حسنٌ أن «دار الفارابي» لم ينسَ هم الصراع الطبقي والأيديولوجي كليّاً. على مرّ السنوات، اتخذ الدار منحى تجاريّاً ونشر، فيما نشر، كتباً لا تمتّ بصلة إلى الهم اليساري الذي رافق إنشاء الدار (نشر الدار، مثلاً كتاب فارس خشّان بعنوان «مومس بالمذكّر، أيضاً»). والكتاب الجديد لعايدة الجوهري، بعنوان «اليسار: الماهيّة والدور»، هو محاولة جادّة وناجحة لتصويب النقاشات ولتعريف المصطلحات في زمن طُمس فيه الهم والخطاب اليساري.
لا شكّ أن هناك حرباً مستعرة على اليسار تتخذ أشكالاً مختلفة في الثقافة الرسميّة العربيّة. وانتهاء الحرب الباردة حقن الإمبراطوريّة الرأسماليّة بعيار ثقيل من الثقة الذاتيّة والاستعلاء الأيديولوجي. والدعاية الأميركيّة لم تعتبر سقوط الاتحاد السوفياتي على أنه إيذان بنهاية صراع دام أكثر من قرن ضد الفكر والممارسة الشيوعيّة واليساريّة حول العالم، بل هي اعتبرت أن الفرصة سانحة لتنشيط هذه الحرب اليمنيّة بعناوين ووسائط مختلفة لنشر السيطرة الأميركيّة. طبعاً، إن سقوط الاتحاد السوفياتي كان بالمنظور الغربي الرأسمالي دليلاً على صوابيّة الرأسماليّة والرجعيّة الغربيّة. ويتوجّب السؤال عن استخلاص سياسي أميركي لأسباب سقوط الاتحاد السوفياتي. وهل أن الغرب كان منصفاً في أحكامه عندما انتصرت الثورة البلفشيّة ضد صعوبات داخليّة وخارجيّة جمّة، استثمرت فيها دول الغرب المال والسلاح والدمار والخداع؟ هل استخلص الغرب صوابيّة الشيوعيّة حينها؟ وانتصار الشيوعيّة أو هزيمتها السياسيّة تصبح مؤشّراً لانتصار الغرب وتعزيز مقولاته. هو معادٍ للديموقراطيّة لو فاز، وهو ساقط لو انهزم.
وجمعت أجهزة الدعاية الأميركيّة كمّاً هائلاً من الأكاذيب والتزييف لنشر كتب بلغات مختلفة تزعم أنها توثّق (ببراءة وحياديّة) لجرائم الشيوعيّة حول العالم. لا تتصف إحداها بمعايير علميّة. كل ضحايا الأعاصير والموت الطبيعي والزلازل وحتى الحروب التي شنّها الغرب ضد الدول الشيوعيّة باتوا ضحايا للجرائم الشيوعيّة. ومقولات العلاقات الدوليّة منذ انتهاء الحرب الباردة هي أنساق مختلفة من الدعاية السياسيّة الأميركيّة التي تنال من حجج اليسار. نظريّة «صراع الحضارات» تنفي حقيقة الصراع الاقتصادي ــ الاجتماعي (أو الطبقي والتراتبي، لو عزّزنا مقولات كارل ماركس بمقولات ماكس فيبر) من أساسه وتعبّئ جماهير دول الغرب ضد الخطر الإسلامي. إن ظهور حركات اليمين الأقصى نتيجة طبيعيّة لسياسات والفكر «المعتدل» لليمين ولليبراليّة الغربيّة (للأحزاب التي تدور حول مركز «الوسط»). و«نهاية التاريخ» حكمت بنهاية الصراعات بين الدول والطبقات في داخل الدول (عاد فوكوياما وأعاد النظر بمقولته). ونظريّة «القوّة الناعمة» لا تهدف إلّا إلى توطيد دعائم السيطرة الإمبرياليّة الأميركيّة بوسائل شتّى (أو عبر ما أسمته هيلاري كلينتون بـ«القوّة الذكيّة»، أي الحروب والدعاية والخداع والأكاذيب في خلطة تعزّز ديمومة السيطرة العالميّة الأميركيّة).
والحرب على اليسار، وطمس دور اليسار، كان من مهمّات السيطرة الإمبرياليّة وبشعارات شتّى. أصبحت المؤسّسات المالية الغربيّة التي رسّخت التفاوت الطبقي (والعنصري)، والتي أدّت سياساتها إلى كوارث بيئيّة حقيقيّة في آسيا وأفريقيا، هي المؤتمنة على العدالة في البلدان النامية، لأن البنك الدولي اعترف بأنه أهمل الفقراء في تاريخه الطويل، وأنه سيهتم بهم من الآن فصاعداً (مع أن البنك لا يزال يعارض الإنفاق الحكومي من أجل مساعدة الفقراء، كما حصل في البرازيل). ومن عناوين الحرب على اليسار شعار «لا يمين، ولا يسار». أي أن عنوان مرحلة ما بعد الحرب الباردة هو إيهام الناس أن انهيار الاتحاد السوفياتي قضى على الصراع الطبقي وقضى أيضاً على الصراع السياسي بين اليسار واليمين. وتزامن ذلك مع صعود قوى يمينيّىة في داخل أحزاب يسار ـ الوسط في الغرب (من كيلنتون في الحزب الديموقراطي الأميركي إلى توني بلير في حزب العمّال البريطاني إلى الحزب الاشتراكي في عهد ميتران ــ وخصوصاً بعده ــ إلى شرودر في الحزب الديموقراطي الاجتماعي في ألمانيا). لكن الترويج لفكرة نهاية صراع الطبقات (كان جورج دبليو بوش يقول في حملته الانتخابيّة إن لا وجود للطبقات في أميركا، وأن ذلك يمكن أن يكون مرتبطاً بأوروبا فقط) تزامن مع زيادة حدّة الفوارق الطبقيّة في الدول الغربيّة.

اليسار واليمين
راهنان أكثر من أي
وقت مضى

وكتاب عايدة الجوهري يسدّ نقصاً حادّاً في الحياة السياسيّة والثقافيّة العربيّة. ما قامت به الجوهري في كتابها، كان يجب أن تقوم به الأحزاب الشيوعيّة العربيّة — أو ما تبقّى منها. لكن تلك الأحزاب لا تزال تعاني من ارتباك فظيع أصابها جراء سقوط الاتحاد السوفياتي، ولأنها رفضت أن تخوض حرباً دفاعاً عن اليسار وحقّه في الوجود. تحوّلت تلك الأحزاب في معظمها إلى أحزاب ليبراليّة مائعة، ولا تجرؤ على رفع صور رموز الشيوعيّين ما خلا تشي غيفارا — وفقط بسبب بهاء طلعته. والجوهري تعيد لملمة جذور ومسار الفكر اليساري في تاريخه الأوروبي مع الإشارة إلى علامات فارقة من الثورة في التاريخ العربي (مثل ثورة القرامطة وثورة الزنج). ويصلح هذا الكتاب المشغول بعناية كي يصبح كتاباً مُقرّراً في الفكر الحديث في الجامعات، كما أنه مؤلّف تمهيدي للدخول إلى الفكر اليساري للمبتدئين. والجوهري تؤصّل لتاريخ الفكر اليساري والتنويري الأوروبي مُذكّرة القرّاء بأن همّ تحقيق العدالة الاجتماعيّة ليس جديداً، وهو لا يزال راهناً. هذه البديهيّة باتت غائبة عن الهموم السياسيّة للأحزاب المتصارعة والتي — بدرجات متفاوتة — تريد أن تقضي على المكاسب التاريخيّة للطبقات المسحوقة وحتى للطبقة الوسطى. وتذكّر الجوهري أن الهم اليساري سبق ماركس وعليه أن يعمّر حتى بعد ماركس.
ومحليّاً (ونقلاً عن مقولات محافظة غربيّة) ساهمت الحقبة الحريريّة في الترويج لمقولة أنه لم يعد هناك مِن يمين ومِن يسار، وأن الكل في المركب سويّةً. وكانت تلك المقولة ضروريّة نفسيّاً لذلك القطاع الكبير من المثقّفين والقياديّين اليساريّين الذين الحتقوا بركب الحريريّة السياسيّة. كيف يمكن لقادة شيوعيّين أن يسوّغوا لأنفسهم ولغيرهم التحوّل من اليسار (ومن أقصاه في حالة الفضل شلق) إلى الحركة الحريريّة اليمينيّة الرجعيّة. ويصلح كتاب الفضل شلق «تجربتي مع الحريري» لفهم تجربة اليسار الذي تحالف مع رفيق الحريري. الفضل شلق لا يتورّع عن الإشارة إلى «يساريّة» رفيق الحريري في كتابه (ص. ١٠٦)، مع أن كل برنامج الرجل كان على نقيض اليسار (في الحكم وفي خارجه، كما أن تجربته القصيرة في «حركة القوميّين العرب» لا تكفي للاستنجاد بها عند الحاجة، كما يفعل التقدميّون الذين تحالفوا مع الحريري بعد أن كان قد أعلن على شاشة تلفزيونه أنه انخرط في المشروع السياسي السعودي ضد عبد الناصر بمجرّد أن وطأ أرض المملكة). وفي سرديّة شلق عن الحريري، يصبح رأس المال ليس مشكلة على الإطلاق ويصبح الحكم على النظام الرأسمالي شخصي متعلّق فقط بشخصيّة صاحب الثورة، وبتعاطيه وسخائه مع الشخص المعني. وعليه، إذا أسبغ اليساري المديح على الرأسمالي، تصبح الرأسماليّة أهون، وينتفي الصراع الطبقي من أساسه. لكن يقول الفضل شلق إن أجمل ما في الحريري ليس ماله، بل أجمل ما فيه هو «رفيق الحريري نفسه» (ص. ٣٩١)، وطبعاً أحب الفضل فيه أنه «يعطي من دون حساب» (ص. ٣٩١)، ويعترف أنه «فاضت أفضاله عليّ» (ص. ٣٨٠). وصاحب المشروع اليميني الرجعي لا يعد مسؤولاً عن القهر الطبقي، بل هو المنقذ الطبقي للجميع، والعوائق لا يتحمّل مسؤوليّتها إلّا «النظام السياسي»، لأن رفيق هو من خارجه، فهو فوق الطبقات وفي منأى عنها لأنه سخي ومعطاء. والسنيورة أيضاً مظلوم في حكم اليسار لأنه كان يقود سيّارة «فولفو» قديمة عندما تعرّف شلق إليه، وعليه فإن سياسته الجائرة ليست بذي بال، لأن الموضوع الشخصي أهم. وحتى في موضوع المقاومة التي افترق فيها الفضل مع مجموعة الحريري في حرب تمّوز (إذ أن شلق أيّد المقاومة)، فإنه لا يتردّد في الدفاع عن موقف جريدة «المستقبل» عندما صدرت في عنوان في ١٥ نيسان ٢٠٠١ ضد عمليّة للمقاومة في مزارع شبعا (ص-٣٦٧-٣٦٩). ويعتبر شلق أن من حق صاحب المال أن يعترض على توقيت عمليّات المقاومة خصوصاً أن الحريري كان في طريقه إلى باريس وواشنطن يومها. كان على قيادة المقاومة استشارة أصحاب المليارات في لبنان قبل القيام بأي عمليّة من أجل دمج الشعب والمقاومة والجيش برأس المال المقاوِل. كيف يمكن الاعتراف بوجود اليمين واليسار عندما يكون ذلك بمثابة الاعتراف من قبل الفرد بالقفز (بتثاقل) من خندق إلى خندق معاد؟
والحرب على اليسار تدور رحاها من دون توقّف في صحف النفط هذه الأيّام. لسبب ما، اليسار (على ضموره) لا يزال يثير حنق اليمين في الشرق وفي الغرب. وفي الغرب، تحاول الأصوات الموالية لـ«الثورة السوريّة» (وهي تضمّ «الفصائل المعتدلة»، مثل «جيش الإسلام» — العلماني، طبعاً، والمحظي بدعم سعودي ديموقراطي — والتي أطلقت النار على متظاهرين سلميّين قبل أيّام في الغوطة) أن تدين اليسار من موقع التفوّق الأخلاقي. ولسبب ما، يجد الكتّاب (وجلّهم من اللبنانيّين واللبنانيّات) في صحف أمراء آل سعود أنهم في موقع يمكن لهم الوعظ المنبري عن أخلاقيّات المهنة والنضال. وموضوع الخلاف السوري يُستعمل في أدبيّات المعارضة السوريّة (الموالية منها لدول الخليج أو تركيا، كي نكون أكثر تحديداً) تعيّر «اليسار» على أنه متحالف مع الاستبداد. لكن هل أن التحالف مع استبداد دول الخليج هو أهون من التحالف مع استبداد النظام السوري؟ ثم مَن هو اليسار الذي تحالف مع النظام السوري؟ هنا، لا تحضر المنتقدين إلّا جريدة «الأخبار» (التي للساعة لا تزال تنشر آراء متنوّعة في الموضوع السوري). والحزب الشيوعي اللبناني يحتفظ بموقف ملتبس من الموضوع السوري، لكنه لم يعلن يوماً موقفاً متحالفاً مع طغيان النظام.
وهناك مَن يُعيّر اليسار في معارضته للفصائل الإسلاميّة في «الثورة السوريّة» (على افتراض أن أبو إبراهيم وزمرة الخطف فيما تبقّى من الجيش السوري الحرّ هي النموذج الفولتيري المُشرِق الذي يجوز التمثّل به في الحديث عن «الثورة») لأن ذلك يدخل في باب الإسلاموفوبيا أو الاستشراق الغربي. أي أن التعاطف مع الحركات الإسلاميّة ممنوع وإلا وقع اليساري في فخ الإسلاموفوبيا الغربيّة. لكن لماذا لا تنطلق هذه المقولة على الذين يعادون «حزب الله»، مثلاً؟ ليست معاداة «حزب الله» إسلاموفوبيا كما أن معاداة الحركات الإسلاميّة الموالية للنظام القطري أو السعودي ليست إسلاموفوبيا هي الأخرى. ويصبح اليسار مقبولاً عندما يماشي حروب الغرب في الدول العربيّة والإسلاميّة، وعندما ينضوي في الحلف الخليجي في المنطقة العربيّة. حتى الأصوات الليبراليّة الموالية لدول الخليج تصبح «يساراً» في بعض الإعلام الغربي الذي يقيس بمقياس مماشاة الإمبريالية الغربيّة. واليسار يُلام في الإعلام العربي لو فاز اليمين في دول الغرب، وهناك في جريدة خالد بن سلطان، «الحياة»، مَن لام الشيوعيّة على صعود هتلر (مع أن الشيوعيّين كانوا أوّل مَن أدرك الخطر النازي). وعلي حرب (الذي يخطب عن التنوير والحداثة في مؤتمر الجنادريّة)، يقرّع اليسار اللبناني ويذكّره بأن سياساته هي التي «أسهمت في تخريب لبنان»، لا السياسات الحريريّة، وأن «من أتى بعدهم» من يسار «يسهم في تخريب سوريا» (علي حرب، «الإرهاب وصنّاعه: المُرشد - الطاغية - المثقّف»، ص. ٥٣). ويلوم حرب اليسار لأنه لم يحرّر فلسطين: أي أن اليمين العربي يستحق الثناء على تحريرها.
والحرب على اليسار تظهر في لبوس مماثل في إعلام الغرب والشرق. كتاب جديد لكاثرين ميريديل (بعنوان «لينين في القطار») حاز إعجاب صحف الخليج وصحف الغرب وتغريدات اليمين على مواقع التواصل الاجتماعي فقط لأنه يفترض (لا يثبت أبداً) أن رحلة لينين كانت بترتيب من قبل قيادات ألمانيّة. الأصح القول إن لينين علم أن الحكومة الألمانيّة وافقت على رحلته إلى بلاده لأنها كانت تتمنّى أن تؤدّي القلاقل في روسيا إلى انسحابها من الحرب العالميّة. لكن لينين كان واضحاً عبر مبعوثين أنه ليس مرتهناً لأحد وأنه لن يسدّد أثماناً سياسيّة لألمانيا أو لغيرها. والمؤلّفة في كتابها لا تذهب في فرضيّاتها عن لينين كما ذهب الإعلام الغربي (مثل مجلّة «إيكونومست» أو «نيويوركر»).

جعل عطالله من مئويّة الثورة البلشفيّة مناسبة لهجاء اليسار


وشارك سمير عطالله في الاحتفاليّة الغربيّة ضد لينين (غالباً ما يستقي عطالله ما يكتب عنه في جريدة سلمان بن عبدالعزيز وأولاده من جرائد الغرب)، لا بل هو أوحى أن لينين كان عميلاً للقيصر الألماني. وعطالله جعل من مئويّة الثورة البلشفيّة مناسبة لهجاء اليسار: لكن هجاء اليسار من جريدة لآل سعود من قبل كاتب له تاريخ عريق في طاعة الأمراء يخدم اليسار أكثر مما يزعجه. عطالله في مقالة مهينة — مهينة له، لا لليسار — بعنوان «طارق علي يحتفل» وصف «الأكثريّة الساحقة» من اليسار بـ«الأدعياء». لكن كيف نصف «الأكثريّة الساحقة» من أتباع الأمراء، وأتباع حاشية أولاد الأمراء؟ وأن يصف عطالله الشيوعيّة بالاهتراء وأن يعيّر لينين على عنفه، فيما هو يبخّر قاطعي الرؤوس في مملكة القهر السعوديّة لا يضير اليسار بقدر ما يضير ناقده. ويعترض سمير عطالله أن اليسار العربي افتقر إلى العباقرة: هنا، قد يكون عطالله على حق. فالرجل كان عبر السنوات من المواظبين في مجلس بلاط «عزّوز» بن فهد بن العزيز، ولا شكّ أن عبقريّة الأمير الذي جذبه لا تُقارن بفكر اليسار العربي. طبعاً، أضاف عطالله أنه يستثني من أحكامه القاطعة ضد اليسار العربي أفراداً تحوّلوا — باستثناء واحد في تعداده ـــ من اليسار العلماني إلى اليمين الرجعي.
مُحقّة عايدة الجوهري في تمييزها بين أصناف من اليسار، تضم مَن أسمته «أهل التبرّؤ» و«أهل التذبذب» «وأهل التهوين» (ص. ١١). هي على حق أن نبذ اليسار من قبل يساريّين سابقين أصبح ظاهرة تستحق الدرس، وهي لا تختص فقط بالحالة اللبنانيّة بل تشمل كل الساحات العربيّة وحتى العالميّة، لكن منظمّة العمل الشيوعي صدّرت إلى اليمين الرجعي العربي — وإلى إعلام النفط والغاز — أكثر من غيرها. وهناك مكافآت وإغراءات في التحوّل باتجاه واحد من اليسار إلى اليمين. وتميّز الجوهري بين مَن يتبدّل ويتحوّل لقناعة خاصّة به (أو بها) — وهذا حق بشري لا جدال فيه — وبين الذين يتبدّلون ويتحوّلون ويقفزون «نفاقاً أو ابتغاء منفعة شخصيّة».
والثقافة العربيّة تصرّ على هجاء اليسار لكنها أيضاً تصرّ على التنصّل من استعمال مصطلح «اليمين» (كتاب الجوهري، ص. ١٧). تريد الثقافة اليمنيّة الرجعيّة أن تعرّف عن نفسها على أنها مُنزّهة عن الخندقيْن. لكن اليسار واليمين راهنين أكثر من أي وقت مضى: هناك حالة من الصعود اليميني الرجعي، شرقاً وغرباً، بموازاة تفاقم التفاوت الهائل في مستويات المعيشة والمداخيل. لم تنته الرأسمالية وويلاتها لا بل هي زادت من وحشيّتها. الاقتصادي بول ميسن يتحدّث عن مرحلة «ما بعد الرأسماليّة» في كتاب جديد بالعنوان نفسه. يورد ميسون أن الانهيار الاقتصادي في عام ٢٠٠٨ دمّر ١٣٪ من الإنتاج العالمي، و٢٠٪ من التجارة العالميّة. والنمو العالمي بات سلبيّاً. وهذا أنتج حالة من الركود الاقتصادي الغربي دامت أكثر من تلك التي سادت بين عامي ١٩٢٩ و١٩٣٣. وفي عدد من الدول، تقلّص أو دُمّر النظام التقاعدي، وسن التقاعد ارتفع إلى السبعين في حالات. وتخصيص التعليم يزيد من الفوارق بين الطبقات. كل هذه العوامل تعيدنا إلى الكتاب المرجع «الطبقات تُحتَسب: دراسات مقارنة في التحليل الطبقي» لإيريك أولين رايت (أستاذ علم الاجتماع في جامعة وسكنسن في مديسون). يرى رايت أن راهنيّة التحليل الطبقي تنبع من حقائق: ١) إن رفاهية مجموعة من الناس تعتمد سببيّاً على بؤس مجموعة أخرى من الناس. ٢) إن العلاقة السببيّة تتضمّن الاستثناء غير الموازي للمُستغَلّين من موارد إنتاجيّة معيّنة. ٣) إن الآليّة السببيّة للاستغلال تشمل نزع ثمار عمل المُستغَلّين من قبل المتملّكين على الموارد الإنتاجيّة. (ص. ١٠). ويحاجج رايت أن أهميّة دراسة البنية الطبقيّة تعود لأهميّتها في تفسير عناصر أخرى في التحليل الطبقي، مثل نشوء الطبقات والوعي الطبقي والنضال الطبقي. ويدرس رايت (في الفصل ١٤) من كتابه حالات مختلفة مُستقاة من السويد والولايات المتحدة واليابان ليصل إلى خلاصة أن تنوّع «نشوء الطبقات الأيديولوجي» لا ينفي بل يعزّز صوابيّة التحليل الطبقي (ص. ٤٤٩-٤٥٠). والاعتماد على التحليل الطبقي لا يعني حصريّة وحدة التحليل الطبقي (خصوصاً أن رايت لا يرى — خلافاً لعلماء الاجتماع الغربيّين — تناقضاً بين التحليل الفيبيري للطبقة والتحليل الماركسي، ويضيف عليه مفهوم «التكوين الطبقي» (أو «هابتس» باللاتينيّة) لبيار بورديو في إشارة إلى تقريريّة عنصر «رأس المال الثقافي» في نمط الحياة).
يعيد كتاب الجوهري النصاب إلى التحليل الطبقي العربي والخطاب والدعوة اليساريّة. لكن الجوهري في خلاصة كتابها، تنتهي إلى اقتراح يسار معتدل أقرب إلى الليبراليّة (الليبراليّة الأصليّة، لا تلك الظاهرة السعوديّة التي تتلبّس الاسم في الإعلام الأميري). لا تلوذ الجوهري بالدولة في كل الحالات، لكنها تبتعد عن الفهم الماركسي (وحتى اللينيني في «الدولة والثورة») عندما تتحدّث عن «موضوعيّة وحياديّة» (مطلوبة) من الدولة. لكن أين هي هذه الدولة المُتخيّلة؟ والدولة في دول الغرب منخرطة في إدارة الصراع الطبقي لصالح الطبقة السائدة، وفي بلادنا فإن الدولة محكومة ليس فقط بضوابط الصراع الطبقي الداخلي، بل هي أيضاً محكومة بمصالح الصراع الطبقي الغربي الذي يفرض عليها المزيد من الانخراط في الصراع الطبقي (المحلّي والعالمي). والطبقة السائدة هي كمبرادوريّة بمعنى ارتباطها العضوي بالمصالح الاقتصاديّة الغربيّة والأوامر السياسيّة للمعسكر الأميركي. والجوهري تفصل بين دور الدولة وبين «الدولة جوهريّاً»، وقد تعني الكلمة معنى نظريّاً يؤمن الفكر الليبرالي به. قد تكون الجوهري تريد تهديم الدولة وبناء دولة جديدة على أنقاضها، لكن هل يسمح الغرب بذلك؟ وهل تكون الدولة الجديدة أبعد عن الاستبداد الطبقي من سابقتها؟ لا يمكن.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)