تمخضت تصريحات المسؤولين الأميركيين أخيراً، بما فيهم الرئيس باراك اوباما، والمؤتمرات ومراكز التخطيط والدراسات الاستراتيجية الاميركية، وغيرها، عن خطط اعادة احتلال العراق، كاشفة مخططاتها المعروفة التي كانت وما زالت موضوعة على طاولات وزارة الحرب والبيت الابيض. الجديد فيها هو الاعلان الرسمي عن اعادة الاحتلال بلسان صريح تحت حجج وذرائع غير اتهامية او عدائية. وهنا تبدأ الاسئلة، لماذا الآن؟ ما هو دور الولايات المتحدة في كل ما حصل في العراق، منذ الاحتلال عام 2003 والانسحاب العسكري عام 2011؟ وكذلك في قضية تنظيم ما يسمى بـ«داعش»؟ لماذا اغلب قادته اعتقلوا في سجون اميركية في العراق وأطلق سراحهم قبل الانسحاب؟ ومن خطّط للتنظيم اقتحام السجون العراقية الاخرى، ابو غريب مثالاً، وإطلاق سراح مجموعاته المسجونة فيها؟!
في كل الاحوال، لم تستفد الادارة الاميركية من دروس احتلالها الاول للعراق وقبلها لأفغانستان، وكأنها تعيد نفسها بكل تورطها، ناسية الأكلاف البشرية والمادية التي دفعتها في فترات احتلالها. وهي اذ تعمل على تنفيذ مشاريعها العدوانية، هذه المرة، بطريقة اخرى، بحجج مساعدة العراق ومحاربة «داعش»، وبرضا العراقيين، كما تعلن هي او يصرح بعض العراقيين المشتركين في العملية السياسية، او الذين راهنوا على الادارة الاميركية وتورطوا في مخططاتها الاستعمارية والتخادم معها.
لم تستفد الادارة
الاميركية من دروس احتلالها الاول للعراق


اقوال الرئيس اوباما المتناقضة تثبت تنفيذه للمخططات الموضوعة قبل انتخابه

اقوال الرئيس الاميركي اوباما المتناقضة تثبت سيره او تنفيذه للمخططات الموضوعة قبل انتخابه واستمرارها طيلة فترة حكمه، وفشله في الاصرار على تأجيلها ومعالجة الاوضاع الداخلية المأزومة، والتي كان من بين اسبابها الغزو الاستعماري لأفغانستان والعراق. رغم انه كما ذكرت صحيفة «اندبندنت» البريطانية (13/6/2015) اعتمد على ارسال «قنابل لا جنود»، وتجنب التضحية بأبناء الولايات المتحدة ضد «داعش» وغيرها، عبرة من الكلفة البشرية التي ما زالت تداعياتها تدق في البيوت الاميركية، مع استمرار الهيمنة والإخضاع للمناطق المرسومة في خريطة الاهداف الاميركية الاستراتيجية. فهو في الوقت الذي يعلن دون حرج ان ادارته لا تملك استراتيجية كاملة لهزيمة تنظيم «داعش» في العراق وسورية، يوقّع على قرار ارسال 450 مستشاراً اضافياً لأكثر من 3100 مستشار سابق بشكل رسمي، غير أولئك الموجودين لحماية السفارة الاميركية، التي ذُكر انها اكبر سفارة اميركية في العالم، والمرتزقة من الشركات الخاصة، «بلاك ووتر» ومشتقاتها، وغيرها الكثير المسكوت عنه، وكذلك القواعد المبنية على الارض في محافظات عراقية لحد الآن، وما يحيط بالعراق أيضاً. هي كلها أو بمجموعها قوات اميركية ستشترك مع القوات العراقية في الحرب في العراق وربما خارجه بعدئذ. وفي الأخير هذه استراتيجية لم يذكرها الرئيس الاميركي وهي تعمل في الواقع. كشفها بوضوح، (هل هو توزيع أدوار؟)، الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة. حيث قال: «إن الولايات المتحدة تبحث في إقامة المزيد من القواعد العسكرية الأميركية في العراق للتصدي لتنظيم داعش في خطوة قد تتطلب نشر المزيد من القوات الأميركية». ووصف ديمبسي قاعدة «التقدم»، التي اقامتها قواته في محافظة الانبار، «بأنها منصة للجيش الأميركي حتى يتوسع أكثر في العراق بهدف تشجيع وتمكين القوات العراقية في قتالها لتنظيم الدولة الإسلامية». وأضاف: «أن التخطيط لمواقع أخرى مماثلة لا يقتصر على المستوى النظري فحسب».
اعتبرت وكالة «رويترز» هذه التصريحات حول «خطة تعزيز القوات الأميركية في العراق البالغ قوامها 3100 جندي وإقامة مركز عمليات جديد في الأنبار تغييراً في استراتيجية أوباما الذي يتعرض لضغوط متزايدة لبذل المزيد من الجهود للحد من تقدم مقاتلي التنظيم المتشدد». وهي الصورة الجديدة لاحتلال العراق، والتي اطلق عليها تسمية «استراتيجية ورد النيل»، المعروفة بانتشار واسع على الارض، وبذريعة تقديم الدعم للقوات العراقية على خطوط القتال المتقدمة.
ليست هذه الأقوال للرئيس الاميركي ورئيس أركانه هي المؤشر الوحيد، بل هي رأس جبل الجليد من التصريحات والدراسات التي تتعايش في الدوائر الاميركية وانعكاساتها خارج الولايات المتحدة. وهو ما بيّنه ديمبسي بقوله إن مواقع التدريب المستقبلية المحتملة مثل قاعدة التقدم «ما هي إلا جزء من تخطيط حذر». وتابع قوله: «على مستوى التخطيط، الأمر ليس نظرياً بل عملياً جداً. فنحن ندرس المواقع الجغرافية وشبكات الطرق والمطارات والأماكن، التي يمكننا إقامة هذه القواعد فيها بالفعل». لكنه قال إنه لا يتوقع إقامة قاعدة أخرى في محافظة الأنبار قريباً. وأضاف: «لكن يمكنني أن أتصور واحدة ربما في المحور الممتد من بغداد إلى تكريت إلى كركوك وحتى الموصل. لذلك ندرس تلك المنطقة». فهل هناك أكثر وضوحاً من كل هذا؟! هذا ليس خيالاً او تصورات فردية، إنه سيناريو واحد، متكامل ومدروس ويقرأه ديمبسي علناً.
التصريحات الأخرى لمسؤولين عسكريين وخبراء البنتاغون، وإن تناقضت او تضاربت، تنتهي في الاخير او تصب في المخططات الموضوعة والمرسومة للمنطقة ومستقبلها. وهو ما تعمل عليه الادارة الاميركية وحلفاؤها والمتخادمون معها في المنطقة. رغم كل الظروف الاخرى والمعروفة عن التطورات الداخلية والتحولات الخارجية في العالم.
كتبت صحيفة «نيويورك تايمز»، (10/6/2015) إن الخطة تمثل منعطفاً جديداً بعيداً من الخطط التي تم إعلانها هذا العام لاستعادة مدينة الموصل، مشيرة إلى أن سقوط الرمادي في أيدي عناصر «داعش» جعل الإدارة الأميركية تحسم النقاش على الأقل في الوقت الراهن. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أميركيين أنه من المتوقع أن تصبح الأنبار حالياً هي مركز الاهتمام في حملة طويلة المدى تهدف إلى استعادة الموصل في مرحلة متقدمة ربما لا تكون قبل عام 2016. وهذه الاقوال تثبت ما في النوايا والخطط والمشاريع التي تفكر بها الادارة الاميركية وحلفاؤها. وهي في كل الاحوال محاولات جديدة لإعادة الاحتلال والاختلال في العراق والمنطقة، بالتأكيد تثير الكثير من الاسئلة والقلق والحذر منها ومما يحصل على الارض الآن تحت أية تسمية له، حتى من بينها «داعش» او تسميات أخرى تناقش في رحلات الحج الى واشنطن او على شاشات وفي برامج وسائل الاعلام الحربي لـ«داعش» وإخوانه. لكن ما هو دور القوى الوطنية في العراق والمنطقة؟ هذا هو السؤال الحقيقي الأهم.
المخزون الثقافي من دروس التحرر الوطني، في العراق وغيره، ما زال حيّاً في الأذهان وصفحات التاريخ. وما حدث في ما بعد الاحتلال، عام 2003، تأكيد ملموس لما قبل الانسحاب العسكري واضطرار كل قوات الاحتلال، في وسط وجنوب وغرب العراق، إلى اختيار الهزيمة.
* كاتب عراقي