كان الغرب الممتد من بلاد الرافدين حتى البحر المتوسط، هو الاهتمام الرئيسي لحكام بلاد فارس منذ القدم: قورش ــ الساسانيون ــ الصفويون ــ شاه إيران ــ الخميني والخامنئي.
حصل الاختراق الجغرافي لفارس مرتين فقط من الغرب نحو الشرق في زمني الإسكندر المقدوني وعمر بن الخطاب، وقد كان سقوط الأمويين من خلال ثورة قيادتها عربية عباسية وجسمها فارسي أتت من الشرق نحو بلاد الأمويين، كذلك فإن السيطرة البويهية على بغداد عاصمة الخلافة العباسية قد أتت من الشرق الفارسي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وقبلها أيضاً سيطرة المأمون على بغداد وتغلبه على أخيه الأمين.
في العصر الحديث كانت إيران (وهو اسم أطلقه آل بهلوي منذ عشرينيات القرن العشرين على بلاد فارس) هي التي تفتتح المراحل التي مرت بها دول منطقة الشرق الأوسط: 1) الثورة الدستورية 1906 وبداية تقوض بنى الدول القديمة في المنطقة، 2) الانقلاب العسكري لرضا بهلوي 1921، 3) المدّ الشيوعي لحزب توده 1941 ـ 1953، 4) تأميم الشركات الأجنبية: تأميم الشركة الإنكليزية ـ الفارسية للنفط عام 1951، 5) بداية نزع الأميركان للنفوذ البريطاني من خلال الانقلاب على محمد مصدق عام 1953، 6) الثورة الإسلامية وبداية تسلّم الإسلاميين للسلطة في دولة من دول المنطقة 1978-1979 7) فشل المحاولات الإصلاحية لإصلاح الأنظمة من داخلها: تجربة محمد خاتمي 1997-2005، 8) بداية الثورات الفاشلة في المنطقة من خلال (الثورة الإيرانية الخضراء) عام 2009.
لم يفرض البويهيون التشيع الاثني عشري على الدولة العباسية، برغم اعتناقهم له. كان فرض الصفويين منذ تأسيس دولتهم عام 1502 للتشيع على إيران، التي كانت سنية بغالبيتها، مؤدياً إلى جعل صراعهم مع العثمانيين يأخذ طابعاً شيعياً ــ سنياً منذ معركة جالديران عام 1514، وخصوصاً في عملية تبادلهما للسيطرة على العراق حتى عام 1638عندما حسم الصراع لمصلحة العثمانيين هناك، وقد كان انقسام عام 1502 بالنسبة إلى العالم الإسلامي مثل انقسام 1945-1947 الذي كرسته اتفاقية يالطا للعالم الأوروبي قبل أن تأتي تغيرات 1989-1991 في عالمي الكتلة السوفياتية ودولة الاتحاد السوفياتي. في أيام آل بهلوي (حتى 1979) كانت الصفة القومية غالبة على الدولة الإيرانية، وكانت احتكاكاتها مع العرب (العراق ـ البحرين ـ الجزر الثلاث) تأخذ شكل صدام عربي ـ فارسي، فيما شهدت علاقات الشاه تقاربات مع عرب (نوري السعيد ـ الملك فيصل) في مرحلة صدامات الثلاثة مع الرئيس عبد الناصر.
هنا، حاول الإمام الخميني الذي أقام هو والكثير من المعارضين الإيرانيين منذ أوائل الستينيات علاقات مع القاهرة، أن ينزع عن نفسه الصفتين الفارسية والشيعية، مستبدلاً بهما لباساً إسلامياً عاماً، وقد كاد أن ينجح من خلال ما لاقته الثورة الإيرانية من تأييد عربي واسع شمل الحركات الثلاث: الإسلامية والعروبية والماركسية. في ظل تخبط أميركي أمام الثورة الإيرانية منع تكرار سيناريو انقلاب 1953، كان هناك اثنان ينظران بتوجس إلى الخميني المتوثب من باريس للانقضاض على السلطة في طهران: صدام حسين وليونيد بريجنيف. قام الأول في مرحلة ما بعد وصول الخميني إلى السلطة يوم 11 شباط 1979 بإطاحة أحمد حسن البكر يوم 16 تموز، وأرسل الثاني قواته إلى أفغانستان يوم 27 كانون الأول 1979 لتطيح وتقتل الزعيم الشيوعي حفيظ الله أمين الذي كان على وشك عقد اتفاقية مع الإسلاميين المعارضين، وتضع شيوعياً أكثر تصلباً هو بابراك كارمال أتى به الكرملين من المنفى في براغ. أنعش ما جرى في طهران الحركات الشيعية المعارضة في العراق، وبعضها كان له علاقات مع الشاه، مثل حزب الدعوة، إضافة إلى آل الحكيم، حيث شارك السيد مهدي الحكيم في خطة الانقلاب المدعومة من الشاه ضد حكم حزب البعث، التي كُشفَت في كانون الثاني 1970 بقيادة العميد عبد الغني الراوي، وقد مال صدام حسين، من خلال إشعال الحرب العراقية ــ الإيرانية بيوم 22 أيلول 1980 إلى رمي النار خارج الحدود وعبر حرب كان يعرف بأنها ستأخذ طابعاً مزدوجاً: قومي ـ طائفي، بعدما بدأت النار العراقية الداخلية بالاشتعال. لم تنفع الخميني هنا عملية إعطائه منظمة التحرير الفلسطينية مبنى السفارة الإسرائيلية بطهران ولا علاقاته مع جماعة «الإخوان المسلمين» التي اصطدمت مع أنور السادات بسبب استضافته شاه إيران المعزول في القاهرة والتي أيدت طهران ضد بغداد في تلك الحرب، ثم رثى مرشدها العام حامد أبو النصر الخميني عند وفاته عام 1989 قبل أن يخلفه السيد علي الخامنئي الذي ترجم بعض مؤلفات سيد قطب إلى الفارسية، ولم تنفع هنا أيضاً انخراطات طهران في عملية الدعم لحركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في فلسطين.

يرى ترامب الروس
وسيلة لتحجيم
إيران سوريّاً

إذا كانت الحرب العراقية ــ الإيرانية هي الشرارة التي أرادها صدام حسين لصراع سني ـ شيعي مرفقاً بصراع عربي ـ فارسي، فإن سقوطه عام 2003 قد جعل طهران تحشر في تلك الزاوية الضيقة، وخصوصاً لما أدى التحالف الأميركي ـ الإيراني في غزو 2003 إلى صعود قوى شيعية عراقية موالية لطهران أقامت نظاماً طائفياً فاسداً يأتمر بأوامر الخارج عند ثنائية طهران ـ واشنطن. لم يقل ذلك مع انكسار وانشقاق هذه الثنائية منذ آب 2005 مع بدء الصدام الأميركي ـ الإيراني بسبب استئناف طهران لبرنامج تخصيب اليورانيوم، بل كان ذلك هو العجينة التي من خلالها وعبر «المظلومية السنية العراقية» صُنع تنظيما «القاعدة في بلاد الرافدين ــ الزرقاوي» عام 2004 و«داعش» ــ البغدادي عام 2013. انتشر هذا الشعور العدائي على صعيد العالم العربي ضد طهران بسبب اعتمادها على حركات شيعية في البحرين وحركات اقتربت من الشيعية الإمامية مثل «الحركة الحوثية» في اليمن، وساعد هذا كثيراً على سجن الجمهورية الإسلامية الإيرانية في القفص الشيعي في عيون عرب كثيرين.
في زمن باراك أوباما الذي انتهج سياسة التفاهم مع إيران، وخصوصاً بعد سقوط الموصل بيديّ «داعش» في يوم 10 حزيران 2014، ما كان عاملاً رئيسياً عنده للإسراع في عقد اتفاق فيينا حول الملف النووي الإيراني يوم 14 تموز 2015 لضمان تحالف أميركي ــ إيراني ضد «داعش»، كان وضع طهران أكثر راحة، واستطاعت تحمل الكثير من السهام الجانبية العربية. في عهد دونالد ترامب الذي يضع استهداف إيران على رأس جدول أعماله الشرق أوسطي، أصبح وضع الايرانيين صعباً: الروس الذين أيد أوباما دخولهم العسكري إلى سوريا من أجل منع سيناريو ليبي في سوريا، يراهم ترامب وسيلة لتحجيم إيران سورياً، وأحد الأهداف الرئيسية للوجود العسكري الأميركي في شرق الفرات تتمثل في منع «الحشد الشعبي» العراقي المدعوم إيرانياً والواصل إلى تلعفر من الامتداد إلى خط الشدادة ـ ديرالزور ـ الرقة، وخصوصاً بعد استرداد القوات النظامية السورية الأخير لتدمر من «داعش»، كذلك إن إسراع الأميركان في معركة الرقة يصب في هذا المنحى الوقائي، ولم يكن من الصدف الإنزال العسكري الأميركي لقوات أميركية وكردية عند منطقة أبو هريرة على طريق حلب ـ الرقة لمنع القوات السورية النظامية التي وصلت إلى بلدة الخفسة من الامتداد نحو الطبقة والرقة. في العراق يسعى ترامب إلى تحجيم طهران عبر ثالوث عربي سني ـ كردي ـ قوى شيعية متفارقة مع الإيرانيين، وهو في اليمن يزيد من دعمه للرياض بخلاف أوباما. هناك اتجاه عند الإدارة الأميركية الجديدة نحو تحجيم النفوذ الإقليمي الإيراني من خلال نظرة ترى أن «إيران قد تضخمت قوتها في الإقليم إلى حدود غير مرغوبة أميركية ومضرة بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها»، وواشنطن تخشى، وهي التي تعتبر الصين التناقض الرئيسي، من أن إيران هي الممر الشرق أوسطي مع باكستان لبكين إلى إقليم الشرق الأوسط، فيما لا ترى روسيا كذلك، وهناك مؤشرات عديدة على أن واشنطن قد تصل في سعيها إلى تحجيم طهران إلى حدود تشكيل حلف إقليمي، مثل «حلف بغداد» عام 1955 الذي كان موجهاً ضد موسكو، ولما فشلت لندن وواشنطن في احتواء عبد الناصر فيه، أصبح أيضاً ضد القاهرة.
* كاتب سوري