ورد، ليس من دون مفاجأة للمتابعين، في خطاب القسم الذي أدلى به الرئيس المنتخب العماد ميشال عون، تعهد بتطبيق الدستور «بشكل كامل ودون اجتزاء». والدستور، بنسخته الأخيرة، إنما هو دستور «الطائف».
العماد عون عارض مجمل العملية السياسية التي أفضت في «الطائف» بين أمور أُخرى، الى إقرار تعديلات وإصلاحات دستورية أعادت رسم الصلاحيات بين المؤسسات وخصوصاً صلاحيات رئاسة الجمهورية. بعد موقف العماد عون طالبت «كتلة الوفاء للمقاومة» بتطبيق كل البنود الدستورية. كذلك صدر، بُعيد ذلك، بيان عن كتلة «المستقبل» كرّر الموقف نفسه...
طبعاً، احترام الدستور والعمل بموجب نصوصه ينبغي أن يكون أمراً عادياً يستتبع الرقابة والتدقيق والتحقق، لا التساؤل أو الإستهجان أو التشكيك. لم يكن الأمر على هذا النحو في لبنان (باستثناء العهد الشهابي نسبياً). بل يمكن القول، بشكل إجمالي، إن الدستور (دستور «الطائف») لم يُطبق، وبالتالي لم يُحترم: لا من قبل الذين أعلنوا موافقتهم عليه، ولا، بالطبع، من قبل الذين رفضوه وعارضوه جملة وتفصيلاً.
في مثل هذا الوضع، ينبغي طرح عدة تساؤلات. أولها، هل أن الرئيس عون وشريكيه الأساسيين في طبخة رئاسته قد قرروا، أخيراً، الإعتراف بمساهمتهم بانتهاك الدستور (طبعاً بنِسَب متفاوتة)، ومن ثمّ اعلان رغبتهم في احترامه من الان وصاعداً (تحت وطأة تفاقم الأزمات والتعطيل والمخاطر)...؟ التساؤل الثاني، هل أن الموقف المعلن ذاك، منسّق بين الأطراف الثلاثة في سياق الطبخة المذكورة وكجزء منها، بما يضاعف من أهميته ومن إمكانية تطبيقه كرافعة لتدشين مرحلة جديدة في التعامل مع الأزمات اللبنانية ولإيجاد حلول ناجعة لها؟ التساؤل الثالث، هل أن ما أُعلن، من دون تعميم على الأطراف المذكورة وتساوٍ في مواقفها ومسؤوليتها، هو مقاربة عامة لا تُسمن ولا تُغني ولا تُلزم، أو هو كلام دعائي يُخفي عكس يُظهر، وفق مبدأ التشاطر اللبناني التقليدي المعتمد...
ينبغي القول، بدءاً، إن عدم احترام الدستور والقوانين هو أمر يستشري في ظل سلطات مستبدة، أو بسببب ضعف سلطة ما وعدم قدرتها على فرض مرجعيتها العامة والشاملة وفق أحكام الدستور والقانون. طبعاً، للصنف الثاني أسباب متعددة، داخلية وخارجية. وهي، في الحالة اللبنانية، ناجمة عمّا أُصيب به النظام اللبناني من جمود، وما استقر عليه من صيغة تحاصصية أدت الى إضعاف الدولة لحساب دويلات متعددة، متنازعة، وتابعة (بحكم الحاجة إلى الإستقواء بالخارج على الداخل: لتثبيت التوازنات أو لتعديلها) . ينبغي القول، في امتداد ذلك، أن كل أطراف السلطة، دون استثناء، لا يساورها، ولا حتى في المنام، أي هم أو هاجس إصلاحي. ولذلك يمكن التأكيد، دون أي نسبة في الخطأ أو توبيخ الضمير، أن كل شعاراتها ومطالبها التي تحمل عناوين ومطالب «إصلاحية «، إنما هي مطالب خاصة لا عامة. وهي، بهذا المعنى وبكل المعاني التي يرمي إليها مطلقوها، مطالب فئو ية لا وطنية. وهي ، لهذا السبب، تتحرٓك في نطاق النظام نفسه، لتعديل توازناته والحصص فيه، ولا تقترب،أبداً، من أُسسه وجذوره، لتغييرها، ولتكتسب، بالتالي، صفة الإصلاح الحقيقية. ليس هذا فقط. بل أن قوى السلطة والنظام قد قاومت،دائماً، كل طرح أو توجُٓه أوبرنامج إصلاحي . هي، طبعاً، قمعت أو أقصت أو همٓشت ألقوى صاحبة المشاريع الإصلاحية الشاملة، أو حتى الجزئية. وكذلك عمدت إلى محاربة أو تصفية وإجهاض كل تدبير إصلاحي فرضه شخص أو ظرف إستثنائيان لهذا السبب (الاستثنائي، أيضاً،) أو ذاك، من داخل حكومات قوى السلطة التقليدية.
لن نناقش هنا شعارات حزب «المستقبل» الذي اقتصرت وعوده الإصلاحية، سابقاً، على تحويل لبنان إلى «جنّة ضريبية»، وحالياً، على التمسك بـ«المناصفة». وكفى الله «المستقبليين» شر الإصلاح! أمّا «حزب الله» فقد كانت أولويته، ولا تزال، المقاومة: في نطاق مشروع محلي وإقليمي ما زال قائماً ومثابراً وفق هذه الأولوية من دون سواها. هو، في المقابل، اعتمد التقليدي والسائد من التوجهات والسياسات في الشأن الداخلي اللبناني وفي الموقف من آلياته وتجاذباته، بما لا يفرض عليه، وفق التوازنات الراهنة، أي استدارة تغير في أولوياته واهتماماته. لذلك لن نتوقع «العجائب الإصلاحية» لا من حزب «المستقبل» ولا من «حزب الله». ماذا عن الرئيس ميشال عون و«التيار الوطني الحر» اللذين يشكلان الركن الثالث في «سيبة» أو طبخة الرئاسة المشار إليها آنفاً؟
لا شك بأن القول، أو الوعد، بتطبيق كل بنود الدستور، هو، في ظروف لبنان، وعد إصلاحي بكل معنى الكلمة. ذلك، أولاً، بسبب عدم احترام وتطبيق الدستور طيلة المراحل الممتدة منذ الإستقلال حتى اليوم! عدم احترام وتطبيق الدستور، أي دستور، مهما يكن هذا الدستور متخلفاً، يُسقط، بالعلامة اللاغية، أي ادعاء إصلاحي، حتى لو حسنت النوايا. فتطوير وتعديل الدستور، لا بد أن يبدأ باحترامه في المقام الاول، ثم باحترام آليات تعديله التي ينص عليها، الدستور نفسه، في المقام التالي. ثانياً، بسبب أن دستورنا يتضمن بنوداً إصلاحية مهمة نسبياً. وهي بنود موزعة على ميادين متعددة ومتنوعة: سياسية وإدارية وإقتصادية واجتماعية. معروف أنه جرى إفراغ بعضها من محتواه (كما بالنسبة لـ«المجلس الاقتصادي الاجتماعي»)، أو جرى تعطيل جزء ثان منها كلياً (تشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية حسب المادة ٩٥ من الدستور...). لكن، للأسف، القول ومحتوى القول شيء، وجوهر الإصلاح المنشود، قد يكون شيء آخر تماماً. الواقع أنه، وفق ما هو معلن وممارس من المفاهيم والأولويات والمواقف، الإصلاح المقصود وفق التصور العوني( رئاسة وتياراً) إنما يتصل، وحتى إخطار وتبدل آخرين، بـ«إصلاح» توازنات المحاصصة لا بالتخلص من المحاصصة نفسها: كمنظومة تقاسم وتنازع وفساد ونهب وتخلف وتعطيل وتبعية... في أفضل التبريرات يقول العونيون: «الميثاقية» المجسدة في التوازن و«المناصفة»، هي ممر إجباري للإصلاح اللاحق.
السؤال المشروع، من قبيل العدل وعدم قطع الطريق على احتمالات إيجابية تملي شيئاً من التبدل والتحول بحكم المعاناة أو الخبرة: هل أن مواقف وأولويات رئيس الجمهورية عون ستختلف عن تلك التي كان يعتمدها عندما كان رئيساً لـ«التيار الوطني الحر»؟ للأسف، لا يبدو أن هناك اختلافاً أو بداية اختلاف، حتى الآن. التأليف الحكومي، وقبله وأثناءه، استحضار شعارات وطقوس سياسية وطائفية تعود إلى أواخر الثمانينات، وإيهام النفس والأخرين باستعادة مرحلة الامتيازات... كل ذلك يعطي إشارات سلبية لا بد من ادراك مخاطرها، ليس على قضية الإصلاح فحسب، بل على البلاد، وعلى أصحاب هذه الشعارات كسواهم.
هذا الأمر وسواه يعيد البحث مجدداً الى مسألة، بل معضلة، استمرار غياب قوى الإصلاح، التقليدية منها أو الجديدة (القائمة بالفعل أو بالقوة النظرية والمصلحية)، عن ميدان الحضور والدور والبرنامج. تلك هي المسألة التي ينبغي أن تتقدم على سواها في الحيز اللبناني المباشر: من دون أن تلغيها أو تحجبها أي أولوية أُخرى. لا بد من إعادة النظر بتلك النظرية التي تم فيها، بشكل متعسف، اختصار أولويات متكاملة بواحدة منها فحسب، لغرض في نفس قوى قدمت وجودها في السلطة على أي اعتبار سليم وصحيح آخر: وطني أو قومي!
* كاتب وسياسي لبناني