أنجبت النكبة ثورة. تحوّلت الثورة إلى نكبة. صار لدينا نكبة في النكبة. ازداد الشتات شتاتاً. ارتدى الاستيطان الصهيوني رداء السلام وألبسنا رداء الإرهاب، فصار همُّ المرجعيات الفلسطينية نزع هذه التهمة وتبرئة نفسها منها حتى لو انكشفت عارية أمام العالم كله. بعضها لم يحتفظ حتى بورقة توتٍ، والبعض الآخر يجهد للاحتفاظ بهذه الورقة لمآرب خاصة أو لحين المشهد الأخير.
هذه خلاصة الوضع الفلسطيني الراهن المتعلّق بذكرى النكبة التاسعة والستين، هذه هي نكبتنا الجديدة، هذا هو معنى صراع فتح وحماس على سلطةٍ لا معنى لها سوى التسلُّط على الشعب الفلسطيني.
أسرى أبطال يدفعون ثمن سلامٍ مزعومٍ، يخوضون معركتهم بصلابة من أجل حقوقٍ كان يُفترض أن يوفّرها لهم السلام هذا. مشهدٌ يشذُّ عن المسار السياسي الرسمي وشبه الرسمي. مشهدٌ نابع من قلب الشعب الفلسطيني التوّاق إلى الحرية ويمثّل بارقة أملٍ على الرغم من كل السوداوية المحيطة. مشهدٌ وإن كان لا يُعَوَّل عليه أن يصوّب المسار، إلّا أنه يهدي من يشاء أن يهتدي إلى طريق النجاة. مشهدٌ يعبّر عن أن مخزون النضال الاحتياطي الفلسطيني متجدّدٌ ولا ينضب، وينتظر الأداة القائدة المخلصة المؤهلة لاستثماره بفعالية بما يضمن تحقيق الحقوق الطبيعية والمشروعة للشعب الفلسطيني كشرط لازم لإحلال السلام الحقيقي في عموم المنطقة.
الكتابة عن النكبة فينا ليست جَلْداً للذات، كما يحلو للبعض تسميتها. إنها ضرورة من ضروريات التغلّب على النكبة الأساس التي أحدثها المشروع الصهيوني الاستيطاني بدعم منقطع النظير من قبل القوى الاستعمارية والإمبريالية وبتخاذل القوى الرجعية العربية. «إن فكرة إسرائيل سيئة منذ نشأتها» (مارسيلو سفيرسكي، ما بعد إسرائيل: نحو التحوّل الثقافي، باللغة الإنكليزية 2014). هذا ما عبّر عنه الكاتب الإسرائيلي، بعدما حكَّمَ عقله وضميره، فآل على نفسه إلا أن يجهر بحقيقة ما توصّل إليه بحثه الموضوعي. حقيقةٌ لا ينكرها سوى جاهلٍ أو حقودٍ أو عديم إنسانية.
في المقابل، نرى السلطة الفلسطينية لا تكتفي بالتصالح مع الفكرة الصهيونية فقط، بل تبذل كلّ ما في وسعها للتّماهي معها والتمادي في ذلك إلى حد اعتبار التنسيق الأمنى مع إسرائيل مقدّساً. الحفاظ على السلطة والمنافع الشخصية المرتبطة بها هو الهم الوحيد للقيّمين عليها. سموها فلسطينية زوراً لأن الفلسطينيين، بمن فيهم الرئيس، لا يملكون أي سلطة سيادية. واقع السلطة هذا نتيجة طبيعة لإعلان أوسلو والاتفاقيات المرتبطة به. أنْ تكون قيادة منظمة التحرير وفتح متوافقة مع هذا الواقع مفهومٌ ومنطقي نظراً إلى أنها شريك أساسي في تَشَكُّلِهِ، أما أن تَلِجَ حماس نفق أوسلو من باب انتخابات المجلس التشريعي، فهذا ملتبسٌ وغير منطقي بالمقارنة مع مبادئها وأهدافها المعلنة. إن سلطة أوسلو لا تتغيّر بتغيُّر القيّمين عليها لأنها تستمدُّ حياتها من خارج الأرض الفلسطينية وشعبها. فإذا كانت أهم مستلزمات إدارة السلطة، وهي رواتب موظفيها، تأتي من الدول المانحة فإن هذه السلطة ستبقى مرهونة لمشيئة المموّل ولا تستطيع أن تستمد سلطتها من شعبها حتى لو أتت بخياره. هذا هو السبب الرئيسي لمأزق حماس في إدارة سلطة غزة، ولهذا السبب بالذات تجد حماس نفسها مضطرة إلى إصدار وثيقة تعتقد أنها تساعدها في الوصول إلى مصادر التمويل الضرورية لإدارة شؤون السلطة. لا يختلف عاقلان على أنه بناءً على شروط أوسلو وظروف الواقع العربي القائم، وخاصة في مصر والأردن، ليس هناك أي إمكانية لأي سلطة في الضفة والقطاع لممارسة أي شكل من أشكال السيادة. وبالتالي، فإن أي طرف سياسي يعتبر نفسه مقاوماً، ورافضاً لنهج أوسلو، يجب أن ينأى بنفسه عن السلطة.
إن ما تدّعيه حماس في وثيقتها الجديدة من أن دعوتها لإقامة دولة في الأراضي المحتلة عام 67 لا يفرّط بحق الفلسطينيين بكل فلسطين لا يختلف عن ادّعاء أصحاب برنامج المنظمة المرحلي الذي أُقِرَّ في عام 74. جاء في هذا البرنامج أن المنظمة «تناضل بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية، وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها، وهذا يستدعي إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله». كما أعلنت أنها «ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وحقه في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني». وأنّها ستتابع «تحقيق استراتيجية منظمة التحرير في إقامة الدولة الفلسطينية الديموقراطية».
في المقابل، دعت حماس في وثيقتها الجديدة «إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967».
إن مقارنة محايدة وموضوعية بين هذين الموقفين تُبيّن أن ما طرحته المنظمة في برنامجها المرحلي أكثر تشدّداً ممّا جاء في وثيقة حماس. مع ذلك، وصلت المنظمة الى ما وصلت إليه من انحدار نحو التفريط بكل شيء. فما المانع من أن تكرّر حماس التجربة السابقة، وخاصة أن علة الطرفين واحدة وهي الاعتماد المالي المفرط على جهات من طينة متشابهة. بالإضاقة إلى ذلك، فإن حماس مرتبطة ببرنامج الإخوان المسلمين وقد ظهر هذا جليّاً من خلال اصطفافها الواضح إلى جانب الإخوان في الأحداث المدمرة الجارية في البلدان العربية، وهي ليس بريئة مما جرى لمخيّم اليرموك في سوريا.
يتزايد عدد الكتّاب والمثقفين الإسرائيليين الذين يجاهرون بعدم أهلية الكيان الصهيوني للحياة فتمردوا عليه، وبعضهم هجره وتخلّى عن الجنسية الإسرائيلية. كان بإمكان القوى الفلسطينية أن تحقّق إنجازات مهمة تساهم في خلخلة هذا الكيان، لكن يبدو أن السعي إلى السلطة والامتيازات الشخصية والفئوية، وكذلك الارتباط مع الجهات الدولية والعربية والدينية السياسية العالمية قد أدّيا إلى توليد نكبة داخلية. النكبة فينا هي أزمتنا، ولا يمكن التغلّب على النكبة الأمّ إلا بالتغلّب على النكبة فينا.
* كاتب وباحث فلسطيني