يعبّر الاحتفال بعيد العمال العالمي في الأول من أيار، عن الوفاء للذين كتبوا بدمائهم وعرقهم ولادة هذا العيد في مدينة شيكاغو الأميركية عام 1886، وللذين تابعوا في كل أصقاع المعمورة هذه المسيرة الوضّاءة على امتداد أكثر من قرن وربع القرن إلى يومنا هذا، فكافحوا وكابدوا وتحمّلوا أعظم التضحيات وصولاً إلى الاستشهاد، من أجل الدفاع عن قضايا العمال والطبقة العاملة.
وبالنسبة إلى حزبنا الشيوعي، فإن هذه الذكرى تنطوي على أعمق وأصدق مشاعر الوفاء لشهداء الطبقة العاملة اللبنانية وحركتها النقابية، ومن ضمنهم العديد من الشيوعيين الذين سقطوا في ساحات الشرف والبطولة في تظاهرات الحركة الطلابية وعمال الريجي ومعمل غندور ومزارعي التبغ وصيادي الأسماك. إن الاحتفالات بهذا العيد تجري في عصرنا الراهن وسط اشتداد الصراع بين قوة العمل ورأس المال وتفاقم أزمة النظام الرأسمالي العالمي على غير صعيد، بالتزامن مع ترسّخ سيطرة رأس المال المالي والريعي، وانتشار أوجه عدم العدالة في كافة مناحي الحياة، واستشراء البطالة خصوصاً في صفوف الشباب والنساء، وتعاظم المديونية العامة في دول وقارّات بأكملها، وانعكاس مجمل هذه الظاهرات في تراجع حجم ونوع التقديمات وشبكات الحماية الاجتماعية، الأمر الذي ساهم في تنامي صعود القوى اليمينية بأشكالها المتنوعة في غير منطقة في العالم، بما في ذلك اليمين الشعبوي والفاشي والظلامي.
في المشهد الاقتصادي والسياسي اللبناني:
في لبنان يأتي الأوّل من أيار في خضم أعمق أزمة سياسية واقتصادية يتحمّل مسؤوليتها التحالف الضيّق ما بين الحكم وحيتان المال. وتلقي هذه الأزمة بظلالها السوداء على الطبقة العاملة وجميع الذين يعملون ليل نهار من أجل تأمين الحد الأدنى من احتياحات العيش الأساسية - من فرص عمل ومأكل ومسكن وصحة وتعليم وتقاعد - من دون أن يتمكّنوا من الإيفاء بهذه الاحتياجات. في المقابل، يزداد تركّز الدخل والثروة في مصلحة أقلية متنفذة لا تنفكّ تمعن في التمسّك بامتيازاتها الطبقية التاريخية التي انتزعتها من أفواه العمال والفقراء وغالبية اللبنانيين بقوة السلطة والمال. وقد وصل بها الأمر مؤخراً الى درجة الاستماتة في الدفاع عن مصالحها الزبائنية الخاصة عبر رفضها لما تضمنه مشروع موازنة عام 2017 من إجراءات ضريبية طاولت جزئياً الأرباح المصرفية والريوع العقارية. وتتناسى هذه الأقلية المسيطرة أن سياساتها واحتكاراتها وتهربها الضريبي وتقاسمها للمال العام هو الذي حوّل اقتصادنا إلى اقتصاد مشبع بالأنشطة الريعية البائسة، وهو الذي عجز عن خلق الوظائف المنتجة واستيعاب التقدم التكنولوجي، وهو الذي عزّز التفاوت الكبير بين مداخيل العمل وكلفة المعيشة، وهو الذي عمّم البطالة والفقر والهجرة خصوصاً بين الشباب، وهو من يتحمّل قبل ذلك مسؤولية انهيار البنى التحتية ووظائف الدولة الأساسية.
وفي مواجهة هذا الاستئثار للثروة والدخل من قبل تلك الأقلّية المتنفّذة، فإن المهمّة الأساسية أصبحت تتمثّل راهناً في العمل على كسر الحلقة الوظيفية التي تبيح لهذه الأقلية الاستيلاء على مداخيل أكثرية اللبنانيين وآمالهم، عبر استخدامها للمالية العامة وسياسة إدارة الدين العام كأداة لمراكمة الأرباح والثروات الخاصة على حساب العمال والفئات المتوسطة والفقيرة. وتقضي هذه المهمّة بفرض زيادة في الضريبة على الأرباح والفوائد والريع العقاري بالتزامن مع رفض أي رفع للضرائب على الطبقة المتوسطة والعمال والموظفين والفقراء. كما تقضي بشكل أعمّ وأشمل بتحرير العمّال وعموم الشعب اللبناني من واقع العوز والفقر والجوع والخوف والقلق من المخاطر التي تهدّدهم في حاضرهم ومستقبلهم. كيف لا، ونصف اللبنانيين لا يزالون بلا تغطية صحية نظامية، وأكثر من 75% منهم محروم من معاش تقاعدي أو ضمان شيخوخة، وأكثر من 60% منهم لا تكفيهم مداخيلهم وأجورهم لتأمين نفقاتهم الشهرية الضرورية، ونصف هؤلاء يعيشون فعلياً تحت خطّ الفقر الأعلى بينما يعيش ربعهم في فقر مدقع.
في المشهد السياسي والانتخابي:
في الوقت الذي تتعمق فيه الأزمة الاقتصادية - الاجتماعية في البلاد، تتعمق أيضاً الأزمة السياسية التي تعصف بمجمل مؤسسات النظام السياسي. وإذا كان البعض قد علّق آمالاً على إمكان اقتران العهد الجديد بفرصة للتغيير والإصلاح، إلا هذه الآمال سرعان ما تبخّرت بفعل «المقاومة» الرجعية الشرسة التي أبداها أركان النظام الطائفي ضد أيّ تجديد للحياة السياسية يحقّقه قانون انتخابي عصري وذو قاعدة تمثيلية ديمقراطية عريضة. إن الحزب الشيوعي اللبناني، الذي يقارب مشاريع القوانين الانتخابية انطلاقاً من رؤيته لمصلحة البلاد العليا في تعزيز الانتماء الوطني والاندماج المجتمعي والمساواة بين المواطنين، قد طرح في مؤتمره الحادي عشر مشروعاً للنسبية الكاملة خارج القيد الطائفي في لبنان دائرة واحدة، مدركاً في الوقت ذاته أن تحقيق هذا المشروع يتطلب تغييراً حاسماً في موازين القوى السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد.
ومع تمسكه المبدئي بهذا المشروع، فإن الحزب يرى ضرورة تداعي كافة الأحزاب والقوى والشخصيات اللبنانية اليسارية وغير الطائفية، بما فيها جمعيات وهيئات غير حكومية، إلى الالتقاء - كل من موقعه ورؤيته للمواجهة - في أقرب وقت قبل الخامس عشر من شهر أيار، للتداول والتوافق حول الخطوط العامة لمبادرة وطنية هدفها الدفع نحو تجميع هذه الأحزاب والقوى والشخصيات والجمعيات، مع الاستعداد للانفتاح على كل الأفكار والاقتراحات الملموسة التي من شأنها أن تشدّ عضض التيارات غير الطائفية في البلاد. ويقترح الحزب أن تتضمن هذه المبادرة جملة قضايا، أهمها:
أولاً، التفاهم المشترك حول سبل إسقاط كل مشاريع القوانين الانتخابية الرجعية والتقسيمية والتفتيتية التي تقوم على أساس «الفصل الطائفي والمذهبي»، لا سيما تلك التي تعتمد التأهيل الطائفي الأكثري على مستوى الدوائر الصغرى.
ثانياً، بلورة المبادئ العامة والمساحات المشتركة لقانون انتخابي يعزّز فرص التغيير الديمقراطي في البلاد، مع الأخذ في الاعتبار واقع التنوّع في وجهات النظر حول أفضل صيغ التمثيل النيابي التي يتطلع إليها كل من هذه الأحزاب والقوى والهيئات.
ثالثاً، التداول في طريقة التعاطي المشترك إزاء أي قانون قد تتوصل إليه أو تفرضه المنظومة السلطوية المتنفذة في منتصف شهر أيار، على أمل أن يؤدي هذا التداول إلى اتفاق القوى الديمقراطية على النهج العام الذي يفترض أن يحكم متابعة المواجهة ضد هذه المنظومة، تبعاً للمضمون التفصيلي لهذا القانون.
رابعاً، البحث العملي والملموس في دقائق المجريات التنفيذية للعملية الانتخابية ولآفاق التعاون المشترك بين الأحزاب والقوى والجمعيات المعنية، في حال قرّرت هذه الأخيرة مواجهة أركان السلطة بصورة مشتركة ومن موقعها الوطني المعارض والمستقل.
خامساً، التباحث حول المهمات المشتركة التي قد تطرحها مرحلة ما بعد منتصف شهر أيار، في حال ترسّخ الفراغ في المؤسسة التشريعية نتيجة عدم توصل القوى المتنفّذة إلى إقرار قانون انتخابي جديد.
إن الأحزاب والقوى والشخصيات اليسارية والديمقراطية، وكذلك العديد من المكوّنات غير الطائفية في الجمعيات غير الحكومية، يجب أن تكون وفية لتضحيات عشرات - بل مئات – الآلاف من اللبنانيين الذين تظاهروا واحتلوا الشوارع في الحراكات الشعبية المتعاقبة التي شهدتها السنوات الستّ المنصرمة، مطالبين بالإصلاح الديمقراطي وبتلبية الحقوق المعيشية المشروعة وتوفير الخدمات العامة الأساسية وفرص العمل. وربما علينا أن نعترف بصراحة أن الافتقاد إلى إطار قيادي وتنسيقي مشترك وفاعل وإلى أجندة عمل واضحة ومحدّدة، قد ساهم إلى حدّ كبير في تبديد الكثير من الفرص الكامنة التي انطوت عليها تلك الحراكات الشعبية المتلاحقة. إن تجسيد الاستجابة الملموسة راهناً لتلك التضحيات المتراكمة، لا يكون إلا بتكثيف وتطوير العمل المشترك بين محتلف القوى العلمانية. فهذه هي الوجهة التي تتيح في المطاف الأخير إمكان إحداث خرق فعلي في موازين القوى السياسية والاجتماعية في البلاد، بحيث يتمكن العلمانيون من انتزاع ما يستحقونه فعلاً من نصيب في إدارة الشأن العام في البلاد.
إن تظاهرة الحزب الشيوعي اللبناني بمناسبة عيد الأول من أيار هي خطوة تصبّ في هذا الاتجاه: اتجاه تعزيز النهوض الشعبي المتحرّر من عصبيات العلاقات الطائفية الزبائنية، وتشجيع وتسهيل عملية تجميع القوى اليسارية والعلمانية والديمقراطية، وتصعيد المواجهة المفتوحة ضد تحالف حيتان المال والنظام السياسي الطائفي المذهبي، والضغط من أجل انتزاع قانون عصري وديمقراطي للانتخابات. إن تظاهرة الأول من أيار واحتفالات هذا العيد في المناطق، منصة لتصعيد الحراك الشعبي في الشارع وصولاً إلى ذروته في الخامس عشر من أيار الحالي.

(افتتاحية مجلة «النداء»)
* الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني