بداية من اللافت للنظر في وثيقة حماس عدم استيعاب أن إسرائيل هي دولة أبارثهيد، وبالتالي فإن القبول ببانتوستان على 22% من أرض فلسطين التاريخية هو ترسيخ لهذا النظام الأبارتهيدي الذي يقوم على أسس عنصرية بحتة، كما يتضح من تقرير الإسكوا الأخير.
ما الغضب من الانتقادات التي توجه للوثيقة إلا نتاج ضيق أفق أيديولوجي، أو ببساطة شديدة عدم فهم للواقع الجديد الذي خلقته إسرائيل واتفاقيات أوسلو النكبوية على الأرض! وما ردود السيد مشعل غير المقنعة على الإطلاق على الأسئلة التي وجهها بعض الصحافيين إلا انعكاس لذلك. فالتعامل مع الاستعمار الاستيطاني والأبارثهيد لا يتم من خلال القبول بما يطرحه على أنه «حل واقعي» وأن المطالبة بزوال منظومته الاضطهادية المركبة هي «حل خيالي وغير واقعي».
ما الغضب من الانتقادات التي توجه للوثيقة إلا نتاج ضيق أفق أيديولوجي
أصبح واضحاً الآن أن الوثيقة الجديدة تتناسب مع التراكمات التنازلية التي صاحبت تطبيق اتفاقيات أوسلو، بل ترجع إلى التحول البرامجي لمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها وتبنيها بشكل لا لبس فيه حلاً يقوم على أساس أن إسرائيل هي دولة كولونيالية تمارس الاحتلال العسكري المباشر في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبالتالي تم نزع صفة الاستعمار الاستيطاني عنها والتغاضي عن أنها، وككل دول الاستعمار الاستيطاني، مارست التطهير العرقي والأبارثهيد، مع جنوحها لاستخدام أكبر جريمة حرب ضد الإنسانية بشكل بطيء، كما يحصل ضد فلسطينيي غزة، أي الإبادة الجماعية.
كنا نتوقع، بسذاجة مفرطة، أن تقوم الوثيقة بتحدي حلّ الدولتين العنصري كونه لا يلبي الحد الأدنى من الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، من حرية وعودة ومساواة. وهي حقوق كفلتها الشرعية الدولية، مما يعني أن «الوفاق الفلسطيني»، المبني على ما يُدّعى أنه إجماع دولي، يقوم على أسس وطنية مهلهلة.
ما الحل الذي يقبل بدولة فلسطينية على حدود الـ67 إلا إعادة تغليف لحل الدولتين/ السجنين عملياً، وهو ترسيخ للهيمنة الإسرائيلية بالكامل. السجن الأول يتم الوصول إليه من خلال «عملية سلام» يتم تسويقها للعالم ونتيجة «لتنازلات صعبة» تقدم عليها إسرائيل. ويصبح قطاع غزة، السجن الثاني، نموذجاً لما سيحصل لأي فلسطيني يحاول التمرد على هذا الواقع العنصري، سجن يتكدس به سكان الأرض الأصليون الذين تم طردهم من قراهم ويتوجب عقابهم بسبب أنهم لم يولدوا لأمهات يهوديات.
وعليه فإن القبول بدولة فلسطينية على حدود 67، مع استحالتها، ما هو إلا تعبير عن شرعنة السكان الأصليين لحل الدولتين/ السجنين كفضاء كولونيالي عنصري، يشمل ما يتم الترويج له على أنه الحل الأكثر واقعية، بدلاً من تحديد رؤية سياسية ضرورية للوصول إلى واقع يتخطى الوضع الراهن المتأزم، نحو أفق أكثر واقعية، واقع جديد يحفظ للفلسطيني حقوقه الأساسية من حرية وعودة ومساواة. فمبدئياً على كل فصيل فلسطيني، مقاوماً كان أو مفاوضاً، أن يعارض كل أشكال الحلول المبنية على قاعدة عنصرية وتحت أي مسمى كان. وفي هذا السياق النقدي، ربما يكون حل الدولتين، أو دولة على حدود 67، أسوأ ما توصلت إليه الوطنية الفلسطينية.
وتكمن المشكلة المستعصية في السؤال الذي عجز السيد مشعل عن الإجابة عليه بخصوص التناقض الفج بين التأكيد على عدم الاعتراف بإسرائيل، وفي الوقت نفسه القبول بدولة «بانتوستان» على حدود 67. وهذا ما يطرحه الكاتب المخضرم ديفيد هيرست في مقالته في جريدة «ميدل إيست آي» اللندنية، بعنوان «هل تذهب حماس إلى الحج والناس راجعة؟».
يقول الكاتب والناشط اللبناني سماح إدريس في معرض تعليقه على الوثيقة الجديدة: «لا يُلدغ المؤمنُ (بالله) من الجحْر مرتين، وعلى المؤمن بتحرير فلسطين ألّا يُلدعَ من الجحر مرّات، ودائماً تحت شعارات «المرحليّة» و«الواقعية» و«الضرورات» و«التكتيك». لا يهمّ «التمسكُ بكامل التراب الفلسطينيّ» حين توافق «موقّتاً» (!) على دولتين، إحداهما صهيونيّة عنصريّة إحلاليّة احتلاليّة على 78% من تراب فلسطين.
وهكذا، ومع سيطرة خطاب الدولتين وتحوله إلى أيديولوجيا تتم تعبئة الجماهير الفلسطينية على أساسها تم تغيير الأولويات في المعادلة النضالية وأهدافها، فتم بدايةً الخلط المتعمد بين مقولات متناقضة وإعادة ترتيب الأولويات.
والحقيقة أن القبول بدولة على حدود 67 يعني أيضاً إعادة تعريف النضال الفلسطيني وأهدافه من حيث تصغيره إلى مقاومةٍ ضد الاحتلال العسكري المباشر للضفة والقطاع فقط، مع تجنب الحديث عن الأشكال الأخرى للاضطهاد الصهيوني. ويتم الخلط بين التكتيك والاستراتيجية بطريقةٍ «فهلوية» تصغر الهمّ الفلسطيني إلى معاناة سكان الضفة الغربية وقطاع غزة كونهما «الدولة الفلسطينية» المنشودة. ويأتي ذلك كله على أساس أن الدولة على حدود 67 ما هي إلا تعبير عن «توافق وطني!» وكأن «التوافق» - الذي نفت حركة الجهاد الإسلامي وجوده مثلاً - يعني تصغير الشعب الفلسطيني إلى سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، بما أن دولة فيهما هي تجسيد «لمصالح» سكانهما.
ماذا يعني أن يصل فصيل مناضل بعد 30 عاماً من انطلاقه وسقوط آلاف الشهداء من كوادره وأنصاره، إلى أن الحل العنصري التصغيري الإقصائي هو الحل الأكثر «واقعية» في المرحلة الحالية؟
وكأي بروباغندا تعبوية يتم الترويج لحل «دولة على حدود 67»، وهو حل عنصري، على أساس أنه يجسد «الاستقلال الوطني» المرجو بعيداً عما أسماه بعض المروجين له «هراء» و«عدم واقعية» البديل الديمقراطي الذي يمزج بين البعد الديمقراطي المدني والعدالة النسبية. وبدا وكأن الحديث عن العدالة، أي العودة والمساواة، هو ضرب من الخيال على الرغم من ادعاء أصحاب حل الدولتين أنهم «لم يتخلوا» عن حق العودة. وفي هذه الحالة إما أننا نتعامل مع سياسة تشكيل وعي زائف مؤدلج يرى أن «الاستقلال» متجسد برموز معينة، هو تجسيد للمشروع الوطني الفلسطيني، ولا يرى الاستحالة العملية لتجسيد هكذا مشروع أو مصالح طبقية ارتبطت عضوياً بحل الدولتين. على الرغم من عدم تحقيقه الحد الأدنى من تطلعات الشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاثة.
ما يغيب بالكامل عن خطاب حل الدولتين، الذي يُسمى خطاب «الاستقلال»، هو البعد التحريري للنضال الفلسطيني، وطبيعة الاستعمار الاستيطاني للمشروع الصهيوني. بمعنى أن الأهداف النضالية للشعب الفلسطيني قبل إطلاق مشروع حل الدولتين العنصري كانت تتمحور حول حقّ العودة للاجئين/ات الفلسطينيين/ات إلى الأراضي التي طُهروا منها عرقياً كضرورة موضوعية لتحقيق «الحلم» الصهيوني. ولأنه لا يمكن الفصل تاريخياً وأيديولوجياً بين انتشار الاستعمار الغربي وامتداده على أسس فكرية عنصرية، إلى بقاع الأرض، بما فيها العالم العربي، وبداية التفكير بتصدير ما أسماه الغرب المعادي للسامية «بالمشكلة اليهودية» إلى فلسطين. ومن ضمن بعض الاقتراحات تم تغليف المشروع بأبعاد دينية تعبويه، مما أدى أيضاً إلى صبغه بصبغة استيطانية شبيهة بالمبررات الأيديولوجية/ الدينية التي صاحبت قيام دول الاستعمار الاستيطاني الأخرى مثل أميركا وأستراليا وجنوب أفريقيا...إلخ.
نعم هناك تغيير في برنامج حركة المقاومة الإسلامية، هناك تقدم وتراجع، هناك محاولة للتزاوج بين أيديولوجيا دينية طبقية وبراغماتية تسويقية. نعم إن «لبرلة» ميثاق حماس نقطة فارقة في التاريخ الفلسطيني.
* محلل سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة»، وأستاذ جامعي في جامعة الأقصى ــ غزة