عندما اجتمع قادة «الاستقلال» لتحديد هوية دولتهم الجديدة، تم التصويت على اللغة الرسمية، ففازت الإنجليزية بفارق صوت واحد عن الألمانية. فالألمانية كانت سائدة هناك لدرجة أن أول «كتاب مقدس» طبع عام 1743 كان بالألمانية. بل إن نيويورك كانت ثاني أكبر مدينة «ألمانية!» بعد العاصمة برلين.
الصحافة اليومية الناطقة بالألمانية في الولايات المتحدة وصل عدد نسخها المباعة في عام 1910 إلى أكثر من ثلاثة ملايين نسخة (لا يزيد عدد النسخ في أيامنا هذه إلى أكثر من سبعين ألفاً).
والألمان شكّلوا مجموعات كبيرة من المهاجرين إلى العالم الجديد في القرن التاسع عشر، ولم تخف الهجرة إلا بعدما تمكن بسمارك من توحيد البلاد ما نمّا الشعور القومي الألماني ترجم تمسكاً بالوطن.
المهاجرون الألمان إلى القارة الجديدة مارسوا أدواراً مهمة في تحويل تلك البلاد من مزرعة متخلفة إلى بلاد صناعية، ومنهم من صار قادة سياسيين ومفكرين منهم الرئيس هربرت هوفر الذي كان اسمه هوبر/huber وركفلر والجنرال برشنغ الذي كان يكتب اسمه بالصيغة الألمانية (persching)، وصانع أداة البيانو شتاينواي الذي كان اسمه شتاينفيغ/steinweg والناشر يُزف بُلِتْسَر، وغيرهم كثيرون.
الألمان، مثل بقية الجماعات الإثنية المهاجرة كانت لهم وجود بارز في كافة الميادين الثقافية والاجتماعية والصناعية والمالية، ما انعكس في كثرة المدن الأميركية التي كانت تحمل أسماء المدن أو البلدات الأم ومنها ثماني باسم بريمن وإحدى عشرة باسم دريسدن واثنتين وعشرين باسم هانوفر ووجد الاسم هامبورغ في اثنتين وعشرين ولاية.
لكن عندما ننظر إلى الخريطة الإثنية الأميركية الآن فبالكاد يعثر المرء على تلك الجالية [!]، مع أن أعداد الألمان هناك وأولئك الذين يتحدرون من أصول ألمانية يبلغ حالياً نحو خمسين مليون نسمة.
سبب هذا التلاشي يعود إلى حالة الهوس الجماعي التي اجتاحت الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الأولى حيث بدأت حملة شعبوية مدعومة من الدولة والسياسيين ومن يقف وراءهم من وسائل التضليل ومنها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» ومجلة «لايف»، هدفها القضاء على كل ما يمت إلى ألمانيا والألمان بصلة حيث عد كل فرد منهم جاسوساً، مذنباً حتى وإن ثبتت براءته.
لعل بعضنا يذكر الآن المدى الذي ذهب إليه الكونغرس في التعبير عن امتعاضه من موقف فرنسا الرافض لغزو الولايات المتحدة للعراق عندما فرض تغيير اسم البطاطا المقلية (french fried) في المطعم الخاص به إلى freedom fried. كثر رأوا في ذلك صبيانية و«هبل»، ولديهم الحق. لكن بالعودة إلى تاريخ الولايات المتحدة القريب، إبان الحرب العالمية الأولى، نجد أنه لم يكن الأول، ولا يبدو أنه الأخير حيث الهوس المعادي للعرب والمسلمين يجتاح تلك البلاد، وكل ذلك بفضل الزعامات الشعبوية ومن يدعمها في مختلف وسائط الإعلام.
هوس الأميركيين، شعباً وحكومة، بمحاربة كل ما يمت إلى ألمانيا بصلة، اندلع بعد صدور «قانون التجسس والتحريض/ espionage and sedition act» عام 1917 وقانون التحريض عام 1918. القانونان طالا كل من وقف معادياً للحرب هناك، حتى لو كان أميركي أنجلو - سكسوني. القانونان منحا أي أميركي سلطة القبض على أي شخص يظهر تعاطفاً مع ألمانيا، أو أي مشاعر معادية للحلفاء، والهدف خنق حرية الرأي حيث قال أحد المشرعين: «إن لم يمكن بإمكانك القتال هناك، فبإمكانك عمل ذلك هنا».
القانونان منعا أي قول أو كتابة يمكن تأويلها على أنها تحد، مباشرة أو على نحو غير مباشر، من الجهد العسكري ما أدى إلى طرد الآلاف من وظائفهم واعتقال آلاف أخرى والقتل العشوائي في الشوارع والتشهير.
فصدرت قوانين تمنع التدريس باللغة الألمانية أو حتى الحديث بها، حتى وإن كان بالهاتف، كما منعت الصلاة في الكنائس باللغة الألمانية ومنعت الموسيقى الألمانية، وكل من خالف ذلك كان يتعرض للمحاكمة بتهمة الخيانة. وفي أيار عام 1918 أصدر حاكم ولاية أيوا قانوناً يمنع استعمال اللغات الأجنبية، والهدف كان منع التداول باللغة الألمانية التي كانت سائدة هناك.
كما عملت الغوغاء على حرق الكتب الألمانية ونوطات الموسيقي بيتهوفن وباخ وموسارت في الميادين العامة ومنع تداولها أو إذاعتها، ومنعت الفرق الموسيقية الألمانية من إقامة أي حفلات، وفي بعض الأحيان أحرقت أدواتها الموسيقية. كما تم طرد الألمان من الفرق التمثيلية والموسيقية ومن كافة الروابط، وأعيد تسمية كل ما له صلة بالألمانية حتى المقابر... في عربدة عصبية جنونية.
الدولة الأميركية من ناحيتها عملت على جمع مواطنيها الألمان في معسكرات اعتقال، كما فعلت مع مواطنيها اليابانيين والذي أشرنا إليه من قبل.
الحملة لم تقتصر على الاعتقال الجماعي بل تعدتها لتضم عمليات القتل العشوائية (lynching) وامتهان كرامة الأحياء عبر صبغ أجسادهم العارية بالقار الحار، ومن ثم لصق ريش الطيور بهم واستعراضهم في شوارع المدن والبلدات وحاراتها، وهو ما شجعت عليه الصحافة القومية والمحلية.
المصادر تؤكد أن بريطانيا لم تكن بعيدة عن التحريض على الألمان، شعباً وثقافة، في واشنطن. هذا عرض مختصر لحفلات العربدة الجنونية، المدعومة من البيت الأبيض، التي اندلعت في الولايات المتحدة، وفي ظني، على كل من يبحث في علاقاتنا بالغرب دراسته لفهم نفسيته، علماً بأننا أشرنا من قبل إلى حفلات جنون مشابهة (انظر أيضاً عرضنا مؤلف «أنموذج هتلر الأميركي: الولايات المتحدة وصناعة القانون النازي العنصري» الذي سيصدر في ملحق كلمات يوم السبت 8 تموز).