أضفت الضربة الأميركية على مطار الشعيرات تعديلاً كبيراً على المسار السياسي الذي كانت ترعاه روسيا بالاشتراك مع تركيا وإيران. فبعد التدخّل الروسي في أيلول من عام 2015 وحصول تغييرات ميدانية كبيرة لمصلحة النظام وحلفائه تمّ التراجع عن فكرة إسقاط الأسد، وأُنيطت مهمّة البحث في مصيره بالعملية الانتقالية التي كانت قد بُحثَت في جنيف 1 و2 ولكن وفق صيغ تتناسب مع التطوّرات الميدانية حينها، وهي لم تكن في مصلحة النظام عموماً.
عُدّلت الصيغ لاحقاً بما يتناسب مع التطوّرات، فشهدنا تحوّلات عديدة في المسار التفاوضي كان آخرها بعد محطات جنيف المتعددة وفيينا ولوزان العاصمة الكازاخستانية الأستانا. هناك، وبعد حصول الاستدارة التركية الجزئية بفعل تداعيات الانقلاب الفاشل أُضيف إلى المسار السياسي الذي يبحث في المرحلة الانتقالية وترتيباتها (الدستور، الانتخابات، مصير الرئيس) مسار عسكري مرتبط باتفاق الهدنة المُبرم بين موسكو وأنقرة أواخر العام الماضي. المسار الجديد بدا ضرورياً في ظلّ أزمة التمثيل التي حصرت وجود المعارضة بكيانات سياسية لا تملك من أمرها شيئاً ولا تستطيع إذا امتلكته إلزام المجموعات المقاتلة به. المجيء بهذه المجموعات إلى الطاولة كان بمثابة إعادة ضبط للعمل التفاوضي، بحيث يصبح هنالك جدوى من إعادة إطلاقه ولو على صعيد إبرام الهدن ومراقبتها فحسب. الحصيلة لم تكن مثالية ولكنها مهّدت على الأقلّ لاستعادة لحظة التفاوض في ظلّ موازين قوى تسمح بحصول اختراقٍ ما على جبهة التسوية.

فصل الجبهات

في هذه المرحلة وبالتزامن مع لقاءات أستانا كانت جبهات القتال مع النظام تُغلق تباعاً، فبعد تجميد جبهة الجنوب وفصلها عن القتال في الغوطتين وضواحي العاصمة انتهت الجبهة الشمالية التي كانت الأكثر نشاطاً قبل السيطرة على حلب إلى أعمال تحريك تتولاها تركيا في مواجهة «داعش» والأكراد، وتقوم روسيا بمواكبتها من الجوّ. وصلت هذه المرحلة إلى ذروتها حين تقدّم الجيش السوري وحلفاؤه إلى جنوب الباب بعد سيطرة تركيا على المدينة، فقام الروس بالاتفاق مع أنقرة بوضع خطّ فاصل بين القوتين في بلدة تادف، وتحرّكوا على خط موازٍ على جبهة منبج حيث الوجود الكثيف لقوات سوريا الديمقراطية المتحالفة مع الأميركيين. أسفر التحرّك عن تسليم بعض البلدات غرب منبج إلى الجيش السوري، فبقيت المدينة تحت سيطرة الأكراد مع تواجد رمزي للقوات السورية فيها، وحُدِّد في المقابل للأتراك منطقة نفوذ تمتدّ من جرابلس في الشمال الشرقي مروراً بالراعي وأعزاز وصولاً إلى الباب جنوب غرب منبج. حصل هنا ما يشبه الفصل بين القوّات المتنازعة، وتحرّكت الجبهات في إطار «عملية سياسية» تستهدف جرّ الأجنحة العسكرية في المعارضة إلى التفاوض لقاء بعض المكاسب الميدانية التي قُدّمت إليها بفضل عملية درع الفرات. لم يكن ذلك ليحصل لولا الانكفاء الأميركي وتخلّي واشنطن «طوعاً» للروس عن قيادة المسار الجديد في أستانا بعد معاودة ربطه بالمسار الأساسي الذي تقوده الأمم المتحدة ومجموعة «دعم سوريا» في جنيف. وما قُدم للأميركيين في المقابل هو إطلاق يدهم في التحضير لمعركة الرقة التي كانت تتهيأ قوات سوريا الديمقراطية المتحالفة مع واشنطن لتصعيدها في إطار القضم الذي كان يجرى منذ فترة لمواقع التنظيم في شمال وشمال شرق الرقة. في هذا السياق حصلت عملية الإنزال المشتركة غرب مدينة الطبقة، والتي تصاعد على إثرها حصار التنظيم في معقله الأساسي داخل مدينة الرقة، فأصبح بعد العملية وقطع عُقَد المواصلات التي تصل المدينة بشمال شرق البلاد وغربها شبه محاصر، بالإضافة إلى ما يتعرّض له أصلاً من تضييق في مناطق سيطرته الأخرى المحاذية لمناطق النظام (شرق حمص، شرق حلب).
لا يمكن فصل هذا المسار عن المسارات الأخرى التي تشكّلت إثر انطلاق عملية أستانا، فالاتفاق على تنظيم القتال كان «شاملاً تقريباً»، باستثناء بعض الخلافات التي ظلّت قائمة حول شمول «جبهة النصرة» من عدمها في الأعمال التي يتولاها الروس والإيرانيون بمشاركة الجيش السوري والحلفاء. هذا التوجّه نحو فصل المسارات القتالية ربطاً بالاتفاق على استهداف التنظيم كان أساسياً في استمرار الدينامية التي أطلقتها عملية أستانا، وانتهاؤه اليوم بفعل معاودة الأميركيين استهداف النظام لا ينهي مفاعيل الهدنة فحسب، بل يضع كلّ التقدم الذي أُُنجز على مسار التسوية على حافة الهاوية.

أفق التدخّل المقبل

والخطورة اليوم أنّ معاودة ربط المسارات على قاعدة استهداف النظام و«داعش» معاً لا تحصل وفقاً لاستراتيجية واضحة، بل تخضع لردّات فعل تتولّى أجنحة نافذة داخل الإدارة الأميركية تقديمها بوصفها انقلاباً على استراتيجية أوباما التي يرى هؤلاء أنها أضعفت نفوذ الولايات المتحدة داخل سوريا والإقليم لمصلحة روسيا. وفضلاً عن كونها لا ترقى إلى مستوى الاستراتيجية فهي أيضاً تعاني من ثغرات عديدة، أهمّها اصطدامها بالواقع الذي أفضت إليه التدخّلات المختلفة، بدءاً من التدخّل الروسي مروراً بالكانتونات الكردية ومعاودة النظام انتزاع حلب، وانتهاءً بالتدخّل التركي تحت غطاء عملية درع الفرات التي أُعلن عن انتهائها مؤخراً. التحدّي الذي تواجهه إدارة ترامب في حال قرّرت تصعيد عملياتها بعد استهداف مطار الشعيرات سيكون مرتبطاً أكثر بالقدرة على إيجاد بدائل للمسارات التي عملت عليها روسيا بعد الانتهاء من آثار التدخّل العسكري المباشر. فالروس بخلاف القوى الأخرى التي لم تضع لتدخّلها العسكري أفقاً سياسياً كانوا واضحين من حيث دعمهم لعملية التسوية، وعملوا منذ البداية على ربط المسارين العسكري والسياسي بحيث ينعكس أيُّ تقدم يحصل في الميدان إيجاباً على المستوى السياسي. صحيح أنّ تدخّلهم كان مصحوباً بجرائم تحصل هنا وهناك، ولكنها من النوع الذي لا يقود إلى قطيعة مع القوى التي تتعرّض بيئاتها لانتهاكات مماثلة، بدليل أنهم وحدهم دون باقي حلفاء النظام الذين كان يُسمَح لهم بالدخول إلى مناطق معينة تحت سيطرة المعارضة حين يتطلب الأمر التواصل مع مسلحيها أو إخراجهم من هناك بضمانات معينة (الغوطة، الوعر... الخ). ذروة هذا المسار كانت في إنشاء «مركز حميميم» الذي استفاد من خبرة النظام في إجراء المصالحات مع البيئات المعارضة الراغِبة في التسوية، قبل أن يطوِّرها لاحقاً لتصبح مركز القيادة الفعلي لعملية المصالحات بدلاً من أجهزة السلطة والجيش. كلّ ذلك أفضى إلى حصول تحوّل نوعي يصعب على أيٍّ كان تجاوزه، فالروس بتدخّلهم المعقّد والمترافق مع جملة من النشاطات السياسية والاجتماعية والإنسانية لم يقودوا أعمالاً عسكرية فحسب، بل أسهموا في إنشاء بنية تحتية للتسوية هي الأكبر والأكثر تأثيراً واتساعاً منذ عقود. والسؤال الذي يُطرح هنا هو عن استعداد إدارة ترامب لمواجهة هذا التحدّي الهائل الذي طرحته روسيا بإنشائها هذا القدر من المرافق الحيوية المتعلّقة بالصراع، بحيث أصبح أيُّ تدخّل في المستقبل لدفع التسوية قُدُماً (يستثنى من ذلك الأميركيون طبعاً) مطالباً بتقديم بدائل لا تكتفي بالعمل العسكري فقط، بل تربطه «إذا كان لا بدّ منه» بأفق سياسي لا يكون على حساب أحد من السوريين، سواءً في الداخل أو في الخارج.
* كاتب سوري