لم تسهم أي حضارة في نماء الفن الإسلامي بمثل ما أسهمته الحضارة الفارسية. حتى أواخر عهد الأمويين، ظلّ الفن الإسلامي يعتمد إلى حد كبير على النبات في تزيين أفاريز النقش الحروفي. تماشياً مع الميراث البيزنطي والقبطي، آثر الأمويون تزيين المزخرفات بالنبات وجانبوا تصوير الأحياء إلى حد كبير.
بطغيان الخطاب الفقهي على ما سواه، حرم الأمويون رسم الأحياء باعتبار ذلك نوعاً من أنواع التماثل مع الخاصية الإلهية؛ لله وحده دون غيره بحسب الأمويين، حق تصوير الإنسان وكل ما تدب به الحياة. لم تعرف المساجد آنذاك ولا مزخرفات النقش أيّ حضور للجسد وللحياة حتى نهاية فترة النظام الأموي. مع العباسيين، وبعيد فترة المأمون، عرف الفن الإسلامي نقلته الأولى، والتي تمثلت بإدخال ماء الذهب والفضة إلى المزخرفات. وبالرغم من الانتكاسة التي أصابت المدرسة الفنية الإسلامية بمجيء المعتصم بالله، فقد عرف الفن الإسلامي مذّاك دخول العناصر الحياتية فيه. لقد أغنت الحركة الفنية الفارسية والمتأثرة بالتجربة الساسانية عموم الفن الإسلامي، بإدخالها الجسد كأحد معطيات الفن الإسلامي الواقعي. من خلال تصاوير الكتب ودواوين الشعر، أعاد الإيرانيون إتاحة الواقع كجزء من النسق الفني العام، مع الحفاظ على المسافة الفاصلة بين الواقعي واللاواقعي. بالمختصر، كان في تبيئة الفن الفارسي في الثقافة الإسلامية أثره الكبير في إعادة موضعة الجسد ـــ الواقع في الفن الإسلامي.
الواقع الذي ظهر جلياً في الفنون، كان له في الفلسفة حيزه هو الآخر. أواخر القرن السادس عشر الهجري، ظهر في إيران فيلسوف، سيعود له الفضل في تأسيس حقبة جديدة من الفلسفة الإسلامية. كان محمد بن ابراهيم القوامي، والمعروف بصدر المتألهين قد أحدث نقلة نوعية في الفلسفة الإسلامية من خلال تبنّيه لأصالة الوجود كنظرية فلسفية على حساب أصالة الماهية. ما اعتُبر، آنذاك، خروجاً عن النسق الفلسفي الإسلامي لإجماع فلاسفة الإشراق المسلمين حتى أواخر تلك المرحلة.
واقع الأمر، جاءت نظرية أصالة الوجود كتجلّ آخر للواقعية في الثقافة الإيرانية. لقد أنهت تلك النظرية حقبة امتدت لقرون طوال من اغتراب فلاسفة الإشراق عن واقعهم. بإعطائه الوجود كينونته وحقيقته، حل صدر المتألهين إشكالية اغتراب المتصوف عن واقعه، كما وإشكالية القيمة الواقعية للزمن، والذي بات مذّاك محل احتياج النفس كيما تتعرف إلى ذاتها وحقيقتها في سيرها وسلوكها إلى الله.
في القرن الأخير، عرفت الواقعية التي امتازت بها الفلسفة الإسلامية في إيران سبيلها إلى الشأن العام من خلال محطات سياسية ثلاث؛ مع الشيخ الخرساني في ثورة التنباك ضد البريطانيين عام 1891. ثم في حركة مشروطة مع الشيخ النائيني عام 1906، ومن بعدها في ثورة عام 1953 مع السيد نواب صفوي. لقد مثّل كل من هؤلاء أنموذجاً حياً للمزاوجة بين الانهماك بالشأن الداخلي والانشغال بالهم الإسلامي العام. كذلك عبّر حراكهم بشكل أو بآخر عن لحظة تكثيفية من زواج الحرية والتحرر في شخصية إيران المعاصرة. لقد هيأت شخصية إيران المعاصرة الأرضية اللازمة للقيادة لبناء أنموذجها الخاص من الاستجابة لمسألة من النهوض، كما وللإجابة عن السؤال النهضوي الذي ما فتئ يعود منذ نهاية القرن التاسع عشر مع السيد جمال الدين الأفغاني، في أي سبيل سنمضي؟
بمثل ما قام به صدر المتألهين من تحول في الفلسفة، قام الإمام الخميني بإحداث ثورة في الأدب العرفاني الشيعي. فحتى منتصف القرن العشرين، دأب عرفاء الشيعة على اعتبار الحقيقة منزهة عن الواقع ودقائقه، كما وعلى اعتبار الجماعة الشيعية جماعة روحية تسلك درب الإمام، من خلال التخلي عن كل تسوية مع القيَم والأنساق القائمة في هذا العالم. في كتابه عن الإسلام في إيران، يعرض المستشرق الفرنسي هنري كربان لمائز التشيّع الأسمى؛ الاحتجاب. ذاك الذي يقتضي الهجران كيما يتحرر الإنسان من أسر هذا العالم الذي يحول بين المرء وتجربته الدينية المباشرة. برأيه، تشكل الجماعة الشيعية «الروحية» إحدى مراتب عالم المثال في هذا الوجود. ذاك ما دفع المدرسة الشيخية الشيعية بحسب كربان إلى إقحام الجماعة الشيعية كمبحث مستقل من بعد مبحث التوحيد والنبوة والإمامة. واقع الأمر، لقد أرخى الأدب العرفاني الشيعي التقليدي بثقله على ديناميات الجماعة الشيعية في تعاطيها مع نفسها والعالم الآخر، حتى باتت معركة التشيع داخلية ومن ضمن الحقل الإسلامي نفسه. فالروحانيون وأهل الحقيقة من الشيعة يواجهون فقهاء الشيعة باعتبارهم من أهل الظاهر، بمثل ما يواجهون أهل السنة باعتبارهم جماعة ضالة، ومعهم أهل التصوف الناسين لأصول طريقتهم الإمامية. لقد مارس العرفان الشيعي طاقته التوحيدية حتى منتصف القرن الماضي في مواجهة المكونات الداخلية للأمة، وهو ما رفضه الإمام الخميني (قده).
آمن الإمام الخميني بأن للتشيع وظيفة مضافة إلى تلك التي أنيطت بالمسلمين في مواجهة العالم الحديث. إنها وظيفة الجماعة الإيمانية القادرة على سبر غور المصير الروحي والغيبي للإنسان أجمع. إن حمل التشيّع للحقيقة الروحية لرسالة الإسلام أمام العالم، ستمنع المؤمنين من الشيعة من عقد أي تسويات مع رغبات هذا العالم ومشاريعه الباطلة. لقد آمن الإمام بأن على الشيعة إضفاء منطقهم التأويلي المضاف في مجمل الواقع الإنساني. وإذا ما كان التأويل الشيعي التقليدي قد تمركز حول الإمامة في تعاطيه مع الرسالة، فإن الإمام أعاد للقرآن محوريته في فهم الشيعة للإمامة نفسها. هكذا باتت الشهادة على العالم المصداق الأول للإيمان بالتوحيد والنبوة وبالإمامة. والشهادة تلك وإن حملت خزيناً غيبياً متعالياً، فهي لا تنفي الواقع ولا تتجاوزه. هي في حضرة النبي أو الإمام تكون مُناطة به، وبغيبة النبي والإمام تصير مُناطة بالمؤمنين الحاملين لرسالة الإسلام. لذا لم يكن غريباً أن يبتدئ الإمام رسالته السياسية بحديث الثقلين. فالثقلان (كتاب الله وعترة رسوله) قوام شهادة أهل الإيمان؛ أولئك المؤمنين بالعترة بما هي قرآن ناطق، وبحصافة الرسالة وقوامية أهل التقوى والإيمان في استنطاق القرآن إذا ما غابت العترة عن أهل الأرض.

لقد أغنت الحركة
الفنية الفارسية والمتأثرة بالتجربة الساسانية عموم الفن الإسلامي

لقد أعطى الإمام فور انتصار الثورة للسياسة والدولة معنى مختلفاً بتحديده هدَفي الحكومة الإسلامية؛ إعمار البلاد وإكمال العباد. بمعنى آخر، لقد آل الإمام الخميني بالنظام مهمة تحقيق النهوض بالبلاد من جهة، وتأصيل قيم الإسلام وغاياته في النفس الإنسانية من جهة أخرى. ذاك مائز الثورة القيمي الذي يحول دائماً وأبداً عن أن تكون إيران مجرد دولة أمة «nation state». إن مهمة النظام السياسي بحسب الإمام تتطابق إلى حد كبير ومهمة النبوة لناحية القيام بدور الهادي الذي يُعيد الإنسان إلى ذلك الميثاق الأزلي، المعقود قبل ولادته في عالم الأمر، عندما شهدت الخلائق على وحدانية الخالق بقوله تعالى: ألست بخالقكم! قالوا بلى.
ستُجاوز هذه الثنائية بين حدي الإعمار ـــ بما هو متصل بعالم الواقع ـــ، والإكمال ـــ بما هو متصل بعالم الأمر ـــ المعنى الفقهي من التشريع لتأخذ التشريعات الصادرة عن النظام الإسلامي بعداً معنوياً آخر. إنه البعد الذي يراكب بين حد الشريعة وقوام الحقيقة. هكذا سيصير للتشريع معنى آخر يتجاوز كونه صحيحاً شرعاً أو سليماً عقلاً؛ أنه السبيل لحفظ الحقيقة الأتم والمتمثلة عند الشيعة بشخص الإمام الغائب بيننا. وهكذا سيصير لكل إثم أو ظلم، أيما ظلم في هذه الأرض، معنى آخر يتجاوز كونه مرفوضاً شرعاً أو غير صحيح عقلاً، أنه الأذى الذي يقع في قلب صاحب التجلي الإلهي الأتم في العالم. من هنا، لم يكن غريباً حرص الإمام على إدراج مادة خاصة في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية يقضي بدعم كل مستضعفي الأرض بمواجهة كل مستكبري العالم، إيماناً منه بأن أيّما ظلم يقع في العالم، فإنما هو يقع في «عالم الأمر» كأذى في قلب صاحب الحضرة الأكمل؛ الإمام الحجة.
الإمام الخامنئي
تزامن تنصيب الإمام الخامنئي مرشداً للثورة مع جملة من الأحداث الدولية والإقليمية المرافقة؛ انتهاء الحرب الإيرانية العراقية، سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وتولي المجاهدين للحكومة الأفغانية بقيادة صبغت الله مجددي. أوجبت جملة الأحداث هذه نوعاً مختلفاً من التحديات ومنطقاً مغايراً من الاستجابة. لقد وعت الثورة بشخص إمامها الخامنئي طبيعة التحدي المختلف بعيد سقوط الاتحاد السوفياتي. إن سؤال السياسة في عالم ما بعد الحداثة لم يعد سؤالاً معرفياً أو فلسفياً بقدر ما صار سؤالاً سياسياً. حقيقة الأمر، لم يكن الخطر في سقوط الاتحاد السوفياتي ليُختصر بفلسفة النهايات التي شرع بها هنتنغتون ـــ على خطورتها ـــ فحسب، إن الخطر يكمن أولاً وقبل كل شيء، بضمور الخطاب الغربي لإرهاصات كان قد أسس لها هايديغر والخطاب ألما ـــ بعد حداثي نفسه. لقد حاولت الولايات المتحدة تقديم انتصارها على أنه انتصار للسياسة على الأيديولوجيا، أو لنقُل بحسب المنطق هايديغر نفسه؛ انتصار للسياسي بما هو آني ونفعي، على الفلسفي بما هو كلّي وثابت.
سترخي مثل هذه الرؤية بظلالها فوق واقع العلوم والفنون، كما وفي السياسة وخطابها. فهي في السياسة تقديم للمنفعة والوظيفة على أي خصوصية أو مرجعيّة. وفي الأكاديميا هي موت للمعنى وولادة للدلالة السائلة. في الفنون، هي أيضاً مواجهة مع كل متجاوز أو مُسبق. لقد أدخلت الولايات المتحدة العالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بنوع من الشيئية السائلة، منهية حقبة المرجعيات الثابتة إلى غير رجعة.
مع وصول الإمام الخامنئي إلى سدة قيادة الثورة وسقوط الاتحاد السوفياتي، أدرك سماحته أن ثمة حاجة لإعادة موضعة سياسات الثورة على أسس استعادة المعنى في عالم يعاني من هويات عدمية وسائلة. وإذا كان الغرب قد أعلى من خطاب الهوية والثقافة كجزء من نظامه المعرفي التفكيكي مع سقوط الاتحاد السوفياتي، فإن الثورة، منذ مطلع التسعينيات، ما عادت لترى في مسألة الهوية الجمعيّة الثقافية ـــ إسلامية كانت أو شيعية ـــ شرطة وحيدة وكافية لتحدد من خلالها سياسات الثورة وما تصبو إليه. إن الإسلام الذي يتطلع إليه الإمام الخامنئي لن يكون في يوم من الأيام إسلام الجماعة المتخوّفة على وجودها، أو الباحثة حتى عن مكانتها كجماعة بين الآخرين كيما تضمن مصالحها فحسب. إنه الإسلام الذي يتطلع إلى المتجاوز الزمني، والمفارق الروحي، الذي وإن لم يُغفل الواقع ومصالحه، إلا أنه لن يقع في يوم من الأيام في الانئسار لحيّز تاريخي مغلق، كما هي الحال مع جماعات العودة إلى الخلافة، أو التعصب لأي حيز جهوي مقفل، كما هي الحال مع غالب جماعات الإسلام السياسي التقليدي.
يشكل خطاب السيد الخامنئي في إسلامية المعرفة، كما ونقده للعلوم والمعارف الغربية، الوجه الآخر لخطابه في سياسة الدولة والثورة. بمعنى آخر، إن أسلمة المعرفة والعلوم تشكل في حقيقتها تبياناً خفياً للجنبة المقاصدية، والفلسفية لنظام الحكم الإسلامي. يريد الإمام الخامنئي القول إن ثمة إمكانية لوعي مختلف بهذا العالم. وإذا ما كانت العلوم قد تمأسست على أيدي دعاة الذاتية والفردانية من التنويريين في القرن الثامن عشر، فإن دعوة أسلمة المعرفة اليوم ينبغي أن تنطلق من مسوغات الرحمانية الإسلامية، التي لا تقوم على الغيرية، ولا على التعاقدية القطعية مع الآخر.
بالمعطى السياسي، يشكل نقد العلوم الإنسانية في جوهره نقداً للأواليات التي انبنى عليها مفهوم الدولة بالمعنى الغربي. لا تقوم الدولة الإسلامية بحسب الإمام الخامنئي على أسس التعاقد الاجتماعي، وأواليات التفسير المادي فحسب. للدولة صبغتها الرحمانية التي تتوسط ما بين الواقع وغاياته الكبرى. وإذا ما كان النظام الاجتماعي الديني قد بني على أساس ولاية الفقيه، بما هي مفهوم عام في التاريخ الإسلامي، فإن مهمة الدولة اليوم رفع وعي المجتمع الإسلامي للانتقال من فقاهة الولي إلى أمة الفقاهة.

آمن الخميني بأنّ للتشيع وظيفة مضافة إلى تلك التي أنيطت بالمسلمين

لقد أدرك سماحة الإمام الخامنئي بتصديه لقيادة الثورة، أن ثمة جملة من التحديات الداخلية والخارجية قد باتت تحيق بالثورة. ولأن العالم يعيش نوعاً من التجاوز المسبق لكل خاصية أو هوية، فإنه لم يعد بالإمكان فصل الداخل عن الخارج بأي نحو من الأنحاء. الأمر عينه كان قد تبدى إليه بالنسبة إلى جدلية الإمرة والطاعة؛ إن العالم لم يعد مؤهلاً لاقتياده وفق منطق الطاعة السلطوية أو الإرشادية بالمنطق الاعتيادي. لقد أرسى السيد الخامنئي، منذ اللحظة الأولى، قاعدتين اثنتين في سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الداخلية كما والخارجية، كان يدأب من خلالهما على تجاوز إشكالية الحداثة السائلة. تمثلت الأولى بحفاظه على خصوصية وهوية الدولة بما هي ثابت كلّي. فيما تمثلت الأخرى في سعيه إلى إغناء تجربة الحكم بنمط مغاير من المشاركة السياسية. مشاركة لا تقع في شرك النمط السلطاني الحكم؛ ذاك الذي وسم الفكر السياسي الإسلامي لقرون طوال، وهي أيضاً مشاركة تسعى إلى تجنب الانسياق خلف الديموقراطية المشيِّئة؛ بما هي وجه آخر من اقتصادات السوق العابر للحدود.
بحفاظه على مساحة الفراغ التي شخصها في السياسة والواقع الدوليين، حاول الإمام الخامنئي الحفاظ على الدولة والثورة في آن. إن الدولة التي يسعى الإمام الخامنئي إلى بنائها في إيران، لا يمكن فهمها إلا من خلال نظريّة المعنى. ففي عالم يُنتزع فيه الغيب ويُفتقد فيه المعنى، جاءت الثورة الإسلامية بشخص إمامها الخامنئي لتقدم الدليل والبرهان، بأن ثمة متسعاً لا يزال ممكناً لنظم الإنسان في واقعه وفق رؤية كونية ناظمة. والرؤية الكونية تلك، ليست نظاماً معرفياً مقفلاً يقوم على فلسفة كليّة ثابتة بالنحو على ما طرحه الألمان أواخر القرن التاسع عشر. إنها ثقافة الإنسان الدائب نحو استرداد نفسه بما هو كائن مفارق ومتجاوز في آن. إنها السؤال الغائب في مراح الحداثة اليوم؛ لماذا؟ إنها الذاتية التي توجب التفكر في الواقع بشكل مفارق، إنها الانهماك في فهم المآلات بشكل مسؤول.
سرُّنا
يشكل الأدب العرفاني الشيعي أحد أهم منافذ فهم التشيّع التاريخي والروحي في آن معاً. في شرحه مبادئ التأويل وقواعده في الفلسفة الشيعية، يتوقف حيدر الآملي عند نص يُعتبر على قدر من الأهمية بالنسبة إلى التشيّع الروحي بشكل عام. النص، وهو محادثة بين الإمام علي بن أبي طالب وصاحبه كميل بن زياد. يبتدئ مع سؤال كميل لعلي (ع): «ما الحقيقة؟ فيجيبه علي متمنعاً: ما لك والحقيقة؟ يقول كميل: أولست صاحب سرّك؟ قال: بلى، ولكن يرشح عليك ما يطفح منّي. فقال كميل: أومثلك يخيّب سائلاً؟ يتمهل الإمام علي ثم يجيب قائلاً: الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة. قال كُميل: زدني فيه بياناً. قال علي: محو الموهوم مع صحة المعلوم. قال كميل: زدني فيه بياناً. فقال علي مجدداً: هتك السَّتر لغلبة السر، قال كميل زدني فيه بياناً. فقال الإمام: نور يشرق من صبح الأزل فيلوح على هياكل التوحيد آثاره. قال كميل: زدني فيه بياناً. فردّ الإمام: أطفئ السراج، فقد طلع الصُّبح، وبعد ذلك سكت الإمام». اللافت في شرح حيدر الآملي ابتداءه من محل ما انتهى إليه النص. بالنسبة إليه، إن الإشارة الأسمى في النص الآنف الذكر تكمن في طلب الإمام علي إطفاء سراج ـــ العقل البرهاني ـــ، والصمت بعدما وصل معه إلى جادة طريق القلب، فبات كميل قادراً على الرؤيا بعين وَجدِه مباشرة.
بعيداً عن النص قريباً من المعنى، قد يحمل عقلنا البرهاني الكثير من جدل السؤال حول حقائق التجربة الإسلامية في إيران على مستوى المعنى وفي حقل الثقافة. كذلك قد يحمل الكثيرون على إيران بما هي تجربة قد تُخطئ وقد تصيب في أيما لحظة. لكن امتثالاً من نور هدي فلسطين كفيل بإعادة بوصلة الضوء. صبيحة افتتاح مؤتمر دعم الانتفاضة الفلسطينية أواخر شباط الماضي، حذّر مرشد الثورة قوى المقاومة من مؤامرة تتمثل في مساعي المتلبّسين بثياب الأصدقاء، قد ترمي إلى حرف مسار المقاومة وانتفاضة الشعب الفلسطيني عن جادة المقاومة، قال الإمام آنذاك إن مثل هذه القوى تعمل على حرف الشعب الفلسطيني لتستفید من ذلك في صفقات سرية مع أعداء فلسطين أنفسهم. في ذاك الخطاب، راهن الإمام الخامنئي على المقاومة التي ستأبى الوقوع في مثل هذا الفخ، منبّهاً أنه إذا ما ألقت جماعة ما راية المقاومة أرضاً، فمن المتيقن أن جماعة أخرى ستظهر من صمیم الشعب لترفع راية المقاومة. قد لا تكون سِوار المعطيات في المنطقة وتفاصيلها بيدنا، لكن خطاباً من مثل خطاب السيد الخامنئي في افتتاح مؤتمر دعم الانتفاضة، يبدو بعيد أقل من ثلاثة أشهر كافياً للتأكد من دأب الثورة على إيصال أصحابها إلى جادة طريق القلب في الرؤيا، بإمكاننا أن نتطلع اليوم إلى فلسطين لنستبصر، فكميل اليوم قادر على الرؤيا بعين وجده مباشرة.
* باحث لبناني