أمتعضُ في داخلي كلّما أقرأُ كتاباً جديداً أو مقالة عن هزيمة ١٩٦٧. أشعر أن هناك مَن يُمعنُ في تعذيبي عن قصد. كم من الكتب والمقالات قد كُتبت عن تلك الحرب؟ لماذا هذه الهزيمة تُشعل المخيّلة الغربيّة والعربيّة أكثر من هزائم أخرى؟ لماذا تقصّد جورج بوش (الابن) قبل غزو العراق أن يَظهر في صورة وهو يتأبّط كتاب الإسرائيلي، مايكل أورين، عن هزيمة ١٩٦٧ (وهو كتاب دعائي يفتقر إلى المعايير الأكاديميّة وحتى الصحافيّة الموضوعيّة).
كم مرّة علينا أن نعود كي نعيش مرارة الهزيمة؟ وهل أن العودة هذه —و هي موسميّة — مفروضة أم عفويّة؟ ولماذا ليس هناك من إنتاج إسرائيلي أو غربي عن حفلة إذلال جيش إسرائيل في حرب تموّز؟ يمكن تصنيف أدبيّات الهزيمة إلى خمسة أصناف رئيسة: ١) أدبيّات التفجّع على أنواعها وهي كثيرة بعد ١٩٦٧. هذه الرزمة كانت بدافع الردّة العاطفيّة والألم والندب على «الحظّ العاثر». ٢) أدبيّات ذمّ الهزيمة لإعلاء شأن الفكر والممارسة الإسلاميّين. وكانت أنظمة الخليج والسادات وراء تلك الرزمة، التي لا بدّ أنها حظيت بدعم الغرب في الحرب الباردة.

٣) أدبيّات الاستثنائيّة العربيّة، وهي التي تندرج في صنف «النقد الذاتي»—أي ذم العنصر والثقافة العربيّة (والتي صال فيها وجال صادق جلال العظم وأدونيس وهشام شرابي وغيرهم) والتي تنسب الهزيمة إلى عيوب ونواقص خاصّة بالعنصر العربي (كتب شاكر جرّار قبل أسابيع نقداً موفّقاً لهذا الصنف تحت عنوان «هزيمة مَن؟ نقد المنهج الثقافوي في تحليل أسباب هزيمة ١٩٦٧» في موقع «حبر»). وكتابات ذم العرب (خصوصاً من قبل عرب) تلقى ترحيباً في إعلام الصهيونيّة في الغرب (كتبت جومانة حدّاد قبل أيّام في «نيويورك تايمز» عن «الأسرار القذرة» في العالم العربي وعن «البشاعة» في المجتمع الفلسطيني بعد الانتفاضة، على أساس أن الجمال يكمن في التسليم بالاحتلال الفلسطيني.) ٤) أدبيّات التشفّي بهزيمة العرب: وهي التي تلت الهزيمة ولم تتوقّف وينتج منها العدوّ الإسرائيلي الكثير، كما أن الإنتاج الغربي الصحافي عن الهزيمة يندرج في هذا الصنف.

تتبدّى عنصريّة الكاتب في مفاصل عدّة من الكتاب
والتشفّي هو أيضاً من سمات التذكّر السنوي في إعلام النفط ثأراً لآل سعود (لم يغفر آل سعود بعد لعبد الناصر لما ألحق بهم من إذلال ومهانة وتحقير قبل ١٩٦٧). والأدب السياسي الساداتي الغزير يدخل هنا أيضاً. ٥) أدب الاعتذاريّة الناصريّة التي كتبت عن النكسة في محاولة للتنصّل من المسؤوليّة أو لحصرها بشخص المشير.
والتشفّي بهزيمة العرب من لوازم الدعاية الصهيونيّة والعربيّة الرسميّة: ١) الصهاينة يريدون إبقاء تفاصيل وقيم الهزيمة ماثلة أمام أنظار العرب لنشر التيئيس والمذلّة والخوف من العدوّ. وكما قال وزير إسرائيلي مؤخراً، إن حرب ١٩٦٧ هي النصر الحاسم الوحيد في تاريخ المعارك بين العرب والإسرائيليّين. الصهاينة يودّون تذكير العرب بنصرٍ مُذلّ لهم وإخفاء ما لحقهم من إذلال في غزة وجنوب لبنان. ٢) ويريد النظام العربي الرسمي تذكير العرب بإذلالهم لتسويغ ثقافة الاستسلام أمام العدو، ومن أجل تقويض سمعة النظام الناصري وكل ما رفعه من شعارات ضد «الأنظمة الرجعيّة» آنذاك — والتي تسلّمت مقدّرات العالم العربي بعد موته. والفكر الساداتي المتعشّش في مصر وفي إعلام وثقافة العرب يريد أن يثأر لأعداء عبد الناصر، وأن يرفع من شأن الاستسلام الساداتي.
أما مناسبة الحديث — مرّة أخرى — عن الهزيمة فهو صدور كتاب جديد آخر عن الحرب للمؤرّخ الإسرائيلي، غي لارون. والكاتب يُعدّ من «المؤرّخين» المُراجعين، أي الذين يعيدون النظر في الرواية الإسرائيليّة الرسميّة السائدة عن تاريخها. ولقد أفردت مجلّة «نيشن» اليساريّة الأميركيّة مساحة للكاتب كي يروّج لكتابه. وموقع «موندو فيس» (الناقد للاحتلال الإسرائيلي) نشر نص محاضرة له. لكن هل هناك فارق أخلاقي أو معرفي بين كتابات «المراجعين» وبين كتابات الرواية الرسميّة السائدة؟ وهل أن رواية المُراجعين هي بالضرورة أقلّ تأثّراً بفرضيّات الاستشراق الإسرائيلي التقليدي؟
كتاب لارون يحمل اسم «حرب الأيّام الستّة: تمزيق الشرق الأوسط»، وهو صادر حديثاً عن دار نشر جامعة ييل. الاسم «حرب الأيّام الستّة» هو المُفضّل عند الصهاينة لأنه يختصر الزهو القومي ـ العنصري للجيش المُنتصر في الحرب، كأن الحرب حُسمت في ستة أيّام وليس في سنوات طويلة من الدعم الغربي لدولة الاحتلال. لكن الكتاب في الحقيقة ليس عن الحرب: كان يجب أن يكون عنوان الكتاب «عشيّة الحرب»، لأنه يسرد ويحلّل الظروف السياسيّة العالميّة والإقليميّة التي قادت للحرب، أو التي جرت الحرب في سياقها. والكاتب يحاول أن يشدّد على الجدّة في مصادر الكتاب عبر الإشارة إلى بحثه في الأرشيف التشيكي، الذي يضيف على الرواية جانباً من المباحثات السوفياتيّة حول الصراع العربي-الإسرائيلي قبل وأثناء الحرب. لكن الجديد عن الحرب نادرٌ في الكتاب. كما أن الرواية العربيّة غير موجودة هنا، وهي ليست موجودة في كل الروايات الغربيّة عن الحرب، من قبل المؤرّخين و«المُراجعين» على حدّ سواء (باستثناء المُستعرب الأميركي، ريتشارد باركر، والذي أتقن العربيّة). والمؤرّخ المصري، خالد فهمي، لا ينفك يدعو على مدونته إلى فتح الأرشيف المصري للبحث في صناعة القرار عن الحرب، على غرار فتح الأرشيف الغربي والإسرائيلي. لكن يبدو لي أننا نعرف عن طبيعة القرار المصري (ومن دون فتح أرشيف رسمي) أكثر مما نعرف عن القرار الإسرائيلي قبل الحرب. لا يزال «النشر الأرشيفي» الإسرائيلي مُقتِّر وصارم في فرض معايير دعائيّة ـ سياسيّة على النشر. لا زالت هناك محفوظات بكاملها سريّة عن عام ١٩٤٨، فما بالك عن عام ١٩٦٧ و١٩٧٣، وما بعدها؟ الإصرار على التدليل على ديموقراطيّة العدوّ هو ركن من أركان الخطاب الليبرالي العربي الذي يهدف إلى المقارنة مع النظام الناصري (لكن ليس مع أنظمة الخليج، ربما لأنها وصلت إلى ذروة الديموقراطيّة التي يلهج بحمدها كتّاب صفحات الرأي في صحف الأمراء والشيوخ). لكن من الأكيد أن دولة العدوّ لم تكن ديموقراطيّة في عام ١٩٦٧، ولا حتى بالنسبة إلى اليهود فقط. (ونسب نصر العدوّ إلى الديموقراطيّة بدعة الدعاية الأميركيّة: هل انتصار الجيش الأحمر في الحرب العالميّة الثانية كان بسبب ديموقراطيّة ستالين؟ والفيتكونغ هزموا الإمبرياليّة الأميركيّة من دون لغو ديموقراطي).
إن كتاب لارون يشير مرّة أخرى إلى طبيعة النظام السياسي الإسرائيلي في عام ١٩٦٧، أي بعد سنة واحدة من رفع الحكم العسكري المفروض على غير اليهود في الدولة العنصريّة التكوين. إن صنع القرار الذي أدّى إلى إشعال الحرب الشاملة على ثلاث جبهات مرّة واحدة لم يكن نتيجة مداولات ديموقراطيّة بتاتاً. على العكس، لا تزال طبيعة صنع القرار غير معروفة بالكامل، وكانت القيادة السياسيّة المتمثّلة بليفي أشكول انقادت بطريقة من الطرق وراء القيادة العسكريّة التي فرضت أجندتها السياسيّة وحتى العسكريّة، حتى عندما كانت مخالفة لوجهة نظر القيادة السياسيّة المُنتخبة من قبل اليهود. وكتاب توم سيغيف «١٩٦٧: العام الذي غيّر الشرق الأوسط» (وسيغيف منذ كتابه «١٩٤٩» يُعتبر من المُراجعين اليساريّين وهو على يسار لارون من حيث القدرة على نقد الرواية الرسميّة) يتعرّض في كتابه لنفوذ المؤسّسة العسكريّة وسطوتها على السياسيّين (إسحق رابين يقول عن جيش العدوّ الإسرائيلي: «العدوان في عظامه وروحه»). لكن كتاب سيغيف، مثل كتاب لارون، لا يعرض لوجهة نظر العرب أو لمعاناتهم. فقط اليهود هم الذين يعانون — وهم يعانون كمحتلّين وغزاة وقتلة. أما العرب فهم ليسوا ضحايا، ولو كانوا بين القتلى والجرحى والمُضطهدين.
وحزب ديفيد بن غوريون (الذي غاب ولم يغب عن الساحة السياسيّة في إسرائيل في الستينيات والذي يقول عنه كاتب سيرته، المؤّرخ شبتاي تفيث، إن أعضاء الحكومة الإسرائيليّة كانوا يتداولون فيما بينهم عندما يغادرهم بن غوريون في تفسير كلمة أو إيماءة له، من شدّة تسلّطه على صنع القرار ونفوذه المتعاظم)، «رافي» جذب إليه القيادة العسكريّة المتصّلبة التي كانت دوماً تفضّل خيار القوة والحرب ضد العرب (و«رافي» كانت تريد التستّر على فضيحة «لافون»). إن بروز موشي دايان فجأة على الساحة عشيّة الحرب، وتعيينه وزيراً للدفاع، ضد مشيئة إيشكول، جرى في ظروف غير واضحة المعالم (وقد زار دايان الجبهة قبل أن يحظى بمنصب وزير الدفاع، وبالرغم من معارضة إشكول له).
لارون يكتب عن الحرب وبتفصيل كبير، ولا يعتبر أن وجهة النظر العربيّة ضروريّة لإكمال الرواية. لا ترد وجهة النظر العربيّة هنا إلا لماماً، وبطريقة عرضيّة. هناك بعض الإشارات إلى هيكل وحتماً هناك إشارات إلى رواية عبد المحسن مُرتجي، قائد القوّات البريّة في حرب ١٩٦٧، لأنه معادٍ متطرّف للنظام الناصري ومن أتباع عبد الحكيم عامر (وخالد فهمي يسخر من هيكل مراراً لكنه لا يسخر من رواية مُرتجي الذي أضفى على شخصيّة عبد الناصر في الأزمة ما عُرف من صفات عن عامر، كما أن مرتجي أسهب في حبك قصّة أن المتظاهرين بعد استقالة عبد الناصر كانوا جزءاً من مؤامرة للتنظيم الطليعي (في كتابه «الفريق مُرتجي يروي الحقائق», ص. 196 - 197) — وأنا شهدتُ في سن السابعة على خروج تظاهرات عفويّة ليلة استقالة عبد الناصر في حي المزرعة في بيروت، ومن دون إيعاز من علي صبري). (واضح أن لارون لا يعرف العربيّة وكتابته حتى لأسماء الكتب الستة العربيّة — التي يقول إنه استعان بها مع أنها قلّما ترد في السيرة — تأتي متعثّرة وخاطئة في الـ«ترانسليتريشن» (أي كتابة كلمة بلغة في لغة أخرى وبأحرفها)).

يعتمد لارون على المبالغات والصحافة المنحازة
وإهمال الرواية العربيّة لازمة ثابتة في الكتابات الصهيونيّة التي في نظرتها البيبليوغرافيّة للعرب لا تحيد عن النظرة العنصريّة، أن العرب غير ثُقاة، وأن أعداء العرب أكثر معرفة بالعرب من العرب. ولهذا، فإن لارون يعتمد على روايات إسرائيليّة بالعربيّة في الحديث عن وجهة نظر ومزاج الرأي العام العربي. قد يقول قائل (أو قائلة) إن المؤرّخ يهوشواه بورات اعتمد على الصحافة الفلسطينيّة المُبكّرة في تأريخه عن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. هذا صحيح لكن حتى بورات كان يعتبر أن تقريراً للوكالة اليهوديّة أكثر مصداقيّة في تقرير المزاج العرب من كتابات عربيّة. لكن لارون اختار مِن بين كل الكتابات العربيّة في الستينيات، جريدة «الحياة»، المعروفة بأنها كانت ناطقة باسم المحور السعودي ـ الأردني ـ الغربي في الصراعات العربيّة. لكن لندخل في صلب موضوع الكتاب.
الكاتب على صواب أن القيادة السياسيّة في سوريا ومصر وإسرائيل كانت تحت ضغط القيادة العسكريّة. وهذا يخالف الانطباع العربي السائد الذي منذ إنشاء الكيان وقع تحت خديعة فكرة ديموقراطيّة الكيان، حتى عندما كان الشعراء العرب يُساقون إلى السجون بسبب قصائدهم المخالفة لأهواء سلطات الاحتلال. يرفض الكاتب فكرة أن القيادة العسكريّة لم تكن في وارد إقصاء القيادة السياسيّة (ص. ٣) لكن هل كانت تحتاج إلى ذلك في الوقت الذي كانت القيادة السياسيّة ترضخ لمشيئتها في قرار الحرب وفي اتساع الحرب وفي ميزانيّة الحرب (قبل وبعد المعركة)؟
وفي وصفه للوضع السياسي في كل من مصر وسوريا — لكن ليس في الأردن — يعتمد على المبالغات والصحافة المنحازة، مثل «الحياة»، التي كانت في كل الستينيات لا تتوقّف عن نشر مقالات عن معارضة قويّة لكل الأنظمة المعادية للحلف الخليجي ـ العربي: لكن لارون ينقل عنها بلا كيف (ص. ٣١، مثلاً، عن أخبار تظاهرات في سوريا). وفي النزاع بين أي دولة عربيّة، لا يتورّع الكاتب عن الانحياز إلى الموقف الإسرائيلي مهما كان جائراً وظالماً واستفزازيّاً. خذوا وخذن مثلاً قصة الصراع السوري ـ الإسرائيلي في المنطقة المتنازع عليها في الجولان قبل الحرب. وقد اتفق الجانبان السوري والإسرائيلي في وثائق الهدنة في عام ١٩٤٩ على أن تكون المنطقة خالية من السلاح ومن السيادة. لكن العدوّ اختار أن يفسّر الاتفاقيّة على هواه، بأن له وحده السيادة عليها، وقرّر تحت نظر الأمم المتحدة أن يطرد السكّان العرب من المنطقة تلك. المراقب الأممي رأى أن استعمال إسرائيل للبلدوزرات خالفَ اتفاقيّة الهدنة. واستفزازات العدوّ في المنطقة كانت تهدف بصريح العبارة إلى استفزاز الطرف الآخر، وباعتراف دايان في (تصريحات لم يُفرج عنها حتى عام ١٩٩٧) فإن العدو افتعل الاشتباكات بنسبة «أكثر من ٨٠٪» (راجع «نيويورك تايمز»، ١١ أيّار ١٩٩٧).
وكالعادة في الروايات الاسرائيليّة ترد أقاويل منسوبة لقادة عسكريّين عرب، قالوها لجواسيس إسرائيليّين. لكن الشخصيّات ليست على قيد الحياة ومن السهولة بمكان اختلاقها. وما يُروى مِن أكاذيب عن الجاسوس الإسرائيلي، إيلي كوهين، يكفي لملء مجلّدات تفوق في عددها كتاب «الأغاني». لكن لارون ينقل أمراً آخر عن كوهين، أن سليم حاطوم أخبر كوهين في عام ١٩٦٣ بأن سوريا لا تنوي القيام بحرب وأنها تعلم أن إسرائيل أقوى منها لكن تريد فقط افتعال اشتباكات خفيفة على الحدود لإحراج عبد الناصر. والدور السوري البعثي والأردني الهاشمي والسعودي في إحراج عبد الناصر ودفعه دفعاً للتورّط في معركة لم يكن عبد الناصر يريدها كان أساسيّاً في العوامل التي ساهمت في إشعال الأزمة. هذا لا يعفي عبد الناصر من المسؤوليّة أبداً. الرجل الذي كان أبعد ما يكون عن قرارات انفعاليّة غير محسوبة تورّط في خطوات انفعاليّة ربّما نتيجة الدعاية والتحريض الأردني والسعوديّ (كان أركان النظام الأردني يردّدون بصورة شبه يوميّة أن عبد الناصر يختبئ وراء تنانير القوّات الدوليّة في سيناء). (كان الطلب الناصري من الأمم المتحدة يهدف إلى سحب محدود للقوّات، لكن رالف بنش، نائب الأمين العام، أصرّ على انسحاب كامل للقوّات — ودور الأميركي بنش هو من الفصول غير المعروفة عن الخدمات الكبيرة التي قدّمها الرجل في تاريخه الديبلوماسي الطويل للصهيونيّة العالميّة ولدولة الاحتلال الإسرائيلي).
وتتبدّى عنصريّة الكاتب في مفاصل عدّة من الكتاب، منها في إصراره على إضفاء مسحة إنسانيّة لقائد العدوّ مقابل منع أي صفة انسانيّة عن القادة العرب. فهو يتحدّث عن إيشكول ويتحدّث عن زوجته بحميميّة وعن أنها كانت تقوم بخدمات سكرتاريّة لزوجها. وقادة العدوّ يوصفون في الكتاب على أنهم وسيمون (دائماً) فيما هو يعطي أوصافاً قبيحة للقادة العرب (يصف أشكول بأنه يبدو كـ«العم اللطيف» (ص. ٨٧) ويصف بيريز ودايان بأنهما كانا «وسيميْن وفصيحيْن» (ص. ١٠٣) ويصف آلون بأنه «صاحب وجه وسيم تسيطر عليه جفون متدليّة مما تضفي عليه مسحة غزال ناعس» (ص. ١١٣). ويقول عن ياسر عرفات، مثلاً، أن «عيونه الصغيرة تدور بسرعة محمومة» (ص. ٣٨) وأن «قدراته الخطابيّة (خصوصاً في الإنكليزيّة) لا تثير الحماس». لكن، لماذا يكون لقائد عربي قدرات خطابيّة في لغة ليست لغته الأم؟ ما هي القدرات الخطابيّة لشمعون بيريز أو إسحاق شامير أو إسحاق رابين بالانكليزيّة؟ أما في العربيّة (وهي لغة لا يستطيع لارون أن يحكم فيها وبها) فإن قدرات عرفات لم تكن سيئّة أبداً. كان لو صوت جهوري قوي في الخطابة (بالرغم من تعثّره في القواعد والتشكيل) وكان بارعاً في استعمال المصطلحات والتعابير التي تثير الحماس في جمهوره.
وفي رسمه وتحليله لشخصيّة ياسر عرفات لا يعتمد المؤرّخ على شهادة من عرفوه بل على كتاب قديم للصحافي الإسرائيلي، أيهود يعاري، بعنوان «إضرب إرهاب: قصّة فتح». (والكتاب، كما يظهر من عنوانه، كتاب دعائي محض). لا، ويستشهد لارون في الحديث عن اجتماع لقيادة «فتح» على كتاب يعاري أيضاً (ص. ٣٨) كأنه كان موجوداً مع الحاضرين. لكن الاعتماد على شهادة إسرائيليّة معادية في الحديث عن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة لا يتعارض مع توجّهات الكاتب الذي يتعمد في مصطلحاته عن حقبات ومحطات الصراع العربي ـ الإسرائيلي على الرواية الاسرائيليّة الرسميّة (وهي كاذبة، باعتراف الكثير من مؤرّخي الكيان — المتأخّرين). ففي موضوع اللاجئين فإن مسؤوليّة جيش الصهاينة منفيّة بالكامل إذ ان اللاجئين — حسب الكاتب — «أصبحوا لاجئين بعد هزيمة الجيوش العربيّة.»(ص. ٣٨) أي أن اللاجئ كان لاجئاً قبل أن يصبح لاجئاً كي تنتفي مسؤوليّة القوّات التي أخرجت الشعب الفلسطيني عنوةً من أرضه.
أما في موضوع العمليّات الفلسطينيّة التي كانت تقوم به حركة «فتح» وغيرها من الفصائل الفلسطينيّة، فإننا نكتشف في هذا الكتاب أن العمليّات الفدائيّة كانت أكثر تأثيراً مما نظنّ، أي أكثر مما شاع بين العرب حتى هذا اليوم. يحاول المؤرّخ الصهوني لارون أن يقلّل من أهميّة العمليّات تلك فيقول إنه «من بين ١١٣ عمليّة فإن ٧١ عمليّة فقط كانت ناجحة نوعاً ما» (ص. ٣٩). لكن كيف تكون العمليّة ناجحة لكن «نوعاً ما»؟ هي إما أن تكون ناجحة أو فاشلة. هل تكون العمليّة فاشلة «نوعاً ما»، مثلاً، إذا أصابت ولم تقتل جنديّاً؟ صحيح أن حركة «فتح»، وبإصرار وأسلوب ياسر عرفات شخصيّاً، اعتمدت أسلوب المبالغة الفظيعة في نشر التقارير عن عمليّات المقاومة (خلافاً لتجربة حزب الله التي تتحفّظ في تقاريرها مما أكسبها مصداقيّة مهمّة في عمل الكفاح المسلّح). وهذه المبالغة أضرّت كثيراً بصدقيّة حركة المقاومة لأن الجماهير كانت تشكّك حتى عندما تكون العمليّات ناجحة. والعدوّ منذ قبل إنشاء الكيان قرّر أن الكذب والمرواغة من ضرورات العمل الدعائي السياسي والعسكري. لكن النسبة التي يوردها المؤلّف هي نسبة جيّدة جداً مقارنة بتجارب أخرى.
والتجنّي على ياسر عرفات يبلغ حد تشويه صورته بطريفة فظيعة. ومهما قلنا عن ياسر عرفات، فمن المتعارف عليه أنه لم يكن يتخلّص من خصومه في داخل حركة «فتح» عبر القتل. على العكس، كان عرفات معروفاً بمرونته وبقدرته الهائلة على استيعاب خصومه جميعاً، حتى في داخل فصائل أخرى (مُنافِسة) في المقاومة الفلسطينيّة. لكن لارون يختلق رواية عن عرفات الذي يقول عنه زوراً أنه كان «لا يرحم» (ص، ٤٠، مع أن عرفات كان معروفاً بتسامحه حتى مع الذي صدرت بحقّهم أحكام إعدام، أو عقوبات طويلة)، وأنه في حمأة صراع داخلي قي قيادة فتح، قتل يوسف العرابي في عام ١٩٦٦. لكن ظروف مقتل العرابي كانت معروفة، وكانت نتيجة خلاف في مكتب أدّى إلى سوء تفاهم تطوّر إلى دخول عنصر للحركة إلى غرفة مُطلقاً النار فيها. ولم يكن ياسر عرفات موجوداً في ذلك الاجتماع. لا، ويقول لارون أن أبو جهاد وأبو عمّار كمنا بنفسهما لعرابي وقتلاه. (يستشهد الكاتب في الرواية إلى مرجعيْن، كتاب يعاري أعلاه، وكتاب يزيد صايغ، لكن رواية صايغ تختلف عن رواية يعاري. وصايغ يقول إن أحد القريبين من عرفات توفّي في إطلاق النار—راجع كتاب يزيد صايغ، «الكفاح المسلّح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، ١٩٤٩-١٩٩٣»، ص. ١٢٧). هذه الرواية بحد ذاتها تضعف كثيراً مصداقيّة الرواي الذي يفتقر ليس فقط إلى التدقيق الأكاديمي بل حتى إلى الأمانة العلميّة.
... يتبع
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)