عندما تزور الجنوب تشعر بالسعادة بأن أرضاً كانت محتلة تحررت... فكيف إذا كنت قد انتقلت لتقطن فيه؟! ثراه ينعم بالهدوء ويلفّه الأمان. من الحدود مع فلسطين المحتلة الى صيدا إلى لبنان الوطن كله، تفكّر أن وجود الشر كله قد اجتثّ من معظم الاراضي اللبنانية.
وتشكل اقتناعاً بأننا ما زلنا بحاجة إلى المقاومة التي كانت السبب في انتفاء الخوف، وهي السبب في جلب كل الحرية إلى التراب والثقافة والحركة... إنها حرية في الزمان والمكان، حيث كانت شبه محدودة في زمن الاحتلال.
عندما تعاين الناس ترى البسمة في وجوههم، بعد أن زالت دول: سعد حداد وأنطوان لحد ومعهما سيّدهما الصهيوني. لقد تمّ كنس العملاء ومشغليهم... وزقزقت العصافير فرحة بلا خوف ولا وجل. وعاد الفلاحون إلى أرضهم يزرعون إلى جانب فلسطين المحتلة. كان الناس في الجنوب قبل عام 2000 يخافون أن يقتربوا من الحدود. فأصبح الخوف معكوساً: الصهاينة اليوم يخافون ولا يخيفون.
ببساطة، ترى وتدرك اليوم في الجنوب معنى أن يكون الانسان مقاوماً وترى رموز المعنى في الخطاب، وترى على الوجوه وفيها معنى الوجود المقاوم. العزة في المقاومة، والذل في أن تكون محتلاً مكبوتاً وحركتك مقيّدة بفعل المحتل.
الشهداء اليوم كنز التحرير، وفي مقدمتهم قائد فذّ تاريخي استطاع أن يقضم العقل الوجودي للكيان الصهيوني ويضعه في حضن المقاومة، كما ينقله إلى عقل الشعب والبيئة المقاومة، كأنه عاش خالداً ورفاقه، وخلّد مقاومة أمانيها لا تفنى وعناصرها لا تذوي ومقولاتها سيدة الوجود.
إذا أنت توجهت نحو الجنوب فاعلم أن درساً جوهرياً في التاريخ كتبته المقاومة لهذه المنطقة ولكل الأجيال القادمة، أيضاً ستعلم الفرق بين أن تستسلم للعدو الصهيوني وأن تقاومه.
ساعتذاك ستعلم كيف ولماذا تفتخر الشعوب بمقاومتها للاحتلال. أما القلوب الحالكة، فيصعب عليها رؤية النور والانتصار لشعب آخر، فتكمن له على كل مفترق لتنتزع منه حريته. ولأنها نقيض الحرية والتحرير لأنها محتلة العقول والقلوب، تلوذ بالشيطان المحتل والمستعمر.

المقاومة ما بعد 2000: الحضارة والحرية

واضح أن التعامل مع المقاومة في لبنان يتم بعينين أو بعيون آنية، كقوة فئوية أو تابعة لمحور إقليمي.. إلخ. لا! المقاومة ومقولاتها القيمية والاخلاقية والسياسية هي بديل لفعل الاستسلام الطاغي في حكام المنطقة. المقاومة قدر وخيار في مواجهة التحديات المذهبية والطائفية والاستعمارية والارهاب بشتى أصنافه الصهيوني والتكفيري.
المقاومة نقيض كل الفكر والفعل السالب للوجود الحقيقي في لبنان والمنطقة. إنها مدماك حضارة لأي شعب يسعى إلى الحرية والعدالة الاجتماعية ونظام سياسي وسلوكي اجتماعي وحضوري. وكما أن ثقافة المقاومة هي الأساس المشترك الذي يمكن أن يتشارك فيه شعب متعدد الطوائف والمذاهب والرؤى السياسية الوطنية والقومية، كذلك فإن الاختلاف حول هذا الموضوع يؤسّس لخلافات ظاهرة تفسد البحث عن العلاقات البينية لدى الجميع. لذا كل شعوب الأرض تفتخر بمقاومتها ضد الاحتلال... فالانتماء إلى الوطن ــ لبنان ــ هو بنحو ما يجب أن يكون منطلقاً من الانتماء إلى أسس المقاومة وثقافتها... قليلاً من الذكاء يخفف البلاء.
يقول المفكر والمشترع الفرنسي ديدرو (أحد منظّري الثورة الفرنسية) «إن التحرر، أو ما هو ذاته، وإن كان باسم مختلف (هو) الحضارة. وهو يتطلب جهداً طويلاً وشاقاً». ويقول السيد حسن نصرالله (الأمين العام لحزب الله وقائد المقاومة «بالأمس كانت المعادلة أنا أفكر إذن أنا موجود (مقولة الفيلسوف الفرنسي ديكارت في القرن السادس عشر)، واليوم أصبحت المعادلة أنا أقاوم إذن أنا موجود». والتحرر والحرية والفكر الحر والوجود = المقاومة.
فالمقاومة هي فعل حرّ لتقويم الأخطاء والانحرافات عن جادة الحق والعدالة، وهو ينتج من إرادة واعية نحو غاية خيرة عادلة من أجل الحضور في العالم. وهذا نقيض الظلم والاستعباد والطغيان والجهل والاستعمار والاحتلال، وما يرادف ذلك من استعباد وقهر.
والحضارة هي حضور الانسان في الطبيعة الكونية المادية وفي المجتمع الانساني العالمي، شرفها ثقافة مجتمعية معمقة بأبعادها المرسخة لقيم العزة والكرامة والحضور. ولا حضور إذا لم يكن متكاملاً، من حيث الحضور النفسي والجسدي والإرادي العاقل. وهذا ما يستبعد «القابلية للاستعمار» (تحدث عن ذلك المفكر المغربي مالك بن نبي). وقد استلهم أرنولد توينبي المؤرخ البريطاني نظريته في التاريخ حول الحضارات من المدرسة السلوكية في علم النفس. وهل التحديات التي تواجهها المقاومة سوى التحديات الحضارية والثقافية، والتي تواجه كل شعوب المنطقة. هل ما نحتاج إليه أكثر من هذه المميزات حتى تكون لنا استجابات سوى المقاومة!!

تعرف الشعوب بحضارتها وثقافتها

الحضارة تعتبر تتويجاً لإنجازات الثقافة. وبحسب الفيلسوف الألماني هيغل فإنها تعني «القضية ونقيض القضية»، أو هي روح الثقافة، كما كانت الرأسمالية كنتاج لروح البروتستانتية بحسب ماكس فيبر، وهي تدرج في الوجود تحمله ثقافة مقاومة لشعب من الشعوب حتى يصبح جزءاً أو أكثر من الحضور الانساني العالمي في الوجود الأعم – (الكوني). والحضارة هي سياق ورؤية للإنسان في علاقته بالطبيعة واستثماره فيها ولها، والثقافة حامل موضوعي لها ومرتكز من مرتكزاتها وتطورها وثباتها في التاريخ. وإن كان تَشَكُّل الثقافة – وعي العقل – يسبق أي إنجاز حضاري... ويتفاعلان في مراحل لاحقة.
والمقاومة هي تحرير للنفوس (تفعيل الوعي الفطري والمكتسب) من قابليات الاستعمار والاحتلال والانحناء، وهذا ما أراده العدو الصهيوني من طرح مسألة «كيّ الوعي»، ما يعني الاستسلام التام لإرادة العدو المستعمر والمحتل والمذلّ.
والمقاومة نقيض ذلك كله. والمقاومة إضافة الى ذلك تسعى لإيقاظ المجتمع المصاب بداء الاحتلال والاستعمار ودفعه إلى الوعي بذلك وتبيان مخاطره...
والوقوف صفاً واحداً لمحاربته بكل الأساليب (وليس الحرب الديبلوماسية فقط!).
وقد تبين ذلك حتى الآن على أنها أكبر وأفعل من معركة تحرير مساحة جغرافية، وإن كان الأمران يكمل أحدهما الآخر. لا بل إن تحرير الأرض والانسان يعتبر مقدمات منطقية (صورية وعملية) لفعل الثقافة والحضارة لأي أمة/ شعب في هذا العالم (خذ كل الثورات: الصينية، الفرنسية، السوفياتية، والإيرانية والجزائرية) على اختلاف المنطلقات/ النتائج ومستويات النجاح.

الحضارة هي وجود الفاعل في التاريخ

الحضارة هي وجود الفاعل في التاريخ ودرس من دروسه، كذلك فإنها في سياساتها ومؤشراتها وقيمها صورة من الوجود المستقبلي. إن الذي كان هو الجينات الموروثة لشكل الانسان في حاضره والتنبّؤ بمستقبله. فالمستقبل ليس قطيعة مع الماضي الثقافي والحضاري. المستقبل يأخذ من الماضي ما نفتخر به ويصنعه ويصوره والعكس صحيح أيضاً. وإن كان المستقبل هو مصفاة الماضي.
لذا فإن هذه المقاومة تخوض حرباً حضارية من الطراز الرفيع والراقي وربما تكون هذه المقاومة ــ تحديداً المقاومة الاسلامية بقيادتها الحالية ــ غير مسبوقة (الشعارات والسلوك) في هذا التاريخ المعاصر. إنها حرب وجود وعلى كل الحدود الجغرافية والسياسية والثقافية. وبذلك تكون هذه المقاومة هي النهضة أو الصحوة بأبهى تجلياتها. إنها مقاومة ضد الاحتلال والتخلف والهيمنة وليست حرب مرحلة أو مقطع تاريخي. واعتقادي أن لا أحد عاقلاً في هذه المنطقة والعالم عليه أن يقبل بالاحتلال والتخلف والهيمنة الخارجية.
لهذا، يجب أن لا ينظر أحد من اللبنانيين أو العرب أو أحرار العالم إلى هذه المقاومة بعين الريبة، بل نظرة الحرص والاحتضان والدعم. إن الوطن العربي من دون هذه المقاومة هو وطن عرضة للاحتلال والارهاب والاستلاب الثقافي والحضاري، وهو مستودع ثري عرضة للنهب والسرقة. ذلك لأن هذه المقاومة تحاكي المطالب المحقّة لجميع الطوائف والمذاهب والاقليات وقضاياها هي بالذات ما حدثنا عنه من مطالب ثورات محقّة وتم تدبيرها بفعل خارجي أو داخلي. نعم!

* أستاذ جامعي