ثمة إشكالية في استعمال مفهومي الدولة والسلطة لغرض واحد. ويعود ذلك في معظم الأحيان إلى أنَّ مجتمعاتنا لم تشهد تمايزاً بين المفهومين. فكانت السلطة على الدوام تشكِّل الوجه الآخر للدولة. مع ذلك فإنَّ عدم التمييز في سياق العمل البحثي، بين الدولة والسلطة، يتنافى مع أسس البحث المنهجي.
وينطبق ذلك على آليات اشتغال الأحزاب السياسية، أكان ذلك في سياق البحث النظري أو في الممارسة السياسية. طبعاً إذا تجاوزنا التعريف «اللينيني» للدولة بكونها أداة قمع طبقي «سلطة قمع طبقي»، فالدولة السورية لم تواجه بشكل فعلي وجاد الإشكاليات الوطنية الممثلة بالتنمية الاقتصادية والبشرية، الفقر البطالة والانفجار الديمغرافي و«تريّف» المدن وحاجة المجتمع إلى العلمانية. قابل ذلك اشتغال السلطة على فرض العقل الريفي وأعرافه المتخلفة على المجتمع المدني، وقمع أيّ ملمح ديمقراطي، واشتغالها على تجفيف المنابع السياسية الفكرية منها والممارساتية. ذلك في وقت طغت فيه العلاقات الشخصانية، والتراتبية الهرمية المستندة إلى جذر سلطوي على العلاقات المدنية والمواطنة. ومهَّدت الآليات المذكورة إضافة إلى طغيان الأيديولوجيا السلطوية، إلى ما نشهده من أوضاع إنسانية اجتماعية واقتصادية كارثية، ومن تحلّل وتفسّخ منظومات قيمية مجتمعية وثقافية.
من جانب آخر، يبدو ظاهرياً أنَّ الدولة السورية قوية ومتماسكة. وذلك يخالف بنيتها الداخلية القلقة، والموسومة بالتشظي السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ويتزامن ذلك في اللحظة الراهنة مع تفكّك جغرافي ومناطقي نتيجة تداعي قوى الدولة وتصدُّع مؤسساتها، وأيضاً سيطرة مجموعات وقوى خارجية إقليمية ودولية على أجزاء مهمة من الجغرافية السورية. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الدولة لا تتمتع بالشرعية الجماهيرية والعقدية والأخلاقية المطلوبة، فضلاً عن انكشافها عن التباس مفهومي بينها وبين السلطة. والأخيرة كانت على الدوام تكشف عن وجهها القهري والاستلابي في إطار علاقتها مع السوريين، ما جعلها تفتقد للتواصل الطبيعي مع مكونات الدولة السوسيولوجية. ويبدو أن زعماءها ما زالوا يعتقدون حتى اللحظة، أن بنية السلطة والدولة لم تتأثَّر بالأزمة التي تعصف بهما وبالمجتمع. علماً أنَّ عناصر السلطة وأدواتها وصلت إلى درجة عالية من التخلَّع، وكذلك مؤسسات الدولة ومكوناتها الاجتماعية.
وهي بوضعها الراهن، أي الدولة، تكشف عن كونها كياناً مركباً ومعقداً، تتداخل فيه عناصر الولاءات الأهلية بالولاءات الوطنية. ويتقاطع ذلك مع كونها دولة تسلطيّة، أبويّة، تابعة ومرتهنة. وجميعها أسباب تزيد من أزمتها المفهومية والبنيوية، وتُفاقم من تشظي الهوية، ومن تمزُّق وجدان الإنسان السوري الذي تتنازعه انتماءات شتى متناقضة. ويُشكِّل ارتكاس السوريين إلى هوياتهم الصغرى، وعجز السلطة من تمكين هوية وطنية جامعة، إضافة إلى ما نشهده من تناقض وصراع بين الهويات الصغرى، سياقاً عاماً لصراعات تُفاقم من تشظي السوريين وتناقضاتهم، ومن التصاقهم بهوياتهم الأولية. وجميعها أسباب تزيد من إشكالية مشاركتهم في التغيير الديمقراطي، ويفاقم من تلك الإشكاليات ومخاطرها، اشتغال السلطة على نزع السمة الوطنية عن محاولات التغيير السياسي. ويعود ذلك بنسبة مرتفعة إلى انتهاك السيادة الوطنية وارتهان القرار السياسي لصالح جهات خارجية إقليمية ودولية تعمل على إبعاد التغيير الديمقراطي عن جذره الشعبي. ولا يعني ذلك أننا كسوريين غاية في الوعي الديمقراطي، إذ تكفي وقفة سريعة على أوضاعنا لنكتشف حجم تأثُّر وعينا بمكونات أبوية بطريركية، وأخرى لها علاقة بهوياتنا وانتماءاتنا الصغرى. ما يعني أننا لم نقطع مع وعينا العائدة جذوره إلى مفاهيم القرابة والعشيرة والجماعة الدينية والإثنية. وجميعها عوامل تُفاقم من تناقضاتنا الذاتية وتحديداً المعرفية. وذلك يفترض أن يكون التغيير الديمقراطي عاماً وشاملاً يستهدف بنية السلطة والدولة والمجتمع. وأن يتم الاشتغال على بلورة منظومة ثقافية سياسية واجتماعية معيارية معاصرة تكون فيها حماية حقوق المواطنة في موقع الصدارة. وذلك يساهم في تمكين ثقافة التعدد والحوار والاختلاف، ويسِّهل من عملية التواصل والاندماج بالحضارة المعاصرة والحداثة.
وبغضّ النظر عن الوجهة الأيديولوجية للسلطة، فإنها عجزت عن إنجاز البناء المؤسساتي للدولة، وعن سدّ الفجوة بينها وبين جماهيرها. ويكشف عن ذلك العنف والإقصاء المتبادل. حتى إن فكرة تمكين التكامل والتواصل المجتمعي باتت تكتنفها صعوبات كثيرة، نظراً إلى تسارع التصدع والانهيار داخل بنية المجتمع، وبين مكوناته. وينعكس ذلك وإن بأشكال مختلفة على طبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطة. والأخيرة ابتلعت الدولة ودمَّرت المجتمع. واقترن ذلك مع احتكارها تمثيل الدولة والمجتمع، وطغيان أيديولوجيا سلطوية أوصدت أمامنا أبواب الحرية والعقلانية والتنمية. ومهَّدت الطريق لاحتلال ساحاتنا من قِبل أشباح القرون الوسطى.
* كاتب وباحث سوري