل» أو أنه «فاقد للهوية.. نفسه غريبة عليه». وهذا الشعور يدفعه إلى التحرك بلا توقف بحثاً عن «شيء ما». ألا تعتمد كتب التنمية البشرية على هذا الشعور الأساسي بالفراغ وتحاول أن تملأه بالسؤال الخاطئ، والإجابة على ذلك السؤال؟ «كيف تجذب الآخرين وتصنع أصدقاءً؟»، هذا السؤال مثلاً هو في حدّ ذاته إجابة على سؤال آخر: لماذا أشعر بأنني فارغ من الداخل؟ الإجابة: إنك لا تستطيع جذب الآخرين وليس لديك أصدقاء، ودعنا نخبرك كيف تفعل ذلك. دائماً كان يحيرني مقدار الشعور بالذنب الذي تصنعه هذه الكتب لدى الشاب المسكين الذي يقرأها. (هذه السخافات ما زالت في طور طفولتها وستكبر مع مرور الأيام، حالياً هنالك شيء يدعى «مدرب الحياة» هو شخص تستأجره ليلعب دور كتب التنمية البشرية ولكن مع إضافة إنسانية تظهر في شكل حكمة فردية سخيفة، هذا الشخص سيعطيك نصائح باستمرار عن كيفية التغلب على القلق والشعور بالسعادة والحصول على النجاح).
يعلق جيجك على هذا الوصف بملاحظة أنه فعلاً وصف «كلاسيكي»، وصف للشخص الأميركي العادي مثلما تظهره السينما والفنون الرائجة مثلاً. ولكن هذا لا يقلل من قيمة الحقيقة في هذا الوصف، فهذه الفنون هي انعكاس للواقع الاجتماعي في النهاية.
أمام هذا الوصف يعطينا علم النفس الأميركي تفسيراً غريباً للحالة النرجسية: هي خليط من «تضخّم الإيغو» و«ضعفه». للنرجسي إيغو ضعيف مريض، لا يستطيع أن يجعله يتعامل بصورة متزنة مع الآخرين، وهذه المشكلة يحلها النرجسي عبر ابتلاعه لكل ما هو في الخارج والتعامل معه على أنه جزء من ذاته. الإيغو المتضخم يظهر في حقيقة أن النرجسي يدرك الآخرين كمجرد امتداد له، هم موجودون لخدمته ولمنحه السعادة إلخ. وحتى القوانين والمثل فهي موجودة حتى يتلاعب هو بها فقط. الحبيبة والصديق والرمز وكل آخر هو مجرد امتداد للإيغو المتضخم النرجسي، وليس هنالك أيّ شيء في الخارج فعلاً (هنا تصدق مقولة إن النرجسي متمحور حول ذاته). والعلاج في هذه الحالة هو في «إصلاح الإيغو»: أن يقبل الإنسان نفسه ويحبها بحيث لا يكون له حاجة إلى استعمال الآخرين... إلخ. هذا التصور غير الجدلي للهوية الإنسانية، الذي يميز علم النفس الأميركي، لا يفتح أيّ مجال لتخيل «الفضاء الرمزي» كحقيقة سببها غربة الإنسان الجذرية الأساسية عن نفسه منذ البداية. وبالتالي فإنه حتى نتجاوز هذا المأزق الفرداني (الحل هو في أن تحب نفسك وتتصالح معها... إلخ) فعلينا أن نعود إلى ثلاثية فرويد (الإيغو، السوبر أيغو والإيد) ولكن عبر القراءة الجدلية التي قدمها جاك لاكان.
(اعتمد في هذا المقال بشكل كامل على ورقة كتبها سلافوي جيجك عام 1986 بعنوان «النرجسي المرضي، شكل الذاتية المطلوبة اجتماعياً»)
* كاتب سوداني