من الغريب أنه فاتنا، جميعاً، تقريباً، أن الانتفاضة الأولى ضد طاغية من طغاة العالم العربي اندلعت في السودان في عام 1985، ضد المخلوع جعفر النميري، لكن ما حدث هو انتقال السلطة إلى التكفيريين من الإخوان المسلمين، كما جرى لاحقاً، وإن مؤقتاً، في مصر وتونس.
الحديث في دور القوات المسلحة السودانية اقتصادياً يتطلب العودة إليه منذ الاستقلال حيث خضعت للحكم العسكري بين عامي 1958 و1964، وبين عامي 1969 و1985، ومنذ عام 1989 إلى يومنا هذا. القوات المسلحة السودانية اتخذت مواقف محايدة تجاه الانتفاضات الشعبية، ما أفسح في المجال أمام هزيمة أنظمة الطغاة. لكنها أجبرت على الانخراط في حروب أهلية أو حروب انفصال منذ عام 1956، باستثناء فترة الأحد عشر عاماً التي أعقبت توقيع اتفاقي أديس أبابا عام 1972. بعد ذلك، استولت مجموعة من الضباط المتطرفين على السلطة عام 1998 وما زالوا متمسكين بالكرسي اللعين.
هذه الطغمة الجديدة/القديمة، أدخلت تعديلات بنيوية على القوات المسلحة السودانية ووسعت من نشاطها الاقتصادي خصوصاً بين عام 2000 و2011 إبان الطفرة النفطية. إعادة هيكلة القوات المسلحة هذه تطلبت العمل على اتجاهين هما الاقتصادي والفكري، آخذين في الاعتبار مكونات الدولة الإثنية أو الثقافية/ الدينية المختلفة، إضافة إلى الاتجاهات السياسية المصاحبة.
التزاوج بين قيادات القوات المسلحة والحكم دفع بأحد المحللين إلى وصف النظام القائم في السودان بأنه رأسمالية حزبية ـ طفيلية، وبيروقراطية عسكرية حيث استحال الجيش، بمختلف قطاعاته، إلى بيروقراطية معسكرة.
ابتداءً من الطفرة النفطية آنفة الذكر، اندلع في السودان صراع بين القوات المسلحة من جهة والاستخبارات من جهة أخرى، ممثلة بـ«جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني» و«قوات الدعم السريعة» والذي قاد إلى تشكيل الاقتصاد في تلك الدولة.
من المهم هنا التنويه إلى أن معظم ضباط القوات المسلحة السودانية كانوا من المثقفين ويشكلون جزءاً من الطبقة الوسطى في البلاد (درجة الثقافة العالية لدى كافة السودانيين كثيراً ما أُهملت في الماضي). وكما هو الحال في كثير من الحالات، فإن معظم جنود القوات المسلحة السودانية وضباط الصف أتوا من المحيط وانتموا إلى الطبقة العاملة، لكنهم وجدوا أنفسهم في خدمة الطبقات المالكة.

الطفرة النفطية في السودان لم تؤد إلى تأسس صناعة عسكرية

في أعقاب تسلّم الجيش السوداني بقيادة الجنرال عبود سدة الحكم وتولي حزب الأمة الإخواني رئاسة الوزراء، فتح المجال أمام فئات واسعة من الشعب للانضمام إلى القوات المسلحة، وتسلمهم مناصب عليا فيها، قاد، ضمن أمور أخرى إلى ظهور مجموعة من الضباط المنتمين إلى الطبقة الوسطى وحاملي الفكر التقدمي. هذا قاد إلى اندلاع صراع داخل القوات المسلحة السودانية، حيث انضم كل طرف إلى طبقته أو حزبه السياسي. هذا الانقسام الطبقي رافقه انقسام إثني أيضاً.
الانقسام الطبقي قاد إلى محاولة زعزعة القوات المسلحة السودانية وإفسادها عبر إقحامها في الزراعة الآلية، مع أن هذا لم يؤدِّ إلى نشوء فئة رجال أعمال من الضباط. هذا الحال استمر حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي.
الصراع بين الفئتين، البرجوازية الصغيرة والضباط التقدميين وصل إلى مرحلة صدام في عام 1964، تحديداً على خلفية الموقف الواجب اتخاذه تجاه الانتفاضة الجماهيرية التي اندلعت في البلاد ضد الحكم العسكري. في الوقت نفسه، التأثير الناصري وصل إلى القوات المسلحة السودانية، وقاد إلى تشكيل خلايا من «الضباط الأحرار» أجبرت حكم الجنرال عبود على التخلي عن السلطة استجابة للانتفاضة الجماهيرية التي كانت تطالب بإنهاء الحكم العسكري.
هذا التحرك قاد إلى هزيمة فئة كبار الضباط وحلفائهم من الرأسماليين المحافظين في المجتمع. لكن القوى الرجعية تمكنت من الانقلاب على النظام التقدمي وأعقب ذلك عربدة وهستيرية إخونجية معادية للشيوعية، مدعومة أميركياً ومصرياً، تمثلت، ضمن أمور، في طرد أعضاء البرلمان السوداني الشيوعيين وتعديل الدستور لحظر الحزب الشيوعي السوداني ما أدى بالضرورة إلى إضعاف الروابط والاتحادات والنقابات التي كان لليسار السوداني الأغلبية فيها. هستيريا معاداة الشيوعية وكل ما يمت لليسار بصلة قاد إلى إعلان الإخونجية المدعومة أميركا إلى شنّ حرب على كافة القوى اليسارية في المجتمع.
هذا الوضع استمر حتى عام 1969 عندما أنجز «الضباط الأحرار» بقيادة جعفر النميري، انقلاباً أدى إلى إنهاء الحياة السياسية في البلاد. ولم تمض فترة طويلة حتى اندلع الصراع بين الجناحين في القوات المسلحة السودانية، أي اليسار والشيوعيون من جهة والناصريون اليمينيون المحافظون من جهة أخرى.
في تموز عام 1971، أنجز الضباط اليساريون في القوات المسلحة السودانية ثورة، على شكل انقلاب، ذلك أنهم أعلنوا إصرارهم على عكس سياسات النميري الموالية لواشنطن وإصرارهم على محاربة الاستعمار الجديد.
لكن الانقلاب/ الثورة لم تدم، حيث سارعت القوى اليمينية المحلية والعربية والدولية للتدخل المباشر، وفي مقدمتهم نظامي أنور السادات ومعمر القذافي، إضافة إلى المليونير السوداني خليل عثمان.
عقب ذلك، قام نظام جعفر النميري بالتصالح مع الجنوب الانفصالي، وتغيير مذهب القوات المسلحة حيث صار على ضباطه القسم بالولاء للنظام وليس للوطن. وعقب ذلك سلسلة من السياسات الاقتصادية تمثلت في «الباب المفتوح» تدعمها مشيخات العمولة والعمالة الخليجية النفطية، ومعسكر دول حلف الأطلسي.
في عام 1982، أصدر جعفر النميري مرسوم بتشكيل «التعاونية الاقتصادية العسكرية» انظر Bienen, H.S., and J. Moore, «The Sudan» Military Economic Corporations» Armed Forces and Society Vol. 13, No. 4, 1987, pp. 489–516»، وحدد هدفها بالتالي:
- استخدام الموارد الزائدة للقوات المسلحة لدعم الاقتصاد الوطني.
- تحسين الأوضاع المعيشية لأعضاء القوات المسلحة.
- توفير كافة احتياجات القوات المسلحة من ذخيرة ومعدات وأسلحة، وغيرها، وتسهيل النشاط الاقتصادي للقوات المسلحة.
- رفع مستوى أداء أفراد القوات المسلحة في المجال التقني الإداري.
القوات المسلحة السودانية باشرت نشاطها الاقتصادي غاية في التواضع بجمع بقايا البضائع المستوردة والمركبات وغيرها وإعادة تدويرها. أما هدف التعاونية الاقتصادية العسكرية، فكانت إعادة بنية القوات المسلحة وتحويلها إلى فئة طبقية مستقلة وجودها مرتبط باستمرار النظام. وكذلك تأسيس علاقة بين القوات المسلحة السودانية وطبقة رجال الأعمال الذين زودوا كبار الضباط بالبضائع الاستهلاكية وبالمركبات الفخمة.
حكم جعفر النميري الأتوقراطي أضحى بذلك مرتكزاً إلى أجهزة الاستخبارات ما أدى إلى بروز تذمر في صفوف القوات المسلحة، التي اخترقتها حركات إسلامية التي أضحت القوة الرئيسة الثالثة في انتخابات عام 1986. بعده تسلم المشير عبد الرحمن سوار الذهب لمدة عام وسلم السلطة لممثلي الشعب.
انتفاضة عام 1985 بقيادة النقابات المهنية والعمالية، المتحالفة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي أعلنت الإضراب العام، طالبت بحل أجهزة الاستخبارات وطرد الفاسدين وإيقاف العمل بقوانين الشريعة. لكن القوات المسلحة التي اخترقتها الحركات الإسلامية رفضت مطلب وقف العمل بالشريعة وطالبت جيش تحرير السودان بتسليم أسلحته أو...!
إسقاط نظام النميري أدى إلى قيام حكم إسلامي عسكري متحالف مع حزب «الإخوان المسلمين» بقيادة حسن الترابي الذي لم يخف امتعاضه من العسكر، امتد من عام 1989 إلى عام 1999.
ما إن تسلم الإسلاميون الحكم حتى قاموا بطرد كل معارضيهم من القوات المسلحة وأغروا الضباط المتقاعدين بمكافآت لتأسيس أعمالهم الحرة، واستيعاب بقية كبار الضباط في شبكات الرأسماليين.
نجح حزب «الإخوان المسلمين» في تدبير الانقلاب بفضل «النظام الخاص» التابع لهم الذي تعود جذوره إلى حسن البنا، والهدف حماية الحركات الإسلامية من اختراقها عبر العِلمانيين واليسار. وقد أشرف النظام الخاص هذا على تدريب «الإخوان» والمناصرين عسكرياً، في المدارس والجامعات ومختلف الأحياء.
سيطرة حزب الترابي على الجيش حوله إلى أداة لحماية جزء من المجتمع ودولة «الإخوانجية»، ما قاد إلى طرد آلاف من كوادر القوات المسلحة السودانية وضباطها. كما صدرت أحكام بالقتل على قادة كافة الحركات التي تحدت حكم الانقلابيين الإخونجية.
هذا التطور الخطير في بنية القوات المسلحة قاد إلى ابتداع التكفيريين مفهوم «الشعب المقاتل»، إضافة إلى طرح مفهوم الجهاد (ضد من؟!). كما أسس التكفيريون مليشياتهم المسلحة بسبب عدم ثقتهم بالقوات المسلحة السودانية وقياداتها. وفي مرحلة لاحقة تم تأسيس قوات العشائر المسماة «المراحيل»، التي تطورت لاحقاً لتضحي «الجنجويد» التي حاربت في غربي البلاد. أما عدم ثقة قيادات الأحزاب التكفيرية بالجيش فقاد، ضمن أمور أخرى، إلى ازدياد الاعتماد على جهاز المخابرات الذي أضحى أقوى من القوات المسلحة السودانية.
عملية محاصرة الإسلاميين للقوات المسلحة السودانية تجلى أيضاً في عدم احترام نظام تسلسل المرتبات فيه، إضافة إلى عدم احترام التسلسل الزمني للترقيات. هذا أدى إلى بروز فئة في الجيش تتمتع بامتيازات خاصة، خصوصاً بعد تأسيس «منظمة الشهيد».
الإفساد في القوات المسلحة، وفي قياداتها تحديداً، أدى، ضمن أمور أخرى، إلى تخلي القيادات الإخوانية عن مبدأ «الجهاد» الذي أطلقته ضد القوى الوطنية واليسارية، وتبنت سياسة نفعية تتمثل بالتعاون مع أي طرف معادٍ للنظام، ومن ذلك التعاون مع الحركة الانفصالية في الجنوب، والجنجويد في دارفور، وجيش الرب في أوغندا.
هذا كله يظهر مدى رعب نظام «الإخوان» من القوات المسلحة السودانية، ما عنى إلحاق أكبر الأضرار بالمؤسسة المفترض أنها أقيمت للدفاع عن الوطن. وثمة مؤشرات أن بعض الضباط في القوات المسلحة السودانية دخلت هي وقيادات المخابرات في صفقات تجارية غير شرعية ما أدى في نهاية المطاف إلى إضعاف الطرف الأول على نحو غير مسبوق، ولم يعد بإمكانها إعادة الأمن إلى البلاد ضد الحركات الانفصالية في أقاليم دارفور والنوبة والنيل الأزرق.
تمرير دستور عام 1998 حول البلاد إلى دولة ذات حزب واحد، هو حزب المؤتمر بقيادة حسن الترابي، لكن هذا لم يسر قيادات القوات المسلحة السودانية العليا وفي مقدمتهم عمر البشير ورفاقه من الإسلاميين، وقاد في نهاية المطاف إلى القضاء على «النظام الخاص»، وتسلم العسكر قيادة النظام.
إضعاف «الإخوان» للقوات المسلحة السودانية حدّ من مقدرتها على مواجهة الحركات الانفصالية ما دفع النظام إلى زيادة الضرائب واتباع سياسة الخصخصة وإقامة تشارك مع شركات آسيوية لتطوير صناعة الأسلحة في السودان. كما دعا النظام الصين للتنقيب عن النفط في البلاد في المناطق التي عملت فيها شركة شيفرون في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات. ومع حلول عام 1999 بدأ السودان بتصدير النفط ما قاد في نهاية المطاف إلى احتدام الصراع مع الحركة الانفصالية في جنوبي البلاد. الطفرة النفطية في السودان أنعشت الاقتصاد الريعي، وبالتالي لم تؤد إلى تأسس صناعة عسكرية مثلما حدث في دول أخرى. فتبني السياسات النيوليبرالية قادت إلى تمكن فئة صغيرة من كبار الرأسماليين إلى مضاعفة أرباحهم، وفي الوقت نفسه إلى استقطاب حاد في المجتمع. رغم الطفرة النفطية تلك، فلا تتوافر أي إحصاءات عن دور القوات المسلحة السودانية الاقتصادي ما يعني أنه كان شبه معدوم.
مع ازدياد حدة المعارك مع القوات الانفصالية في جنوبي السودان، وعودة القيادة في الخرطوم للمناداة بالجهاد أثر في نظرتها لهذه الأمور حيث خشيت أن تقود الحرب الدينية إلى مقاطعة الدول الغربية للسودان ما أجبرها على تأسيس صناعة أسلحة وذخيرة وفق مبادئ الاقتصاد الرأسمالي، أي الربح. ففي عام 1993 صدر مرسوم رئاسي بتأسيس هيئة التصنيع الحربي يقودها ضابط ومدني. وقد تم تأمين رأسمال الهيئة عبر علاقة حسن الترابي بالتنظيم الدولي للإخوان وبأسامة بن لادن وبعض ممولي الإخونجية الخليجيين، إضافة إلى الضرائب المحلية والجباية.
ومن الجدير بالذكر أنه ليس للقوات المسلحة السودانية أي سلطة في هذه الهيئة الواقعة تحت سيطرة أجهزة المخابرات العامة. وقد اقتصر عمل الهيئة على تجميع تدريع أو تصفيح الشاحنات وزوارق الدورية وقاذفات الصواريخ والاتصالات وبعض أنواع الذخائر، إضافة إلى مركبات ومواد استهلاكية أخرى للقطاع المدني. وقد زعم بأن إسهام الهيئة للاقتصاد الوطني يعادل بين 10 و15% من إجمالي الدخل القومي، لكن هذا، حتى لو كان صحيحاً، فإنه يعدّ حداً أقل من الأدنى المتوقع ذلك أن حصة القوات المسلحة السودانية من الميزانية يساوي بين 60 و70% من الميزانية.
كما تملك الهيئة ربع مجموعة جياد الصناعية تتشارك فيها هيئة التصنيع الحربي وشركة الهندسة المحدودة . ويضاف إلى ذلك مجموعة أخرى من الصناعات الصغيرة منها للنحاس والصلب والأنابيب والكوابل.
وهناك معامل عسكرية أخرى قيل إن صواريخ العدو الصهيوني دمرتها في عام 2012.
وهناك أيضاً مجموعة صافات للطيران.
أما توسع النشاط الاقتصادي ليتضمن بناء الأبراج ومنها على سبيل المثال مقر شركة صافات، تم، وفق بعض التقارير، بعلاقة بعض قيادات الدولة برجال أعمال في داخل السودان وخارجها. وقد كشف عبد الرحمن الأمين عن أرقام صفقات تمّت مع بعض مشايخ العمولات، أي السمسرة، في الخليج الفارسي.
تزاوج النظام بجهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني أدى، ضمن أمور أخرى، إلى ولادة فئة أثرياء من ضباط مرتبطة بالمخابرات وبالأعمال التجارية، ومنع في الوقت نفسه قيام جيش وطني محترف.
انفصال الجنوب عن الشمال في عام 2011 أثر سلبياً في وضع القوات المسلحة السودانية حيث يرى المرء كثيراً من مشاريعها غير المكتملة ومنها بعض مباني مقر القيادة. كما تم اقتطاع معاشات الجنود ما أدى إلى حالات الفرار من الجندية.
تدمير القوات المسلحة السودانية على هذا النحو الممنهج حول السودان إلى دولة ضعيفة تستجدي الدعم من قوى خارجية قوية مثل العراق وإيران، إضافة إلى تنظيم القاعدة. العلاقات بين السودان وإيران أغضب مشيخات الخليج الفارسي التي أوقفت مساعداتها، بينما عمل «إخوانيو» النظام على توطيد علاقاتهم مع تنظيمات إخوانية أخرى وكذلك بقطر والصين.
الطفرة النفطية حوّلت الاقتصاد السوداني إلى الأحادية يعتمد على النفط مدخولاً، لكنها فقدت ذلك مع انفصال جنوبي البلاد. مع ذلك، حصة القوات المسلحة والمخابرات من الميزانية العامة استمرت في الارتفاع إلى أن وصلت عام 2014 إلى 88% من الميزانية العامة ما عنى، بالضرورة، تخفيض الصرف على القطاعات الأخرى وبيع ممتلكات الدولة. وثمة تقارير كثيرة منها العائد إلى المراقب العام عن عمليات نهب مداخيل الدولة وهي المسماة «تجنيب الأموال».
ومن الجدير بالذكر أن عمر البشير دافع عن سياسة التجنيب
.
هذه الإدارة الفاشلة للاقتصاد الوطني، مرفقة بالفساد المستشري، المدعوم حكومياً، قادوا إلى ارتفاع معدلات التضخم حتى وصلت عام 2011 إلى 44% ووصل معدل البطالة عام 2010 إلى نحو 22%، بعد أن كان 14% قبل عشر سنين.
من مقلب آخر، قامت الحكومة بتخفيض قيمة الجنيه بمقدار 30% وتبع ذلك إلغاء الدعم الحكومي لبعض المنتجات ومنها الأغذية والوقود ما قاد إلى انتفاضة شعبية عام 2013 قمعها النظام بوحشية معهودة علماً بأن معدل الفقر في السودان وصل آنذاك إلى 47% ما دفع منظمات الأمم المتحدة إلى تأكيد أن سبعة ملايين سوداني في حاجة إلى مساعدات إنسانية.
تقارير المراجع العام مليئة بتصريحه أن مدراء الشركات الحكومية رفضوا السماح لسلطته مراقبة دفاترها، علماً بأنّ كثر من القطط السمان (نوفو ريش) احتفظوا بعلاقات قوية مع قيادات الجيش والمخابرات وقيادات التمرد السابقين الذين انضموا إلى الحكومة.
بعض قيادات الجيش وثيقة الصلة بالقطط السمان وبقيادة الدولة عملوا على تحسين دخولهم من خلال عمليات التجنيب والتهريب عبر الحدود مع دولة جنوب السودان ومن خلال فتوى تخريجية تسمى «الوسق السلام» في جبال النوبة.
تصادف انفصال جنوب السودان مع اندلاع الانتفاضات الشعبية في بعض الدول العربية، وفي السودان أيضاً، لكن قوات الأمن والمخابرات قمعتها بوحشية دموية غير مسبوقة، كما أسلفنا. هذه السياسة أدت إلى حدوث انقسام بين ضباط «الإخوان» الذين قيل إنهم حاولوا الانقلاب على نظام عمر البشير. وفي الوقت نفسه اندلعت تظاهرات شعبية في دارفور وجبال النوبة وولاية النيل الأزرق وضد حركة تحرير الجنوب (شمال) الذين اتحدوا في «الجبهة الثورية السودان» وقمعتها الحكومة عبر سياسة الأرض المحروقة. كما حولت الجنجويد إلى حرس الحدود ومن ثم إلى قوات الدعم السريع. إضافة إلى ذلك احتفظ النظام في الخرطوم بعلاقات وثيقة مع قطر التي دعمته مادياً خصوصاً بعد فقدانه مدخول النفط. لكن ثمة إشارات مهمة إلى أن قطر لم تكن مصدر دعم مالي فقط بل حولت السودان إلى تابع لها يتلقى التعليمات من الدوحة، حيث ثبت أنه كان ممراً لتزويد حماس وحركات إخوانية متطرفة أخرى في ليبيا.
سياسات الخرطوم الداخلية أدت، ضمن أمور أخرى، إلى فقدان القوات المسلحة السودانية احترافيتها تحت حكم «الإخوان» بدءاً من عام 1989، وتولت المخابرات الدور الرئيس في مجال الدفاع عن النظام، علماً بأن معظم القيادات الرئيسة في المخابرات هم من شمال السودان وبالتالي موالون للنظام الذي حرض على الجنوبيين ويثير الخوف من أنهم يعدون العدة لغزو الشمال واحتلاله.
باختصار، حكم «الإخوانية» في السودان كان له أثر تدميري على البلاد وكافة قطاعات الدولة وفي المقدمة منها القوات المسلحة التي لم تحظ بثقة النظام.
أخيراً، وبعد مراجعة سياسة النظام المدمرة والقمعية على نحو غير مسبوق، لا بد من الاستنتاج بأن إمكانية التغيير الوحيدة في البلاد وإسقاط الحكم الإخواني تقع على عاتق القوات المسلحة السودانية التي وقفت دوماً موقفاً وطنياً ورفضت قمع الشعب في الماضي.