جمعت الرياض بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية، دول الخليج ودولاً عربية وإسلامية (لبنان كان من ضمنها)، وترافق مع "القمم" توزيع أدوار وخطاب سياسي واضح المعالم يحيّد العدو الرئيسي (العدو الصهيوني) ويستبدله بإيران وحزب الله وحماس. وما يجري في سوريا بالتحديد من اشتباك عسكري، هو تنفيذ عمليّ لذلك "المشروع" الذي ستحدد نتائجه مستقبل المنطقة.
إن تفاقم الأوضاع بهذا الشكل يضع أمامنا أسئلة بحاجة، ليس إلى أجوبة فقط، بقدر ما هي بحاجة إلى سلوك وفعل وممارسة. إن ساحتنا الوطنية لن تكون بمنأى عن ارتدادات ما يجري من حولنا، بل ستكون، برأينا، إحدى ساحات تلك المواجهة، نظراً إلى وجود «مقاومة» ووجود اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين، فضلاً عن النظام السياسي الطائفي المرتهن بأكثرية قواه للراعي الخارجي، ما يعني تأثره بالاستقطاب الحالي المستجد. وما الموقف الملتبس من البيان الذي صدر عن الاجتماع، دون علم الوفد اللبناني كما قالوا، إلّا أحد تجليات هذا الأمر. بناءً عليه، يجب علينا كقوى يسارية علمانية ديمقراطية أن نحدد موقفنا وموقعنا مما يجري، مع التأكيد على ضرورة الانحياز إلى جانب مصالح شعوبنا وتطلعاتها، مرتكزين إلى مشروع سياسي تغييري وديمقراطي ومقاوم ومستقل، واضح المعالم بطرحه وبقواه، وعلى الصعيدين العربي والمحلي:
أولاً، على الصعيد العربي: إنّ ما يجري في المنطقة هو تصاعد في الهجمة الأميركية بهدف تفتيتها وترتيبها بشكل يتماشى مع مشروعها، وإن خطورته تكاد تعادل ما جرى عام 1948 عند قيام الكيان الصهيوني المحتل، والذي جعل القوى الوطنية العربية آنذاك، تنخرط في ذلك الصراع تحت أُطر القوى الرسمية العربية (جيوش وأنظمة)، أو مع أطر كانت تشكل خليطاً من «قوى وأصحاب مصالح وبرجوازيات محلية»، ما جعل ضياع قضية فلسطين وقيام الكيان الإسرائيلي، مسألة ارتبطت باتفاقات دولية وتواطؤ أنظمة وربما غفلة من الشعوب، ما أدى إلى حركة انقلابات عسكرية وسياسة أحلاف إقليمية ودولية لا تزال مفاعيلها ونتائجها ماثلة أمامنا حتى يومنا هذا.
إن مهمة التدخل الغربي في المنطقة أصبحت اليوم أكثر وضوحاً بوجوده ونفوذه المباشرين، بحيث يعيد ترتيب أولوياتها، بما يعني ذلك من تبديل في أدوار بعض الأنظمة السياسية المعروفة بتبعيتها ودورها الوظيفي في خدمة مشروعه (القيادة للسعودية وإسرائيل، بدل مصر- الإخوان وتركيا)، وهو يقاتل بالمباشر، من خلال قواته المنتشرة، وبسلاحه الموزّع على الأطراف كافة، وبمرتزقة تمّ استقدامهم من مختلف دول العالم (داعش والقاعدة ومن يشبههما). إن شعوب المنطقة ودولها مهددة اليوم بخطر التقسيم والتفتيت، وما يجري في سوريا والعراق من ترسيم بالنار لحدود المواجهة، ليس إلّا مؤشراً على ذلك المشروع الذي يُعمل عليه بهدف تفتيت الدولتين، وأيضاً قطع التواصل الجغرافي بين دول «طريق الحرير» (من الصين حتى البحر المتوسط)، وما التطورات البالغة الدلالة في مصر، من استهداف للأقباط، بما يحمله من تسعير للتوتير الطائفي، ومشروع سد النهضة وبتمويل عربي، وما يشكله من خطر على الأمن القومي المصري، والكلام عن ضمانة أمن الممرات المائية، تحديداً قناة السويس، لا يمكن قراءتها إلّا من باب الضغط على مصر لكي تصبح جزءاً ممّا يُحضّر للمنطقة، وأيضاً، دول الخليج وممالكها لن تكون بمنأى عن مفاعيل ذلك المشروع التفتيتي. كل هذا يعني أن عقوداً إضافية من أشكال الحروب والتوترات ستعيشها منطقتنا.
من هنا تصبح عملية بناء الدولة الوطنية القادرة على خوض معارك التغيير والتنمية والحداثة، ومهام المواجهة انتصاراً لقضاياها الوطنية والقومية، وعملية بناء آليات ديمقراطية تسمح لشعوبها ببناء نظمها السياسية، وفق موازين ومصالح قوى داخلية، مرتكزة إلى مشاريع وقوى سياسية أيضاً، أصبحت الآن بعيدة المنال وصعبة التحقيق، وهي ستتلاشى في ظلّ هذا الواقع. وعليه، سيكون مصير الشعوب، في منطقة تمتد من المغرب إلى باكستان، في مهب عملية تقسيم لدولها ونهب منظمة لخيراتها ومواردها على حساب اقتصادها وتنمية بلدانها، تساهم فيها نظم تابعة، وحروب لا تنتهي، لا يستفيد منها إلّا الكيان الإسرائيلي المحتل؛ وما مئات مليارات الدولارات التي جناها ترامب أخيراً إلّا نموذجاً صارخاً على ذلك. أمام هذا الواقع، ما الذي يجب أن يكون عليه دور القوى الحريصة؛ قوى التغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال بديهية في الشكل؛ فموقع تلك القوى لا يمكن أن يكون إلّا في قلب المواجهة، لأن طبيعة المشروع العدوانية لا تواجه إلّا بنقيضها، وخيار المقاومة الشاملة، بما فيها المسلحة، هو الخيار الأفضل. ولكي لا نقع في فخ الشعارات على حساب الفعل، نقترح تطوير هذه الوجهة من خلال تجميع القوى الوطنية والعلمانية والديمقراطية واليسارية حول تلك المسألة، متخذين من قوى اليسار العربي والقوى الديمقراطية منبراً لتعزيز هذه الوجهة ولتفعيل آلياتها، لتصبح أكثر قدرة على المواجهة في الساحات كافة وبجميع الوسائل المتاحة، والكفاح المسلح سيكون واحداً من تلك الخيارات في بعض الأماكن: فحيث يكون هناك اشتباك عسكري مع العدوان الأميركي ـ الصهيوني ـ الإرهابي، على كل الوطنيين، وفي المقدمة منهم الشيوعيون، أن ينخرطوا ضمن أطرهم السياسية والشعبية في عملية المواجهة، ومن موقعهم الوطني العلماني اليساري المستقل، لإطلاق «مقاومة عربية شاملة» للدفاع عن بلدانهم وشعوبهم، ولتكن القضية الوطنية، المرتبطة بالتصدي للعدوان، هي الجامع الأساسي لمختلف تلك القوى، وفي أكثر من ساحة مواجهة (لبنان، فلسطين، سوريا والعراق...).
من هذا المنطلق، يجب أن يكون هذا الأمر موضع نقاش ومتابعة مع مجموعة القوى الحليفة والصديقة المعنية في الساحات الممكنة لوضعه موضع التنفيذ، والعمل أيضاً على بعض التقاطعات والتفاهمات والتنسيق مع قوى مقاوِمة أخرى، لأن ذلك سيكون مفيداً ومطلوباً، لكن دون ارتهان أو تبعية.
ثانياً، على الصعيد الداخلي: إن الرد على تمادي أطراف السلطة السياسية اللبنانية الحاكمة ونظامها السياسي الطائفي الفاسد والمتأصل فيها، في تسعيرها للخطاب المذهبي والطائفي، المؤدي حتماً، فيما لو استمر، إلى الفتنة الداخلية، من جهة، والتهديدات العسكرية المتصاعدة في المنطقة تنفيذاً لمخططات المشروع الأميركي ــ الصهيوني ــ الرجعي العربي، والتيّارات الإرهابية ــ الظلامية من جهة أخرى، لا يكون إلّا بالعمل على بناء دولة وطنية علمانية ديمقراطية مقاوِمة. هذا الخيار يستوجب ضرورة المواجهة الشاملة مع تلك المنظومة الحاكمة وبآليات مختلفة، مقترناً بموقف جذري من مسألة تغيير أسس النظام السياسي الحالي وذلك لاستحالة إصلاحه من ضمن آلياته، وتحرير القرار الوطني من التبعية، وتحصين الوحدة الداخلية، وتقوية مناعتها، وتأمين مقومات الصمود والمواجهة.
من هنا يصبح العمل على بلورة قطبية سياسية في هذا الاتجاه ضرورة موضوعية وحتمية هدفها الاتفاق على ضرورة إسقاط كل المشاريع والقوانين، الانتخابية وغيرها، الرجعية والتقسيمية التي تقوم على أساس «الفصل الطائفي والمذهبي»، والتي لا تسمح ببناء وطن ودولة، بل تمهد لإقامة ما يشبه «فدرالية طائفية»، والتي تلتقي، موضوعياً، مع ما يجري الإعداد له من مشاريع للمنطقة. من هذا المنطلق، ولأجل الدفاع عن سيادة البلد ووحدته الداخلية، هناك ضرورة للعمل على إنهاء الحالة الطائفية، وما يرافقها من تجييش مذهبي وشلل دستوري، ناتج من خرق مزمن للدستور وعدم تطبيقه بشكل صحيح أو باستنسابية - وبخاصة مواده الإصلاحية الواردة في اتفاق الطائف. كما أن إقرار قانون للانتخابات النيابية يعتمد النسبية على أساس لبنان دائرة واحدة وخارج القيد الطائفي، وتطبيق المادة 22 منه، يحدّ من تأثير الخطاب الطائفي والنفوذ المالي في العملية الانتخابية، ويؤمن أوسع تمثيل ممكن للقوى السياسية وبرامجها، وينتج برلماناً جديداً يعمل على إصدار القوانين الضرورية لتطوير النظام السياسي اللبناني ومراقبة تنفيذها ومحاسبة المعرقلين، والنهوض بالاقتصاد والمجتمع، بهدف بناء الدولة العادلة، وليس الوصول إلى المجلس النيابي بأي ثمن، إضافة إلى إسقاط كل مشاريع القوانين التي تسلب حقوق المواطنين في الحياة الكريمة، والانتصار لمطالب الفئات الأكثر تضرراً، بخاصة الموظفين والأجراء وذوي الدخل المحدود وفقراء لبنان.
إن عملية المواجهة هذه، تتطلب بدورها، تجميع المتضررين كافة من تلك السياسات؛ كل من موقعه وموقفه الذي يخدم عملية التغيير الديمقراطي الحقيقي في البلد، لأن مهمة الدفاع عن لبنان من الأخطار المتصاعدة تتطلب العمل على تأمين مقومات المواجهة، كما أن الدفاع عن السلم الأهلي، المعرّض، بنتيجة السلوك السلطوي، للانهيار، يستوجب تأمين مظلة أمان تحميه وتحصنه؛ من هنا تصبح عملية التجميع والمراكمة هذه، هدفاً ملحاً وضرورياً، يجب العمل على تحقيقه خلال الفترة القادمة. إن تنفيذ هذه المهمة مرتبط بنا كحزب وبقوتنا، وبقدر ما يكون الحزب قوياً تصبح مهمة استنهاض القوى لإحداث التغيير المطلوب ممكنة، من هنا يجب علينا العمل على تطوير النشاط الميداني للحزب عبر محاكاة تطلعات الناس والتعبير عنها، وطرح كل القضايا السياسية والاجتماعية والمطلبية لكل فئات الشعب اللبناني ومكوناته، ليس مركزياً فقط وإنما في مختلف القرى والبلدات والمناطق.
(افتتاحية مجلة «النداء»)
*عضو مكتب سياسي، مسؤول العلاقات السياسية
في الحزب الشيوعي اللبناني