نزلتْ الصواريخ الأميركيّة على سوريا برداً وسلاماً. هي هبطت من العلياء، بحسب الإعلام العربي (الموالي كلّه لأنظمة الخليج، الموالية بدورها للعدوّ الإسرائيلي). جريدة «القدس العربي» عنونَت أن «المجتمع العربي والدولي» رحّب بالقصف الأميركي.
والإعلام الغربي بات مُسلّماً بالفرضيّة الملائمة أن محمد بن سلمان أو محمد بن زايد وكل الطغاة العرب (أو الموالين لأميركا منهم فقط) ينطقون باسم كل الشعب العربي. وكان إعلام النظام القطري قد سبق أسبوع التهليل للصواريخ الأميركيّة بتهليل لا يقلّ حماسة عن إعلان تدشين شبكة صواريخ «مقلاع داوود»، وتغنّى بها (لكن العدوّ يصاحب إعلانات تدشين الصواريخ بأكاذيب اتضحت بعد حرب ١٩٩١ ضد العراق عندما تبيّن حجم الأكاذيب الأميركيّة ـ الإسرائيليّة عن شبكة «باتريوت» ضد الصواريخ. كان الجيش الأميركي أعلن بعد نهاية (ما سُمّيَ) «عاصفة الصحراء» أن صواريخ الـ«باتريوت» أصابت (ودمّرت) ٤٥ من ٤٧ صواريخ سكود عراقي (أي بنسبة ٩٥٪ من النجاح). في غضون سنة، عدّل الجيش الأميركي التقدير الأوّل وقال إن نسبة نجاح «باتريوت» كانت ٧٩٪ ضد السعوديّة وبنسبة ٤٠٪ فوق فلسطين المحتلّة. لكن «مكتب المحاسبة العام» للحكومة الأميركيّة عاد وخلُص إلى أن نسبة نجاح الـ«باتريوت» كانت ٩٪ فقط. أما جيش العدوّ، فاضطرّ لاحقاً للاعتراف أن نسبة نجاح الـ«باتريوت» كانت ٢٪ فقط (راجع مقالة «ألاعيب الـ«باتريوت: الصواريخ لم تعمل حقيقة في عام ١٩٩١، هل هي تعمل الآن؟»، موقع «سليت»، ٢٤ آذار، ٢٠٠٣)). أي أن الأكاذيب الأميركيّة والإسرائيليّة جزء من التحضير للحرب، ومصاحبتها.
والمخابرات الأميركيّة أصدرت قبل أسبوع تقريراً غير سرّي لتدعيم مزاعمها عن استعمال السلاح الكيميائي (بات إصدار التقارير هذه ضرورة من ضرورات الأكاذيب الدعائيّة. لكن هذا التقرير اختلف عن سابقاتها، ليس فقط بسبب «الخلاصة» السياسيّة التي تذكّر بمقدّمات نشرات الأخبار في لبنان، بل لأنها أوردت جملاً غريبة غير موثّقة من نوع: «وفقاً لمراقبين في المكان» (هذه تذكّر بمصادر مقالات سركيس نعّوم الذي لا ينفك ينسب تحليلات إلى «مراقبين جديّين»)، أو «لدينا ثقة بهذا الحكم»، أو كميّة كبيرة من التغطية الصحافية ذات المصدر المفتوح (هذه تعني تقارير جرائد مثل «الشرق الأوسط» و«القدس العربي»)، أو «كميّة كبيرة من تقارير وسائل التواصل الموالية للمعارضة السوريّة»، أو «لا يمكن أن تكون المعارضة قد فبركت كل الفيديوهات وباقي التغطية». تقرأ كل ذلك وتتيقّن أن الحكومة الأميركيّة كانت في الماضي أبرع في تغطية الحروب وحياكة الأكاذيب ونشر التضليل الإعلامي.
أما محطة «إل.بي.سي» اللبنانيّة فغطّت خبر القصف الأميركي بالصواريخ بغبطة نادرة. استضافت المُحاوِرة الصباحيّة الخبير الـ«جيو ستراتيجي» (وحكماً، الـ«جيو فينيقي»)، سامي نادر، الذي عبّر عن خشيته من أن تكون الضربة الأميركيّة «تجميليّة» فقط، وذكّر بأن قوّات الاحتلال الأميركي في لبنان في عام ١٩٨٣ لم تردّ بما يكفي على عمليّة تفجير الـ«مارينز» وأن قصفها (بالمدفعيّة الثقيلة والصواريخ من الباخرة الحربيّة «نيوجيرزي») كان بمثابة «ألعاب ناريّة» (قالها بالإنكليزيّة). أما المُحاوِرة (التي يذكرها المشاهدون والمشاهدات عندما اتشحت بالسواد وانتحبت على الهواء حزناً وأسى على راعي الفتنة والإرهاب في المشرق العربي، وسام الحسن)، فكانت تقهقهُ طيلة الحلقة خصوصاً عندما كانت تكرّر مغتبطة أن قاعدة الشعيرات هي «أهم مقرّ عسكري» في سوريا. وهي خشيت مثل ضيفها أن تكون الضربات الأميركيّة «محدودة»، وقهقهت بقوّة على فكرة أن القصف الأميركي لأراضٍ عربيّة هو خرق للسيادة. وهي اختلقت تصريحاً لنتنياهو زعمت فيه أنه قال إن إسرائيل تريد بقاء النظام السوري (لم يرد تصريح كهذا، لكن تصاريح الحكومة الإسرائيليّة في دعم دول الخليج ودعم قوّات المعارضة لا تلفتُ النظر. وإذا كان رامي مخلوف (هل لا يزال متفرّغاً للعمل الخيري؟) قد طمأن الصهاينة في أميركا إلى ضرورة وجود النظام السوري (بقاء النظام أهم من كل القضايا في عقيدة «البعث»)، فإن الصهاينة اليوم يقودون حملة التعاطف (المزيّف حكماً) مع الشعب السوري من أجل شن حرب ضد سوريا (باسم الشعب السوري)).
لكن لا يمكن الحديث عن إعلام عربي. هناك اليوم تلاقٍ بين إعلام أنظمة الخليج (مع تفرّعاته حول العالم العربي) وإعلام العدوّ الإسرائيلي والإعلام الغربي. الإعلام الغربي قرع طبول الحرب مبتهجاً بمجرّد أن انطلقت الصواريخ. والمؤسّسة الحاكمة في واشنطن التي كانت تعبّر عن خوفها من جنون ترامب باتت تثق به وبحكمته بعد أن أطلق العنان للقنابل (أو أمّها، في أفغانستان) والصواريخ. والحزب الديموقراطي، كعادته، نافس الحزب الجمهوري في دعم رئيس جمهوري يقصف دولة عربيّة. أما المرشّح اليساري، برني سندرز، فقد أعلن تأييده لتغيير النظام في سوريا على أن يكون هناك مشاركة من الحلفاء (أي النظام الأردني والسعودي ودولة العدوّ الإسرائيلي). وساندرز هذا كان يهرب من الإعلاميّين الذين كانوا يسألونه عن رأيه أثناء العدوان على غزة في عام ٢٠١٤. وكما كتبت الزميلة زينب حاوي في «الأخبار»، فإن الإعلام الخليجي كان «مُهلِّلاً» للقصف الأميركي. والطريف أن الإعلام السعودي كان قد باشر بتحضير جمهوره لتحوير في الموقف الأميركي من سوريا، قبل أيّام من القصف بالصواريخ عندما صرّح مسؤولون أميركيّون بأن إقصاء بشّار الأسد لم يعد أولويّة. وكتب عبد الرحمن الراشد قبل يوم واحد من القصف الأميركي أنه يجب أن يتأقلم العرب مع الواقع الأميركي الجديد، لكنه عاد وتحدّث بلهجة مختلفة بعد يوم واحد فقط عندما اشتم الإعلام الخليجي تغييراً في الموقف الأميركي.

إن قدرة الرئيس الأميركي على تغيير سياسات الإمبراطوريّة طفيفة

التأقلم والتغيير والملائمة من سمات إعلام الأمراء والشيوخ.
والقصف الأميركي بدا — من خلال التغطية العربيّة له — كأنه أوّل قصف أميركي على سوريا (والقصف الأميركي على أراضٍ سوريّة يُعتبر «قصفٌ على بشار الأسد»، كما أن الحرب الإسرائيليّة على لبنان باتت تُعتبرُ «حرباً على حزب الله»). أما المرصد البريطاني، «إيروورز»، الذي يرصد يوميّات الحرب الأميركيّة الجارية في سوريا والعراق، فهو سجّل أن القوّات الأميركيّة قصفت سوريا — إن من الجوّ أو الأرض أو البحر — للمرّة الـ ٧٩٣٥ (فيما قصفت العراق للمرّة ١١,٦٣٢ منذ انطلاق ما يُسمّى بـ«الحرب على «داعش»»). وقتل القصف الأميركي في شهر آذار وحده ١٤٨٤ مدنياً ومدنيّة في سوريا والعراق. هؤلاء لا يذرف أحدٌ دموعاً عليه، لا في الغرب ولا في الشرق. ضحايا القصف الأميركي لا يستدعون تعاطفاً ولا يغيّر الشباب العربي صور الـ«فايسبوك» من أجلهم، ولا يُحرّكون ساكناً في جوقة «جو سوي» الشهيرة. ضحايا القصف الأميركي لا وجود لهم في الإعلام، لا في الإعلام الغربي ولا الشرقي. صواريخ وقنابل باتت مثل الصواريخ والقنابل الإسرائيليّة في عرف الإعلام الصهيوني: أي أنها لا تصيب مقتلاً إلا من الإرهابيّين والإرهابيّات — ومن مختلف الأعمار. ونسبة قتل المدنّيين بالصواريخ الأميركيّة تجاوزت نسبة القتل بالصواريخ الروسيّة، والسباق لا زال جارياً.
والموضوع الذي أثار الحدث السوري هو خبر القصف بالسلاح الكيميائي. لكن هناك أسئلة حول الموضوع لا يمكن الإجابة عنها. وكما يقول الرفيق عامر محسن، إذا كانت الصهيونيّة تسعى لإخراس الأصوات المعارضة لها، فإن إعلام المعارضة السوريّة المسلّحة (ومؤيّديها في الغرب) يسعى لإجبارِك على ترديد مقولاته، وإلا فأنتَ شبّيح ومؤيّد طائفي للنظام السوري (على أن قوى المعارضة المسلّحة ورعاتها في الخليج يتصفون بالعلمانيّة المحضة). إن استعمال السلاح الكيميائي — إن من قبل النظام أو من قبل قوى أخرى — يشكّل جريمة حرب أكيدة، تُضاف إلى تراكم جرائم الحرب التي ارتكبها النظام السوري وقوى المعارضة المسلّحة وحلفاؤهم على حدّ سواء. لكن الجزم بالمسؤوليّة عن هذه الجريمة الأخيرة مستحيل من دون تحقيق ميداني حِرَفي. وسألتُ صديقاً أستاذاً في كليّة الطبّ في جامعة هارفرد عن الجزم بالمسؤوليّة بهذه السرعة فقال لي بالحرف (أُترجم عن الإنكليزيّة): «من المستحيل أن تكون القوى الغربيّة قد استطاعت أن تتوصّل إلى تحديد طبيعة ومسؤوليّة النظام عن الهجوم فوراً تقريباً. لم يجروا فحصاً طبيّاً جنائيّاً بعد — ليس على الجثث ولا على المواد المُستعملة. هناك دعاية سياسيّة مفرطة في تعليب القصّة. وتظنّ أن لجريدة الـ«غارديان» مراسل يجلس في وزارة الدفاع السوريّة ويُمَدّ بأسرار الدولة على مدار الساعة. لكن هذا لا يعني أن النظام بريء من الجريمة، لكن هذا غير الجزم بمسؤولية النظام».
وفي عام ٢٠٠٢، حضّرت الحكومة الأميركيّة العالم لغزو العراق. فتناقل إعلامها (وإعلام الخليج الموالي) مزاعم عن امتلاك العراق لسلاح الدمار الشامل. ونشرت «الحياة» و«الشرق الأوسط» في حينه، رسوماً عن مركبات خاصّة بصنع الأسلحة البيولوجيّة. والإعلام الخليجي الذي أطنب في مديح صدّام حسين في الثمانينيات، عاد وانقلب عليه عندما وصلت أوامر مختلفة. والذي عارض أو شكّك في المعلومات الأميركيّة، اتُهم فوراً بالدفاع عن صدّام والبعثيّة. لم يكن هناك مِن مجال للتشكيك. ألم يظهر كولن باول في الأمم المتحدة وألم يجلس وراءه مدير المخابرات الأميركيّة لتأكيد مزاعم باول؟ لم يكن من مجال للاعتراض، وإلا فأنت بعثي صدّامي مُجرم. والصحافة العربيّة التي هلّلت لصدّام اكتشفت فجأة خروقات لحقوق الإنسان في العراق (لأن الصحافة هذه تنطق باسم أنظمة تشكّل نموذجاً فاضلاً لحقوق الإنسان، مما يفسّر اللهجة الوعظيّة الأخلاقيّة لكتابها عندما يعيّرون كتّاباً يختلفون معهم في الرأي). والحالة يمكن أن تكون تتكرّر. هذه المرّة لم تقم الحكومة الأميركيّة بعرض مسرحي في الأمم المتحدة، ولم يحتج الإعلام العربي للتحضير. يتجاهل البعض حقيقة من إعلام المعارضة السوريّة المسلّحة (بأجنحتها الموالية للنظام السعودي الفاضل أو تلك الموالية للنظام القطري الفاضل أو تلك الموالية للنظام التركي الفاضل، أو تلك التي تتشعّب ولاءاتها) يزعم على مدار الساعة أنه تعرّض لهجوم بأسلحة كيميائيّة من قبل النظام. وبعد يوم واحد من القصف الأميركي قامت المعارضة المسلّحة وإعلام دول الخليج (الراعية لحقوق الإنسان في العالم العربي) بنشر مقالات عن قيام النظام باستعمال سلاح كيميائي وفوسفوري والنابالم وغيره من الأسلحة المُحرّمة (أسلحة حروب الغرب غير مُحرّمة دوليّاً). لكن كيف يختار الغرب مِن بين المزاعم المختلفة لقوى المعارضة المُسلّحة؟ لماذا يختار أن يتعاطف إنسانيّاً مع بعض ضحايا ما يُقال إنه سلاح كيميائي (حسب تغريدات على مدار الساعة لقوى المعارضة المسلّحة) ويختار أن يتجاهل بعض من يُقال إنهم ضحايا لاستعمال سلاح كيميائي من قبل النظام؟ عندما تتكرّر وتتعدّد الادعاءات حول استعمال السلاح الكيميائي، ألا يستدعي ذلك تحقيقاً من أجل التيقّن عن المسؤوليّة (وإذا كان النظام مسؤولاً عنها عندها يمكن توثيق بيانات ادعاء بجرائم حرب، أو إذا كان هناك مسؤوليّة لقوى المعارضة المسلّحة، فيمكن توثيق ذلك أيضاً). والاتفاق الروسي ـ الأميركي في عام ٢٠١٣، ألم يؤدِّ — كما قيل لنا — إلى إزالة السلاح الكيميائي السوري؟ جون كيري وصف ما حدث يومها بأنه أزال «مئة بالمئة من السلاح الكيميائي السوري». هل كان يكذب جون كيري؟ أم أن معلومات المخابرات الأميركيّة لا يمكن الركون إليها؟ أم يجب الركون إليها أحياناً لكن ليس دائماً؟ ولماذا جزمت المخابرات الأميركيّة هذا الأسبوع فقط بأن النظام أبقى على بعض من سلاحه الكيميائي؟ هل هي الصدفة أن الجزم تزامن مع القصف الأميركي؟
لكن من المُبكّر الحديث عن تبلور سياسة جديدة لترامب بالرغم من الترحيب العربي الكبير بالقصف الأميركي (الطريف أن الليبراليّين والإنسانيّين واللاعنفيّين في المعكسر الخليجي انتقدوا القصف الأميركي فقط لأنه محدود ولأنهم لا يأملون من تدخّل عسكري أميركي كبير). قد يكون ترامب من أقلّ الرؤساء الأميركيّة مبدئيّة: هو لديه عقيدة ماليّة لكن آراءه السياسيّة قابلة للتغيير وفق المصلحة والمزاج. ووعود الحملة الانتخابيّة قلّما تتنبّأ بمسار إدارة أميركيّة جديدة. جورج دبليو بوش وعد بأن يتنصّل من مشاريع «بناء الأمم» التي لام سلفه على الالتزام بها — ثم كانت ١١ أيلول. ويجري غراهام أليسون (عالم السياسة وصاحب المؤلّف المرجع عن صنع السياسة الخارجيّة في أزمة الصواريخ الكوبيّة، في كتاب «خلاصة القرار») مقارنة في مقالة في مجلّة «أتلانتيك» بين وودرو ولسن ودونالد ترامب، ليقول إن وعد «أميركا أوّلاً» لا معنى له لأن الأحداث هي التي تفرض نفسها على الرئيس فتغيّر من وعوده أو تقلبها رأساً على عقب (كان ولسن قد انتُخب في عام ١٩١٦ تحت شعار «أميركا أوّلاً» والوعد بالتنصّل من الحرب العالميّة الجارية في أوروبا).
تزامن هذا الفصل الدراسي مع بداية عهد إدارة أميركيّة جديدة. وكان التلاميذ في مادة «العلاقات الدوليّة» يمطروني يوميّاً بأسئلة عن اتجاهات الإدارة الجديدة في العلاقات الدوليّة. وكنتُ أقول لهم (ولهنّ) إن قدرة الرئيس الأميركي على تغيير سياسات الإمبراطوريّة طفيفة — خلافاً للثقافة السياسيّة السائدة ولفرضيّات الإعلام. إن الإمبراطوريّة تسير وفق أحكام ومعايير وسياسات وثوابت لا يستطيع الرئيس إلا إحداث إجراءات صغيرة فيها. هناك طبعاً استثناءات (مثل الانفتاح على الصين في عهد نيكسون) لكن شروط التحكّم بمسار الإمبراطوريّة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة باتت أكثر صرامة وجموداً من قبل. والدلائل على أن ثبات السياسة الخارجيّة يطغى على توجّهات ووعود الرئيس ظهرت في أوّل شهريْن من عهد ترامب: ١) هو وعد باتباع سياسة الحزم والتقريع مع أنظمة الخليج، لكنه عاد واحتضن تلك الأنظمة وسلّحها كما فعل أسلافه من قبله. ٢) هو وعد بفرض سياسة تكافل النفقات في حلف شمال الأطلسي وقلّل من أهميّة الحلف، لكنه عاد وأعلن التزاماً بالحلف وزيادة نفقات الحلفاء لم تُبتّ بعد. ٣) هو وعد بأن يتبع سياسة مختلفة مع روسيا، لكنه لم يجرؤ بعد حتى على الاجتماع ببوتين لأن نخبة السياسة الخارجيّة في الكونغرس وخارجه فرضت عليه أن يحيد عن مواقفه المهادنة إزاء روسيا. ٤) هو تعهّد بأن لا يسمح لكوريا الشمالية باختبار صواريخ بالستيّة، لكن كوريا الشمالية مضت في تجاربها. ٥) هو تعهّد بتمزيق الاتفاق النووي الإيراني في أوّل يوم من إدارته، لكنه لم (ولن) يفعل ذلك. ٦) هو وعد بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، لكنه عاد وغيّر رأيه ولا يزال يعد بـ«درس» الموضوع. ٧) هو لم يلتزم بـ(لا) لحل الدولتيْن، لكنه عاد وأيّد سياسة الحزبيْن في الموضوع وعارض بتهذيب شديد وليّن (كما أسلافه) بناء المستوطنات في الضفّة الغربيّة. ٨) لمّح إلى تغيير سياسة «الصين الواحدة» ثم تراجع عنها. وكلّما التزم الرئيس بثوابت سياسات الإمبراطوريّة كلما نال فائدة سياسيّة من الحزبيْن ومن الإعلام (كما حدث هذا الأسبوع).

لدى ترامب عقيدة
ماليّة لكن آراءه السياسيّة قابلة للتغيير وفق المصلحة والمزاج

لم يبلور ترامب عقيدة خاصّة به، ومن المستبعد أن يقوم بذلك لما يُعرف عنه من كسل ذهني (وهذا ينطبق على جزء من فريق المستشارين). لكن ترامب قرّر أن يقصف قاعدة عسكريّة في سوريا بناء على رؤية غير واضحة أو معلنة. وهناك نظريّات مختلفة لا تشكّل في جمعها عقيدة: مِن أنه قصف سوريا بإيعاز من ابنته (والإعلام الخليجي لا يزال مفرط في ذكوريّته السوقيّة في إشاراته إلى إيفانكا ترامب)، أو لأنه رأى صور الضحايا فتأثّر (لم يُعرف عن ترامب رقّة مشاعره لكن إعلام النفط ركّز على الناحية الإنسانيّة لترامب)، أو لأنه يتحرّك بناء على سياسة معاكسة سياسات أوباما، بمعنى أنه يقصف لو أحجمَ أوباما، ويُحجم لو قصف أوباما. وهناك جانب متخبّط في إدارة أوباما: لم تبرز عناصر قوى متصارعة في داخل الإدارة في السياسة الخارجيّة لأن الجنرالات تسلّموا من ترامب زمام القيادة في السياسة الخارجيّة والدفاع، فيما أثبت ركس تلرسون، وزير الخارجيّة، أن مِن أضعف وزراء الخارجيّة منذ أكثر من عقديْن من الزمن. والخلاف التقليدي بين «الدفاع والخارجيّة» (وكتاب «الخارجيّة ضد الدفاع: المعركة لتعريف إمبراطوريّة أميركا» يبحث في نتائج الصراع التقليدي على صنع السياسة الخارجيّة) ليس موجوداً في هذه الإدارة لأن مجلس الأمن القومي ووزارة الدفاع ينسقّان بانسجام في تنفيذ أوامر الرئيس.
وقرار ضرب سوريا لم يكن فكرة جديدة من ترامب. هو ورث عن سلفه جملة من ثلاثة خيارات عسكريّة في سوريا من عام ٢٠١٣ واختار اثنيْن منها (لم تصرّح الإدارة بماهية الخيار الثاني السرّي لكن الناطق المتعثّر باسم البيت الأبيض قد يكون قد سرّبه عن غير قصد عندما تحدّث عن «زعزعة» سوريا — كأن البلاد تحتمل مزيداً من الزعزعة). والخيارات العسكريّة توكيد لفكرة أن الإمبراطوريّة يمكن أن تعمل وفق نظام التسيير الذاتي بصرف النظر عن شخصيّة الرئيس.
يُقتل الشعب السوري يوميّاً وبوسائل متعدّدة، ومن قبل النظام ومن قبل كل فرق المعارضة المسلّحة. كيف نقرّر متى ندين ومتى نستنكر ونشجب ومتى ننتحب؟ هل نأخذ إشاراتنا من الجمهور المُعبّأ بالشحن الطائفي والمذهبي أم من إعلام أمراء النفط والغاز، أم من «نيويورك تايمز»، أم من حنان عائلة ترامب التي لا يهنأ لها نوم قبل الاطمئنان على سلامة الشعب السوري؟ والرجل الذي جاهر بعدائه للمسلمين — كل المسلمين — وضد الإسلام والذي احتضن في حملته الانتخابيّة وإدارته عتاة كارهي كل العرب والمسلمين بات «صديقاً حقيقيّاً للمسلمين»، بحسب وصف خليفة المسلمين، محمد بن سلمان آل سعود. والملك الأردني (الذي طار وانتظر في فندق في واشنطن كي يلتقي بصورة عابرة قبل شهر مع ترامب بعد أن كان الأخير قد رفض إعطاءه موعداً مبكّراً) أكّد بعد زيارة رسميّة قبل أيّام أن ترامب حريص على «السلام» بين العرب والاحتلال الإسرائيلي (ولا يختلف مفهوم السلام الأميركي مع المفهوم الذي حمله الهاشميّون منذ الأمير عبدالله).
لقد وقعت جريمتا حرب في خان شيخون (وبعدها في الراشدين ضد مدنيّين من ضحايا حصار المعارضة المُسلّحة الإنسانيّة)، القصف الذي أودى بحياة الأبرياء (إن بالسلاح الكيميائي أو بغيره، أي أن قوّات النظام مسؤولة لو أن هذه القنابل قتلت أبرياء حتى لو تكن مخضّبة بالسلاح الكيميائي، كما أن تفجير باصات المدنيّين والمدنيّات هو جريمة حرب أيضاً — لكن مقبولة من قبل إعلام الغرب). لكن الذين انتشلوا جثث الأطفال مِن بين الضحايا في خان شيخون وكدّسوها فوق بعضها البعض وبأوضاع مُلفتة لغايات الدعاية السياسيّة التصويريّة هم أيضاً ارتكبوا جرائم حرب من خلال التمثيل بجثث الأطفال. وهذا ليس جديداً على المعارضة المسلّحة التي — بصورة ملفتة للغاية — لا يظهر في صور ضحاياها إلا الأطفال والنساء. لا يقطن في مناطقهم إلا النساء والأطفال، كما أنهم مصرّون على أن «الشبيحة» فقط هم الذين يقطنون في كل المناطق التي تخضع لسلطة النظام.
والإدارة الأميركيّة تحضّر شعبها للأسوأ. هتلر حاضر كي يُستعان به. في الحرب الغربيّة ـ الإسرائيليّة ضد عبد الناصر، تحوّل الرجل إلى هتلر آخر، كما أن صورة واحدة للحاج أمين الحسيني مع هتلر حوّلت الشعب الفلسطيني من قبل إلى أفراد هتلريّة مسلّحة. وصدّام، كان أيضاً هتلر في عام ١٩٩١ وفي عام ٢٠٠٣، كما كان القذّافي في عام ٢٠١١. أما اليوم، فإن بشّار الأسد قد فاق هتلر في إجرامه، بحسب الناطق باسم البيض الأبيض. الغرابة أن التشبّه بهتلر على ألسنة العرب فيما يتعلّق بجرائم إسرائيل يؤدّي إلى اتهامات فوريّة بالعداء للسامية وبإنكار المحرقة. لكن يحقّ للصهيونيّة (الإسرائيليّة والأميركيّة) ما لا يحقّ لغيرها من استعارات وتشابيه — ومن جرائم حرب.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)