الهجوم الأخير الذي شنّه «داعش» على «كوباني» والحسكة لا يدخل في إطار التراجع المطرّد الذي تتعرّض له سلطته في الآونة الأخيرة بقدر ما يظهر بوصفه تعبيراً عن دينامية التنظيم التي لا تبدو في كثير من الأحيان داخلية بحتة. ولذلك نراها تتقدّم عندما تتقدّم الأطراف الإقليمية أو تحاول تعويض خسائرها والعكس صحيح أيضاً، ما يعني أنّ حراك التنظيم بالكامل يمكن تحليله في ضوء هذه الارتباطات من عدمها.
وفي الوقت الحالي الذي يتراجع فيه التنظيم ولا يزيد من مساحة سيطرته يبدو وكأنه في حالة ردّ فعل على خسائر الأطراف الإقليمية المرتبط بها، فهو يتراجع ولكن ليس إلى الحدّ الذي يوصله إلى الهزيمة، وفي حال هزم في مكان ما لا تبدو هزيمته نهائية طالما أنها محكومة بمحدّدات معيّنة، وهذه المحدّدات هي التي تُظهِر حجم الخسائر- من عدمها- التي حلّت بموقعه الوظيفي داخل المعادلة الإقليمية التي يتحرّك داخلها.

الارتباط بتركيا

حتى الآن تعتبر «كوباني» المنطقة الوحيدة التي خرج منها التنظيم «بشكل نهائي»، وعودته إليها حالياً تبقى موقّتة لأنه لم يعد يمتلك الإمكانية التي تتيح له احتلالها والانطلاق منها إلى أماكن أخرى لفرض سلطته، ولولا الدعم الذي لقيه من تركيا في هذا الهجوم الأخير لاستحال عليه الوصول إلى الأماكن التي وصل إليها في شمال وجنوب المدينة. فبالتزامن مع اقتحام معبر مرشد بينار من الشمال عبر عملية انتحارية نَشَطت «خلاياه النائمة» المتبقّية في الجنوب وقامت بمجزرة بحقّ المدنيين الأكراد في قرية بربختان الواقعة جنوب كوباني، ولهذا الفعل المركّب دلالات تتجاوز الأثر المباشر للفوضى التي أحدثتها عودته لدى الأكراد. إذّ إنّ حدوث الفوضى ليس هو المقصود من العملية بل استمرارها وأثر هذا الاستمرار على «الداخل التركي» الذي لم يتعافَ بعد من «هزيمة» حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة.
حتى الآن تعتبر
«كوباني» المنطقة الوحيدة التي خرج منها التنظيم «بشكل نهائي»
وهذا ما يفسّر السرعة التي تلقّف بها حزب الشعوب الديمقراطي المعارض مجزرة كوباني، حيث لم يكن قد مضى على المجزرة سوى ساعات حتى خرجت الرئيسة المشاركة للحزب فيغين يوكسكداغ بتصريحات تتّهم بها حزب العدالة والتنمية بالمسؤولية عن الجريمة عبر رعايته المتواصلة لتنظيم «داعش» والسماح له ولعناصره بالإقامة في تركيا والتدرّب على أراضيها. وحين تقوم يوكسكداغ بهذا الربط فهي تعلم أنها تتخلّى عن القراءة الساذجة والسطحية لوجود «داعش» في المنطقة وتمدِّده على حساب دولها، إذ لا يُعقَل أن يستمرّ هذا الوجود من دون دعم من الدولة التي تتشارك مع المناطق التي يسيطر عليها «داعش» حدوداً تتجاوز مئات الكيلومترات. وهذا الترابط بات يسمح بسيطرة تركية تتعدّى القرار الداعشي المباشر إلى التحكّم بالمنطقة الشمالية من سوريا بكاملها، ما أدى إلى حصول صدام مع حزب الاتحاد الديمقراطي وقوّاته التي كانت قد باشرت حملة مركّزة للسيطرة على المناطق التي فقد النظام سلطته عليها في الشمال والشمال الشرقي من البلاد. وما حصل في كوباني أواخر العام الماضي هو بالضبط نتاج هذا الصدام الذي بدأ بتحرير المدينة قبل أن تنتقل مفاعيله إلى الداخل التركي عبر الانتخابات التي عُوقب فيها حزب العدالة والتنمية على رعايته لهذا التنظيم الإبادي والسماح له بتحطيم البيئات الاجتماعية في شمال وشمال شرقي سوريا. وكلام رئيسة حزب الشعوب الديمقراطي المشارِكة لا يخرج عن هذا المنطق، لا بل يعزّزه عبر تأكيد الترابط العضوي بين خسارة حزب العدالة والتنمية الرمزية للانتخابات ومعاودته استعمال داعش للحدّ من تداعيات الصعود «الكردي» الذي يمثّله حزبا الشعوب الديمقراطي في الداخل والاتحاد الديمقراطي في شمال وشمال شرقي سوريا. بهذا المعنى فإنّ داعش لا يتحرّك وحده، ولا يقوم بأيّ هجوم معاكس خارج سياق العلاقة العضوية التي تربطه بدول الجوار وخصوصاً تركيا التي تلعب سلطتها الحالية وأجهزة مخابراتها دوراً أساسياً في رعايته وتنظيم نشاطه، إن عبر توفير الموارد المالية والبشرية له أو من خلال تركه يتصرّف وكأنه تنظيم مستقلّ لإبعاد الشبهات عن علاقتها به ودورها المركزي في تحريكه وتسهيل عملياته في الداخل السوري.

الوجود في الجزيرة والبادية

وفي حين تتراجع فعالية التنظيم في الشمال والشمال الشرقي من سوريا فإنه يقوى من ناحية البادية والجزيرة المتصلتين بالحدود العراقية، إذ تبدو عملياته هناك أكثر تنظيماً وأقلّ عرضة للتآكل. فهي «لا تواجه مقاومة محلّية من أيّ نوع»، وحين تحصل مواجهة بينه وبين البيئات التي يحاول إخضاعها تكون في الغالب سريعة ومحكومة بانعدام التكافؤ بينهما من حيث القوّة والتسليح اللوجستي، وهو ما ظهر واضحاً من خلال التمرّد الذي قادته ضدّه عشيرة الشعيطات في دير الزور وريفها، وكانت نتيجته القمع الوحشي وحصول ما يشبه الإبادة الجماعية بحقّ شبان القبيلة ورجالها. وهذا ما قاد لاحقاً إلى تعميم الرعب على كامل منطقة البادية خوفاً من تكرار ما حصل بحقّ قبيلة الشعيطات في أماكن أخرى، فحصل ما حصل من تهاوٍ لبعض المدن التي قرّر التنظيم الاستيلاء عليها رغم أنها تقع في مناطق تعتبر حيوية بالنسبة إلى السلطة (تدمر مثلاً). لكن هذه الدينامية باتت تواجه الآن مصاعب جمّة ففضلاً عن التحدّي الوجودي الذي باتت تفرضه عليها سلطة الاتحاد الديمقراطي في الحسكة والرقّة هنالك أيضاً تصميم السلطة في سوريا على استعادة المبادرة من التنظيم عبر تسليح القوى التي تضرّرت من وجوده في مناطق الجزيرة والبادية. وهذه القوى هي في حالة تناقض الآن مع داعش و»الأكراد» معاً ولكنها تولي بحسب الاستراتيجية الموضوعة من السلطة الأولوية لقتال التنظيم الإبادي، لأن تناقضها معه يعتبر وجودياً بينما الخلاف مع سلطة الإدارة الذاتية الكردية يمكن حلّه من غير الاحتكام بالضرورة إلى السلاح. وفي حال تجذير هذه الاستراتيجية وجعلها أولوية بالنسبة إلى السلطة وحلفائها في الجزيرة والبادية فإننا سنشهد تحوّلا في خريطة السيطرة على تلك المناطق، وهذا التحوّل سيكون على حساب داعش أولاً، في حين أنه سيكون «محلّ نقاش» إذا لم يجرِ الاتفاق على تحييد القوى المنضوية ضمن إطار الإدارة الذاتية من استهدافه. وهنا ثمّة أسئلة يمكن طرحها عن موقف التحالف الامبريالي الذي تقوده الولايات المتحدة من استراتيجية كهذه، وان كان سيَسمَح للسلطة بتهميش القوى التي يدعمها عبر الغطاء الجوي الذي وفّره لها طيلة الفترة الماضية (علاقته بسلطة الإدارة الذاتية تبقى محلّ تساؤل دائماً، رغم كلّ ما حققته هذه الأخيرة للبيئات المحلية هناك).

«استراتيجية» مواجهة «داعش»

«وفي التفاصيل» أنّ السلطة في سوريا تسعى إلى إحياء التجربة المناوئة للتنظيم الابادي، ولكن عبر الاعتماد على «تنظيم» أقوى يدمج البنى القبلية التي جرى البطش بها بتلك التي تشكّلت في ضوء الحرب والقتال لاحقاً ضدّ التكفيريين، ولا يوجد على «التنظيم الجديد» أيّ «اشتراطات ميدانية» سوى أن يكون ولاؤه كاملاً للسلطة هنا. وهذا ما يفسّر وجود القوى التي نظّمتها هذه الأخيرة بكثافة داخله (الدفاع الوطني وكتائب البعث و...الخ). بهذا المعنى يصبح لدينا في تلك المنطقة «قوة مكافئة لداعش» وقادرة على قتاله وإخراجه من كلّ المناطق التي استطاع السيطرة عليها خلال فترة تحّلل السلطة السورية وانحسار نفوذها عن الجزيرة والبادية. وهذه في الحقيقة عملية طويلة الأمد وتحتاج إلى فترة حتى تقدر على صدّ التنظيم وحسر نفوذه في المنطقة، ولذلك لا يجب انتظار نتائج فورية منها لا بل يمكن توقّع حصول ردود فعل عليها من «داعش» تشبه ما أقدم عليه منذ أيام في كوباني انتقاماً لهزيمته في تلّ أبيض وعين عيسى في ريف الرقّة الشمالي. وفي الأثناء يحافظ التنظيم على خطوط إمداده من العراق عبر البوكمال والميادين وكلّ الريف الشرقي لدير الزور، ويخوض معارك عنيفة في الحسكة ضدّ قوات الجيش والبنى الاجتماعية المتحالفة معه، وكذا الأمر في كامل الريف الشرقي لحمص بمحاذاة الأماكن التي يسيطر عليها في تدمر. ما يعني أنه لا يزال محافظاً على بنيته التنظيمية التي لم تتضرّر كثيراً في منطقتي الجزيرة والبادية رغم كلّ ما تعرّض له التنظيم على يد التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
وعلى الأرجح أنّ الثقل التنظيمي له سيبقى في هذه المنطقة لأنّ فرص انتشاره خارجها أصبحت معدومة، فهو لا يملك هناك أيّ تأثير على السكّان أو البيئات المحلّية وحتى لو فعل فسرعان ما «ستنهار سلطته» عند أول صدام مع السلطة أو القوى المحلّية التي تناصبه العداء.
ولدينا الآن تجربة تلّ أبيض التي كانت تُعتبر من معاقله الأساسية في شمال الرقّة والتي خسرها ليس فقط عسكرياً وإنما شعبياً أيضاً بعدما تأكّد لسكّانها أنّ بإمكانهم العودة إلى ديارهم. وهذا ما يميز أداء قوات الحماية الكردية عن «داعش» وسواه من التنظيمات الابادية، إذ إنّ التهجير كان متاحاً في حالة تل أبيض ولكنه لم يحصل، وسارعت وحدات الحماية بدلاً منه إلى الانسحاب من الأماكن التي احتلّتها في المدينة مسلمةً إياها للقوى الحليفة التي يَطمئن لها سكّان المدينة والأهالي العائدين من تركيا. الأمر نفسه حصل في ريف الحسكة حيث خسر التنظيم معاقل أساسية له (تل براك وتل حميس) لكن أداء وحدات حماية الشعب هناك لم يكن على «السويّة الأخلاقية» نفسها وترافق مع الكثير من الانتهاكات بحقّ السكّان المحليين، غير أنّ ذلك لا ينفي امتلاك الوحدات للحنكة السياسية التي أتاحت لها في كثير من المناطق التي أخلاها داعش كسب ودّ السكان وطمأنتهم على مستقبلهم في ظلّ سلطة الإدارة الذاتية.

خاتمة

لا يستطيع التنظيم تقديم أيّ من هذه التطمينات لسكّان القرى والمدن التي يحتلّها وجلّ ما يمكنه فعله هو ادراتها خدمياً بعد تهجير أكبر عدد ممكن من الرافضين لسلطته هناك أو غير الممتثلين لها كفايةً، والباقي يتم إخضاعه إما بالمال أو بقوّة الرعب التي تتيحها الأشرطة التي يحرص على نشرها لبثّ الذعر بين السكّان الخاضعين لسلطته. «نجح ذلك» في تدمر ولكنه لم يساعد حتى الآن في استتباب سلطة التنظيم عليها، فالجيش السوري لا يزال على مقربة منها وحتى لو لم يحاول استعادتها فإنه يعلم أنّ سيطرة «داعش» عليها ليست مستقرّة كما هو الوضع في الرقّة مثلاً (حتى الرقة أصبحت «مهددة» بعد اقتراب قوّات «بركان الفرات» منها). وفي حال كان الجيش جاداً في تحصين دير الزور أيضاً ومنعها من الوقوع بالكامل في يد داعش فستنتقل حالة عدم الاستقرار التي تعاني منها سلطته في تدمر وغيرها إلى كلّ المناطق التي تقع تحت سيطرته المباشرة والكاملة. وحينها ستكون الظروف مؤاتية للقيام بتمرّد ضد التنظيم يضعه بين فكّي كماشة الجيش السوري وقوّات الحماية الكردية مضافاً إليهماً البيئات الاجتماعية التي لم تعد تمانع إسقاط داعش، حتى ولو كانت «مستفيدةً» على الأمد القريب من «الخدمات» التي يوفّرها لها لقاء الولاء المطلق والمبايعة لسلطته الوحشية.
* كاتب سوري