لم يكن الزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو في العقد الأخير سوى أيقونة رمزيّة - شديدة السطوع بالتأكيد - لكن دون أي دور فعلي في إدارة شؤون البلاد (الجمهوريّة الصغيرة ذات الـ١١ مليون إنسان في نصف جزيرة سابحة في البحر الكاريبي).
إذ أن الجمهوريّة الشيوعيّة الأولى التي أسسها كاسترو ورفاقه بعد إسقاط حكم الجنرال باتيستا في ١٩٥٩ وتحولت إلى شوكة في حلق الإمبراطوريّة الأميركية، انتقلت عند بلوغ كاسترو سن الثمانين بكوبا الثائرة بسلاسة ورويّة إلى جمهورّية ثانية بداية من عام ٢٠٠٦، ورسميّاً في عام ٢٠٠٨ عندما أُعلن عن تنحي فيديل كاسترو عن كافة مهامه الرسمية، وتولي شقيقه ورفيقه راوول قيادة البلاد. كانت تلك الجمهوريّة الثانية مرحلة مختلفة بالتأكيد عن سنوات الثورة وبدايات التأسيس لكوبا المستقلة عن النفوذ الأميركي، شهدت نضوج تجربة الدّولة الكوبيّة ودخولها تجارب براغماتيّة مختلفة في تطعيم النظام الاشتراكي الذي تبنته الجمهوريّة الأولى، وذلك من خلال توظيف حلول رأسمالية موضعية حذرة، تستهدف أساساً التعامل مع حقائق الحصار الأميركي والغربي الغاشم المستمر منذ سبعة وخمسين عاماً، وكذلك تأثيرات الحرب الإعلامية والسيكولوجية المستمرة من خلال تسهيلات الهجرة التي تمنحها الولايات المتحدة للمنشقين عن النظام، إضافة إلى الضعف البنيوي الأساس في غياب المشروع الاشتراكي العالمي النقيض للمشروع الرأسمالي المعولم.
شجاعة راوول في كسر محرمات الجمهوريّة الأولى، بما فيها إقامة علاقات دبلوماسيّة مع الولايات المتحدة نفسها حتى في وجود أخيه - وإن كان متقاعداً -، إنما تعكس ثقة بالنفس من قبل الدولة الكوبيّة التي حفظت لفيديل مكانته الرمزية الأبدية، لكنها (وهذا تراث تحسد عليه لقائد اعتبر في المنظور الغربي ديكتاتوراً) أعطت في ذات الوقت جيشاً وبيروقراطيةً ومؤسسات حزبية الصلاحية والمساحة للقيادة الجديدة في استكشاف سياسات عملية اقتصادية وسياسية قد تخفف من حدة آثار الحرب الباردة الدائمة.
كوبا الجمهوريّة الثانية في الأدبيات والتقارير الصحافيّة لا تشبه فيديل كثيراً بقدر ما هي تشبه أخيه راوول الأهدأ والعملي والأقل جذريّة. الجيل الثالث من الكوبيين الذين ولدوا بعد الثورة ولم يعيشوا تجربة التحرر الثوري من عبوديّة الرأسمالية الأميركية في النصف الأول من القرن العشرين، صار بإمكانهم في العهد الجديد تملك مشاريعهم الاقتصادية الفرديّة الخاصة، وأن يختلطوا بطلائع السائحين الأميركيين القادمين لاستكشاف نصف الجزيرة المحاصر من جديد، لا بل وأن يسافروا لشراء منتجات استهلاكيّة غير متوفرة في كوبا والعودة لبيعها بربح. لكن الجمهوريّة الثانية في واقعها هي أكثر من شخص راوول - تماماً كما كانت الجمهوريّة الأولى أكثر من شخص الزعيم كاسترو - مهما حاول الأميركي شخصنة الوقائع. فمقاليد الدولة الكوبية اليوم هي في يد تحالف متين من القيادات العسكريّة والسياسيّة المخضرمة التي اكتسبت ثقة عقود من الخبرات، وتظافرت معاً لتوفير المناخ الإيجابي لانتقال السلطة أولاً، ومن ثم لفتح قنوات الملكيّة الخاصة على نطاق ممسوك، ولاحقاً للتمهيد لاستعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة. بالطبع، لم تكن بعض هذه الخيارات مثاليّة من منظور ثوري محض، لكنها تظهر قدرة عاليّة على التبصر بالأمور، وتحليل المواقف وبناء التحالفات الاجتماعية والاقتصاديّة اللازمة لضمان استقرار البلاد، في ظل معطيات كليّة أقل ما يقال فيها أنها لا تتسم في عمومها بالإيجابية بالنسبة إلى استدامة المشروع الاشتراكي في دولة واحدة معزولة، وقليلة الموارد.
غياب فيديل الآن سيكون بمثابة إطلاق رمزي لجمهوريّة كوبيّة ثالثة مختلفة
فعلى صعيد القيادة التاريخيّة العليا، تتحرر الدولة الكوبيّة من شخص الزعيم كاسترو الطويل الظل. والرفيق راوول نفسه لن يكون قادراً - صحيّاً أقله - على الاستمرار في إدارة البلاد لسنوات طويلة، كما الأمر بالنسبة إلى جيل الثوار الشبان المعدمين الذين قاتلوا في الخمسينيات وحموا الثورة بجفون الأعين وأقاموا جمهوريّة عدالة فاضلة، فيها مستويات عالميّة من انتشار التعليم والثقافة والعناية الصحية وتكافؤ الفرص بين الجنسين، وشبه انعدام للطبقيّة الاجتماعيّة - وإن افتقدت لكثير من البضائع الاستهلاكيّة الرأسماليّة الباذخة.

كوبا الجمهوريّة الثانية لا تشبه فيديل كثيراً، بقدر ما هي تشبه راوول


كان الرفيق راوول قد أقام حوله فريقاً للقيادة ولم يتفرد باتخاذ أي قرار، ولذا فإنه من المستبعد أن يتسبب غيابه الشخصي في إنهيارات من أي شكل، لا سيما وقد رتب أمر تنازله عن السلطة منذ الآن (في ٢٠١٨)، ويُعرف على نطاق واسع - وفق الدستور الكوبي - أن نائبه ووزير التعليم العالي في الحكومة الكوبية موغيل ماريو بيرموديز سيتولى المنصب الأعلى في البلاد مكانه، وهو قائد شاب رفيع التعليم لا يتجاوز عمره ٥٦ عاماً، ينتمي لجيل جديد من القيادات - كي لا نقول النخبة - الكوبيّة لا يزال في غالبه من الجيل الثاني للثورة، وهو جيل لم يذق ذل العبوديّة للأميركي وأزلامه ما قبل ١٩٥٩، لكنه أيضاً جيل تشبع في دروس إدارة الواقع الصعب في ظل الحصار، خاصة بعد سقوط الحليف السوفياتي - الأوثق في ١٩٩١، وطوّر طرائق مدهشة للاستمرار برغم كل شيء، وسيكون قادراً بفضل حسن تعليمه وخبراته العمليّة على إدامة المنظومة الحالية لأجيال قادمة، ربما أفضل حتى من جيل الثوار الأوائل النّزق.
لا تواجه الجمهوريّة الكوبيّة الثالثة تحديات سياسيّة داخليّة تذكر، وليس في البلاد انقسام عمودي أو أفقي يمكن للرأسماليّة العالمية أن توظفه لإسقاط المشروع الاشتراكي - اليساري كما في فنزويلا والبرازيل مثلاً، لكنها ستواجه بالتأكيد ضغوطاً هائلة بسبب تحولات الإقليم. فالحليف الفنزويلي الأقرب بقيادة مادورو يواجه حرباً أميركية هوجاء من خلال الضغوط الاقتصاديّة ودعم اليمين الفنزويلي ضد الحكومة، وتراجع أسعار النفط، مما يقلص مساحة التضامن المادي المتوقع. أيضاً روسيا منشغلة بحروب على جبهات عدة سياسية وعسكريّة لا تبدو معها كوبا بالمقارنة مسألة هامة. كما أن انتخاب الشعبوي دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة ربما يخلط أوراق السياسة في واشنطن، ما قد يهدد سياسة التشبيك الدبلوماسي مع كوبا التي اتبعها فريق الرئيس أوباما في إطار سعيه لفكفكة تحالف يسار أميركا اللاتينية الصاعد في العقد الماضي. هذا كله قد يتسبب في ضغوط اقتصادية متعاظمة على البلاد، علماً بأنه من غير المؤكد حتى الآن نجاح مبادراتها الرأسماليّة المهذبة التي رعتها، وإن كان محتماً أنها لن تصل في مداها إلى أن تكون تجربة صين جديدة، بالنظر إلى انعدام الموارد في البلاد ما لم يحدث اختراق ما على صعيد السياحة بالذات، والأمر الذي مفتاحه فقط العلاقة مع الولايات المتحدة.
لكن العالمين بالشأن الكوبي يقولون إن ذلك كله لن يقدر على هدم ما بنته الثورة الكوبيّة في خمسة عقود. ليس لأن كوبا تعرضت لمثل هذه الظروف الضاغطة والهجمات العسكريّة أحياناً فقاومتها وبقيت صامدة شامخة على مرمى حجر من الإمبراطورية الأميركية العاتية، بل لأن الثورة الكوبيّة بَنَتْ كوبا الفكرة والدولة والمؤسسات والبشر، وأعطت الكوبيين تجربة مشتركة في التعامل مع الواقع أشبه ما تكون بتجربة الفلاحين الروس في الحرب العالمية الأولى أو في تجربة الفلاحين المصريين في جيش محمد علي باشا، أي نوعاً من توحد للكتل الشعبيّة في التجارب الطاحنة التي لا بد منها لاجتراح معجزات تكوّن الوعي الذات الجمعيّة في مواجهة العالم. ربما يكون الكوبيون فقراء، لكنهم اليوم - في غالبهم - مفعمون بالكرامة الوطنيّة وحس العدالة، والأمل في غد أفضل، وهذه أشياء لا تتنازل عنها الشعوب الحيّة بسهولة. لم يعد بالإمكان إعادة الكوبيين إلى العبوديّة كما قبل ١٩٥٩ مهما حصل، وهذا ما يبدو أن الأميركيين قد فهموه الآن. ذلك هو تراث فيديل كاسترو الحقيقي.
* باحث عربي