فبينما أضحت إسرائيل غنيةً بالغاز، بات الواقع المثير للشفقة في قطاع غزة يعاني نقصاً مزمناً في الكهرباء منذ فرضت إسرائيل الحصار في عام 2007. كما أدى النقص في الكهرباء في الشهور الماضية إلى احتجاجات كبيرة وغضب شديد في جميع أنحاء قطاع غزة، بحيث يكافح سكان القطاع لتأمين تدابير تخفف من المعاناة التي يكابدونها في حياتهم اليومية. في غضون ذلك، تحولت إسرائيل في غضون بضع سنوات من مستورد إقليمي للغاز إلى دولةٍ مُصدرة له، وتطلَّعت إلى السوق المحلية وأسواق البلدان المجاورة وما وراءها لتحديد وجهات التصدير المحتملة ودفع عجلة التطبيع الاقتصادي ضمن محيطها المباشر.
غاز غزة والهيمنة الإسرائيلية
اكتشف الفلسطينيون احتياطيات الغاز قبل اكتشاف الغاز الإسرائيلي بعقد من الزمن تقريباً. فقد اكتُشف حقل غزة البحري قبالة سواحل غزة في 1999، ومُنحت رخصة التنقيب والإنتاج لمجموعة «بي جي،» شركة النفط والغاز البريطانية الكبرى التي استحوذت عليها شركة «شل» لاحقاً. حظي هذا الكنز الوطني، بُعيد اكتشافه، بالإشادة باعتباره تطوراً يمكن أن يُفضي إلى ازدهار الفلسطينيين، وظن البعض أن اكتشاف الغاز يمكن أن يعطي الفلسطينيين دفعةً يحتاجونها أشد الاحتياج باتجاه تقرير المصير. ولكن إسرائيل والتي تقوم منذ عام 1967 باستغلال ونهب الموارد الطبيعية الفلسطينية، منعت الفلسطينيين من الانتفاع من احتياطاتهم النفطية والغازية وحالت دون تطوير هذا الحقل في إطار سعيها لفرض شروط تحكم إنتاج الغاز وتصب في مصلحتها تجارياً.
وبحسب التقديرات يبلغ مخزون حقل غزة البحري تريليون قدم مكعب من الغاز بما يكفي لتحقيق الاكتفاء الذاتي التام في قطاع الطاقة الفلسطيني. وعلى الرغم من المحاولات اللحوحة من أصحاب الحقل والمستثمرين من أجل تطوير حقل غزة البحري، فرضت إسرائيل قيوداً متشددة حالت دون اتخاذ أي تدابير للتنقيب عن الغاز وإنتاجه في هذا الحقل في حين سارعت إلى تأمين استقلالها في مجال الطاقة بعد اكتشاف حقول الغاز وتركت القطاع يعاني أزمة في تأمين الكهرباء. وبالنظر إلى استحواذ شركة شل مؤخراً على مجموعة بي جي، وإطلاقها برنامجاً لتصفية الاستثمارات العالمية، فمن المرجح أن يُباع حقل غزة البحري ضمن التصفية.
اكتشف الفلسطينيون احتياطيات الغاز قبل اكتشاف الغاز الإسرائيلي بعقد من الزمن
تستخدم شركة غزة لتوليد الكهرباء، وهي الشركة الوحيدة لتوليد الكهرباء في فلسطين، الوقودَ السائل في الوقت الراهن الذي يُشترى ويُنقل إلى قطاع غزة من السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. ولسد النقص في الطاقة التي تولدها الشركة، تشتري غزة الكهرباء من شركة الكهرباء الإسرائيلية ومن الشبكة الكهربائية المصرية. ومع ذلك، لا يكفي الوقود الذي تشتريه الشركة لتوليد الكهرباء لتلبية الطلب المحلي. هذا الوضع القائم خلق أزمة كهرباء حيث خرج أهالي القطاع إلى الشوارع في أواخر العام المنصرم ومطلع العام الحالي احتجاجاً على انقطاع الكهرباء الذي لا يصلهم التيار سوى لثلاث أو أربع ساعات يومياً.
يُلقى مواطنو غزة اللوم في أزمة الطاقة في غزة على حكومة حماس والسلطة الفلسطينية وإسرائيل. فمن وجهة نظر بعض الغزاويين تقوم حكومة حماس بصرف الأموال المخصصة لشراء الوقود اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة نحو أنشطة أخرى، كبناء الأنفاق. في حين يرى آخرون بأن السلطةَ الفلسطينية تتواطأ في دعم الحصار بتحكمها في شراء الوقود ونقله إلى غزة. كما تتعرض شركة الكهرباء، وهي شركة خاصة، لانتقادات متكررة على افتراض أنها تتربح من الغزاوي البسيط الذي يئن تحت وطأة هذه الانقطاعات. وللتخفيف من برودة أشهر الشتاء القاسية في أواخر 2016 ومطلع 2017، تدخلت تركيا وقطر بتزويد قطاع الطاقة في غزة بإمدادات وقود سمحت باستئناف توليد الطاقة في شركة غزة لتوليد الكهرباء. غير أن هذه التدابير لم تكن سوى مسكنات قصيرة الأجل تنتقل بسكان غزة إلى فصل آخر من أزمتهم المزمنة. وفي ظل الغضب الشعبي وتراشق الاتهامات، تميع، إذا لم تهمَّش، آثار الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة والاستعمار والسيطرة الإسرائيلية عموماً على الموارد الفلسطينية.
التطبيع عبر الغاز وغيره
روج وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري لمقترح التنمية الاقتصادية القائم على مفهوم «السلام الاقتصادي» وهذا ما تدعو إليه أيضاً إدارة ترامب عبر سفيرها في إسرائيل، ديفيد فريدمان. فبدلاً من معالجة المأزق السياسي الناجم عن الاحتلال الإسرائيلي الطويل والانتهاكات الأخرى، تعالج هذه المقترحات القضايا المتعلقة بنوعية الحياة والتجارة والنمو الاقتصادي على افتراض أنها نقطة انطلاق نحو إحلال السلام. اتبعت إدارة أوباما سابقاً نهجاً مماثلاً حين أخذت تتحرى السُبل لتحويل إسرائيل إلى مركز إقليمي للطاقة بُعيد اكتشاف الغاز الإسرائيلي. ويسَّرت وزارة الخارجية الأميركية العديدَ من مفاوضات الغاز بين إسرائيل والأردن والفلسطينيين. وشجَّع المبعوث الخاص ومنسق شؤون الطاقة الدولية، الذي استُحدث منصبه مؤخراً لتوطيد الدبلوماسية الأميركية في مجال الطاقة حول العالم في عهد أوباما، الحوارات لتمكين تصدير الغاز الإسرائيلي إلى الأردن والفلسطينيين، وكان نجاحه بائناً. ففي عام 2016 أصبح الأردن أول دولة تلتزم بشراء الغاز الإسرائيلي وذلك بعد توقيع الطرفان لمذكرة تفاهم في اعام 2014 بحيث يستورد الأردن بموجب هذه المذكرة الغاز من إسرائيل في السنوات الـ 15القادمة بالرغم من تصويت أعضاء البرلمان الأردني على رفض الصفقة. وفي مطلع عام 2017 بدأ الغاز في التدفق من إسرائيل إلى الأردن. وفي حين قوبل هذا الأمر باحتجاجات شعبية واسعة في الأردن نظمها ناشطون في المجتمع المدني الأهلي الأردني، إلا أن الأردن يرى في المنفعة الاقتصادية التي يمكن أن يجنيها من خط أنابيب الغاز الرخيص تعوِّض عن أية مخاوف اجتماعية وسياسية لدى مواطنيه حيال التعامل مع إسرائيل.
الأردن ليس المستقبِل المحتمل الوحيد للغاز الإسرائيلي. فقد أقرت السلطة الفلسطينية خططاً في 2010 لتأسيس شركة فلسطين لتوليد الطاقة، وهي الشركة الأولى من نوعها في الضفة الغربية والثانية في الأرض الفلسطينية بعد شركة غزة لتوليد الكهرباء في غزة. تبلغ القدرة الإنتاجية لمحطة التوليد هذه الواقعة في مدينة جنين 200 ميغاوات، ويقودها مستثمرون من القطاع الخاص (بما في ذلك باديكو وشركة اتحاد المقاولين) يعملون على تعزيز قطاع الطاقة الفلسطيني من خلال تأمين توليد الكهرباء في الضفة الغربية والحد من ارتفاع تكلفة واردات الكهرباء الإسرائيلية. دخلت شركة فلسطين لتوليد الطاقة في مفاوضات مع إسرائيل لشراء الغاز من حقل ليفياثان لتوليد الكهرباء. غير أن الفلسطينيين احتجوا على هذا القرار، ودعوا إلى السعي لتطوير حقل غزة البحري بدلاً من الاعتماد على الغاز الإسرائيلي. وانهارت المحادثات في 2015، ولا أحد يعلم ما إذا كانت قد عُلِّقت مؤقتاً فقط.
تشريع النهب والتحكم بأمن الطاقة
تتحكم إسرائيل بأمن الطاقة الفلسطيني وتستطيع وقف إمدادات الطاقة عن المستهلك الفلسطيني وقت تشاء، أو حتى تدمير محطة توليد الكهرباء كما فعلت في عامي 2006 و2014 حينما دمرت محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة، وعلى الأراضي التي تقع تحت إدارة السلطة الفلسطينية. ومع دخول الاحتلال الإسرائيلي عامه الخمسين يحاول هذا الأخير تشريع عمليات النهب الواقعة على الأرض الفلسطينية. فلا يكفي أن إسرائيل لا تدفع تكلفة إعاقة جهود بناءَ الدولة الفلسطينية، بل تُكافَؤُ مباشرةً من جني إيرادات الغاز المُباع إلى الأرض الواقعة تحت السيطرة الإقليمية الإسرائيلية وتتربح من نهب الثروات الطبيعة الأخرى بالرغم من تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارات تنص على سيادة الشعب الفلسطيني على موارده الطبيعية.
تمتلك إسرائيل الآن فائضاً من الغاز، ولا يزال السكان الفلسطينيون يعتمدون على واردات الطاقة من إسرائيل في الضفة الغربية، وليس فقط في غزة. إذ إن قرابة 88% من استهلاك الفلسطينيين تورده إسرائيل، وتستورد الضفة الغربية احتياجاتها كلها تقريباً من الكهرباء من إسرائيل. ويعتقد دعاة السلام الاقتصادي أن احتمالات عدم الاستقرار تقل عند تعزيز هذا الاعتماد المتبادل. ولكن تبادل الطاقة والتجارة سعيًا لتحقيق السلام الاقتصادي في غياب أي أُفق سياسي يرسِّخ اختلال توازن القوى بين الطرفين المحتل والقابع تحت الاحتلال. فهذا التكامل يوحي زوراً بوجود علاقات سيادية طبيعية بين القوة المحتلة والاقتصاد الأسير في الضفة الغربية وقطاع غزة.
إن قضية الغاز تحوُّل جهودَ بناء الدولة الفلسطينية عبر تنمية الموارد الوطنية إلى جهودٍ ترمي إلى تخفيف وطأة أزمات الطاقة في إطار سيادة منقوصة. وبدلاً من معالجة عجز الفلسطينيين عن استكشاف مواردهم الطبيعية، يعمل الدبلوماسيون الأميركيون بنشاط مع إسرائيل لتيسير المفاوضات التي تعزز «نوعية حياة» الفلسطينيين التي تبقيهم مرتهنين لإسرائيل إلى الأبد. هذا النهج القائم ينعكس أيضاً على دول الجوار. فالأردن يعتمد حالياً على إسرائيل بنسبة 40% من وارداته من الطاقة. واستعداده لهذا الالتزام، برغم مساوئه الجيوستراتيجية العديدة، يعزز التوجه نحو التطبيع مع إسرائيل في المنطقة بينما تواصل احتلالها الأرضَ الفلسطينية. إن هذا التصرف يُنذر بتهديدات عديدة في وقت تقترح فيه إدارة ترامب السعي لتدابير دبلوماسية «على هوى الأطراف المعنية» قد تتجاوز الفلسطينيين كلياً.
قد تكون التنمية الاقتصادية عامل استقرار وترتقي بنوعية الحياة للمواطنين، غير أنه لا يجب النظر إليها كغايةٍ في حد ذاتها، ولا كبديل بالتأكيد من إعمال الحقوق الفلسطينية. إن حصر التركيز في السلام الاقتصادي وتجاهل السياق التاريخي الأوسع الذي أدى إلى اعتماد الفلسطينيين، وربما المنطقة، على إسرائيل لن يقدم أي حل أو يدفع بعملية السلام إلى الامام. فأي نمو اقتصادي للفلسطينيين، وإن تحقق، لن يثني أبداً الفلسطينيين عن المطالبة بالسيادة والحقوق وتقرير المصير. وخيرُ ما يُثبت ذلك اندلاع الانتفاضة الأولى قبل نحو 30 عاماً بعد عقود من تطبيع العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والأراضي الواقعة تحت احتلالها العسكري. قد يمكن «للسلام الاقتصادي» أن يؤمِّن انفراجاً قصير الأجل، ولكنه لن يمهد الطريق لمزيد من الاستقرار إلا إذا بُني على أساس المساواة والعدالة.
النضال لإحراز الحقوق
يتوقف حق الفلسطينيين في استغلال مواردهم على مفاوضات الوضع النهائي مع الإسرائيليين. واتفاقات الغاز التي تسعى الأطراف لإبرامها سوف تساهم في خلق أرضية الاعتماد والتبعية التي سيكون من الصعب التغلب عليها في حال التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض وسترسخ الوضع الراهن بالنظر إلى تبدد آمال حلّ الدولتين. ولذلك لا بد أن تستمر منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية والمجتمع المدني الفلسطيني وحركة التضامن مع فلسطين في استخدام كل الأدوات المتاحة لها لممارسة الضغط من أجل إحقاق العدالة والحقوق للفلسطينيين ومساءلة إسرائيل ومطالبتها بتعويض الفلسطينيين عن نهب ثروتهم الطبيعة، وليس كوسيلةٍ للإذعان للتبعية القسرية.
قد ينتفع الفلسطينيون من عناصر معينة في السلام الاقتصادي في المدى القصير من خلال تعزيز النمو الاقتصادي والتنمية، ولكن لا يمكن لهذه أن تتأتى على حساب حالة لا محدودة من التبعية والسيادة المنقوصة. يجب على الفلسطينيين أن يعملوا على الدفع من أجل محاسبة الاحتلال الإسرائيلي في المحافل الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية لحمل إسرائيل على الوفاء بمسؤوليتها كقوة محتلة بموجب القانون الدولي. وهذا يعني أن إسرائيل مكلفة بمسؤولية حماية سُبل عيش السكان المتواجدين ضمن نطاق سيطرتها، بما في ذلك تزويدهم بالكهرباء والوقود. كما يجب العمل على مواجهة أي احتمالات لفرض تكامل اقتصادي قسري وأية محاولة إسرائيلية لفرض واقع دولة الأبرتهايد الواحدة وذلك من خلال المطالبة بإعمال الحقوق والمساواة. ومهما كانت الرؤية السياسية الموضوعة لإسرائيل والفلسطينيين، فإنه يجب على القيادة الفلسطينية أن تضع استراتيجية تتمحور حول صفقات الغاز هذه، وتأطير مفاهيم التنمية الاقتصادية ضمن الصراع الأوسع من أجل تحرير فلسطين.
(تستند هذه المقالة إلى ورقة سياساتية نشرت في موقع «الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية» تحت عنوان: كيف توظِّف إسرائيل الغاز لتفرض التبعية وتعزز التطبيع)
* زميل ومحلل سياساتي في «الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية»، وباحث زائر في معهد الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا