لا يتعلق الأمر إلا بألعاب الإرباك. إرباك عاشه ويعيشه الشعب اللبناني والعاملون في تلفريون لبنان، منذ عشرات السنوات. مات التلفزيون. ثمة من قتل التلفزيون. ثمة من اعتمد نظرية فرويد، بعلاقته بالتلفزيون. هو الأب. لا بد، إذاً، من قتل الأب، لكي يحيا الأبناء وسط عنايات متخيلة من أبطال القوى الجديدة بالعالم، من أبطال العولمة.
قوى تتصارع على أرض الواقع. قوى تتصارع بالخيال. لا مذنب مثالياً، ما دامت النتائج محسومة سلفاً بالصراع الدائر في أروقة التلفزيون، بالصراع الدائر على التلفزيون. لا غالب ولا مغلوب. وسط الاصطفافات القائمة في بلاد لا تفقد من عنفها السياسي، حتى تجعل من غياب العنف حرماناً، بحيث لا تلبث أن تستعيد العنف. العنف هو الكائن الواقعي الوحيد في تلفزيون لبنان، حيث قاد بعض أعضاء مجلس الإدارة السابقين، المرافعة، بعدم كفاءة المدير العام الراحل ابراهيم خوري، على الصعيد البدني والصعيد الذهني. وُعِد هؤلاء بإدارة شؤون المؤسسة، في مسرحية تم إخراجها بدقة. إذّاك، قام نشر الغسيل الفاضح للمجريات الداخلية، بإعلان نصر تعيين طلال المقدسي، رئيساً لمجلس الإدارة، مديراً عاماً، على أمل التخلص من مرحلة الاكتئاب والاكفهرار. لم يبلغ أحد درجة من السذاجة، تدفعه إلى رؤية الدواليب المثقوبة لسيارة التغيير، من دون رؤية السيارة المنخورة بالأزمات والأمراض السياسية. تكفلت الأخيرة بتعيين طلال المقدسي، حين أطاحت بأبرز وجوه الإدارة بالتلفزيون. فؤاد نعيم.
بين عهدين، عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي والرئيس السابق ميشال سليمان، جرى جز رقبة التلفزيون، عند شبكات العلاقات السائدة بعشرية حكم جديدة. كنس الواقع الأوهام، بتغذية السياسيين حضورهم بالتلفزيون. التلفزيون الأول في لبنان والعالم العربي. لا ضرورة للكلام على أن «نصر» هي السيارة الأولى في العصر الصناعي المصري. فيات نصر. الأخيرة كتلفزيون لبنان، صناعة محلية. صناعة حديد، انتهى على صورة خردة، في مجتمعات ظنت أنها مجتمعات قوية، مع مجموعة من المتغيرات الإقليمية والدولية. مجتمع فؤاد شهاب في لبنان. مجتمع جمال عبد الناصر في مصر. وفرت المصانع عملاً لعدد كبير من المصريين واللبنانيين. لا مبالغة. إذ إن تلفزيون لبنان، لم يلبث أن غدا مصنعاً، غير منتج، إلا على صعيد، توفير فرص «اللاعمل» لكثير من ِاللبنانيين. لا نزال، لا أزال أحتفظ بالحنين إلى تلك الفترة السعيدة، غير أنها لم تلبث أن تعثرت منذ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، حيث خسر التلفزيون دوره الوسطي بين اللبنانيين، حين تقاتل «الخالدون» على الهواء وبالقصف المباشر. جماعة تلة الخياط وجماعة الحازمية. لعبت القناتان، دور أجهزة التصوير للقوى المتصارعة على الأرض. ما دفع القوى إلى حمايتها بانتهاك كل المحرمات. كقصف المباني والاستديوهات. عرض الانهيار الأول أمام الأعين. عرض الانهيار الثاني، تصفية الحسابات بين الطوابق، على قدم المساواة. شخصيات واقعية تجرد الصراع على السلطة، على قاعدة يا القاتل يا المقتول. أقصيت تلك الفئات إلى المنسيات. سادت الفئات الجديدة. أقصي تلفزيون لبنان إلى المنسيات، مذ تشددت القناتان، على لدغات الزمن القاسية. أضحتا ضحية ما مضى، بتشدد السياسيين، بالحرب الباردة عبر الأزلام والأسماء في مراكز القوى. كل كلام خارج مراكز القوى، كلام أطفال. لا تنبع الخطابات الطيبة وغير الطيبة، إلا من طفولة التلفزيون البعيدة، السعيدة. لا حياة للتلفزيون وسط مراكز القوى الكثيرة في التلفزيون. قوى تستقوي على بعضها بالقوى الحقيقية. أو المصائد المفروشة بالمكاتب والأروقة والاستديوهات وغرف الكونترول والكوريدورات. جاء المقدسي على سطح الماء. وحين أراد الغوص، وجد نفسه بالطريقة القديمة، بين الوجوه القديمة، يقتات من الصور البلا أمل. ضرب ضربته الأولى. مركزة السلطة.

المشكلة الأولى هي أن أحوال المؤسسة من أحوال الدولة
من دون الانتباه إلى هشاشة السلطة وانكشافها بالتلفزيون. غرق بتجعدات سطح الماء، بنفس نيتشوي. برغبة تمثيل المشهد من أول المشهد إلى آخر المشهد. كما لو أنه في مأثرة خالدة. عندها وقع بالتكرار الملزم. عندها فرش المكاتب باليرقات السلبية وأجهزة المراقبة والتصوير. لم يبدأ من الموضع الدارج على قرار قاضي الأمور المستعجلة. حارس قضائي لا أكثر. لعب دور الدمية الروسية. لعبة بلعبة، داخل لعبة داخل لعبة. فجأة اتخذت الكلمات معنى آخر. وقع الرجل في تصدع لجي سحيق، زاده تصدعاً نشره المصائد على كل المفارق والزوايا. أرجعه نصره النرجسي الأول (التعيين) إلى هزيمة مدوية. العجز العادي أولاً. ثم، عجز شرير، قريب من شر الملكة الشريرة بحكاية الحسناء النائمة. لم يقترح الرجل أحد الوجوه الاستثنائية، لقيادة ما احتشد بذهنه من «الحكايات الخارقة». دخل بفقدان الذاكرة الجمعي، وقت وجد بالتلفزيون نموذجاً حياً، على المساحة الميتة. لا طرق سالكة بالتلفزيون، لأن طرقات السياسيين، طرقات حلزونية بالتلفزيون. المقدسي ابن هذا العود العام. لم يدرِ أن وزن التلفزيون خف منذ غاب الماء الصافي عن التلفزيون. أضحى عديم الجدوى، مذ لم يعد يشبه نفسه، حين وجد أبطال الحرب بالحرب كرامتهم المفقودة. وحين جرى السياسيون في ساعاته، كما تتعرى الصورة أمام المشاهد. وحين ألزم السياسيون رجال التلفزيون وسيداته، برغبة استخدام الواقع السياسي بتعزيز الواقع الشخصي. لا ناس بالتلفزيون. هذه هي النتيجة. أبطال أفلام وروايات. أبطال عاجزون عن إدراك الفروقات بين الأقنية والمنابر. تلفزيون لبنان، قناة. التلفزيونات الأخرى منابر. أصبح التلفزيون مطرحاً ضائعاً بين المنابر. قناة بين المنابر. ضحية ملزمة. نرسيس جميل يقضي على عتبات جمالاته الآفلة وعجزه العادي، من خلال مرآة مشوهة، صبها الجميع بأيديهم، لكي تعلق على مدخله العجيب.
وقوع في الذات المتضخمة. هذا شأن الجميع هنا، في مؤسسة لم تعد نموذجاً. لم تعد مأثرة. أجهض مذ لم يعد وحده على قوس الوقت وإنتاج الدقائق. اختار أبطاله. راح يوبخهم، مذ تبخرت منه كل الآمال. منذ فقد شروط حضوره الإنسانية. بداية، سَّر فرحه الناظر، لأن لا شيء ينظر إليه إلاه، قبل أن يفقد حكمه، مندفعاً إلى أجوبة الآخرين بدون تردد. لم يعد التلفزيون، حصراً. لم يعد التلفزيون، حصرياً. لم يعد تحت ضغط الشعب ولا أنظمة الحماية القديمة. راح العاملون بالتلفزيون يمجدون كل عدوى، يمجدونها إذ يجدون فيها علاجاً رمزياً للأمراض الواقعية. لم تعدم المحاولات النوايا الطيبة. غير أن الغرب والشرق لن يجتمعا مجدداً في التلفزيون. ذلك أن التلفزيون ابن مرحلة، ابن حقبة. انتهى التلفزيون، بنهاية الحقبة، بنهاية المرحلة. كل محاولات الإنقاذ، محاولات مجازية، إذا لم يتم تحرير التلفزيون من ذكرياته، لا من ذاكرته. البون بين الاثنتين واسع. لا فن ولا شعر. لا نسق. خلص النسق إلى علو التعريفات الحضورية، الجسدية، بأنانيات مفرطة. لا روح. إذاً لا كون. لا حلم، لأن لا فضاء أحلام، تُقطف الأحلام من شجراته. سخرية الجمهور من التلفزيون، سخرية مستمرة، من استمرار التلفزيون على مصطلحاته الميتة. لا يُترجم التطور بالعبور من الجهل إلى المعرفة. يترجم، أولاً، بعلاج الجهل. بإخراجه من السرادق الوطنية الكبيرة، المتبلة بالمحسوبيات. بعث التلفزيون، كبعث قارة. لا هرب من إعادة تعريفه، بالاستشهاد بالعقل الصناعي لا بالعقل الزراعي. أن نزرع موظفين، لكي نحصد أصواتاً. أن نعين مديراً أو رئيس مجلس إدارة، لكي نسيطر على الجهاز والمؤسسة من خلال الجهاز. استشهد بحضور مذياع تلفزيون لبنان بسفرات رئيس الجمهورية، السابق، ميشال سليمان، حتى هذه الأيام. رسَّم الرئيس السابق، المقاربة هذه، مع مدير جديد. لا يزال الترسيم دارجاً، كما لو أنه الخط الأزرق على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية.
إعادة خلق تلفزيون جديد، في المحيط الجديد، ليس فناً طقوسياً. ضرورة. فهم الشيء، لا فك الرموز. تفكيك الستاتيكو. إدراك العالم الجديد بالعالم الجديد. إدراك، موجبات. حمل لغة مرئيّة، جمالية، جديدة، تثري وتغير. لغة فنون عضوية وفنون شعبية وفنون اجتماعية. فن ينخرط في حياة المدينة. فن ينخرط في حياة الدولة. إفادة من الوعي الجديد بعالم أوسع من العالم. لا اعتبار الأثاث بالمكاتب مادة حية. ولا الإضاءة الداخلية، لأن مزاج المدير مزاج إضاءة داخلية. ولا ابتداع لوغو جديد، يغيب العناصر الأساسية والتناقضات الداخلية. تناقضات تدمر أو تُخَّصب، بحسب الخيارات. المشكلة الأولى، مشكلة أن أحوال المؤسسة من أحوال الدولة. هياكل الدولة غير مجهزة بالبنيات غير المهترئة. هياكل المؤسسات امتداد المفهوم على المفهوم. لا خيار أمام ذلك، إلا التلهي بالقضايا البعيدة عن المخططات الأولية المعاصرة. كزرب الأرشيف في البنك المركزي. بعدما وزع الأرشيف على كل المنابر التلفزيونية اللبنانية وبعض شركات الإنتاج المحلية. لا تعتبر الجباية، هنا، من المنابر التلفزيونية الأخرى، إلا إخفاقاً، بغياب الوسائل والوسائط الأخرى. كالإنتاج وضرب كل تعريف حصري للمؤسسة الوطنية. لا تفاؤل، لأن كل الأشياء الأرضية لا تدفع إلى التفاؤل. اكتشف التلفزيون فنونه. انتهى عصر الفنون هذه. لا شيء سوى الكسل. لا شيء سوى الانخراط بالحروب الداخلية. ظاهرة تتعدى كل تعريف حصري. لم يعد التلفزيون سوى معرض للإخفاقات. لا نقل مباشراً ولا ملكات ولا فضول. التلفزيون، اليوم، «بسكوتة مادلين». تغنّى بروست بالبسكوتة، غير أن أحداً لم يأكلها إلا مادلين. خسارة ضخمة أن يصبح تلفزيون لبنان، مستعمرة موصدة، خارج العالم. جدران لا حياة ممكنة. أرضه جريحة بلا سارية. هاوٍ في رحيل لا متناه، كرمى للأنبياء بأحيان. كرمى للروح القدس بأحيان أخرى.
* كاتب وناقد مسرحي