فيديل كاسترو! يرنُّ الاسم في الأذن فيوجف القلب ويراودك ذاك التوق السرمدي إلى الحرية والانعتاق والتحرر. ويخاتلك حسّ الثورة والتمرد والعصيان وأنت الذي ظننت أن أوان الثورة والتمرد والعصيان قد فاتك، وطغت لغة العقل والمصلحة لديك على حماسة الفتوة واندفاعة الشباب، ولم يعد القلب لا بريئاً ولا غضّ الإهاب.
فيديل كاسترو! وتنتفض الذاكرة وتتململ الذكريات. يعود بك الزمن القهقرى، وترجع بك مراكب الروح إلى سالف العصر والأوان، وتنشر أشرعتك مبحراً إلى حيث ترى ذاك الفتى ابن الأحد عشر ربيعاً مُنكبّاً على التهام "مذكرات تشي غيفارا" وكتابه عن "حرب العصابات"، سِفر الثورة المسلحة المقدس في زمانه، وإنجيل استراتيجيات نظرية الـ"فوكو"، بؤرة حرب الشعب. يعبُّ الفتى من خمرة العشق الثوري فيشطح به الخيال إلى جبال سييرا مايسترا وقد توغَّل فيها فيديل كاسترو وارنستو تشي غيفارا ورفاق السلاح، ويرنو قلبه إلى قصص الثوريين وعيونهم التي تقاوم المخرز. فيديل كاسترو! وينشقّ غبار المعارك عن مطر يهمي ليغسل وجه الأرض من دنس القهر والقمع، وتهبّ نسائم الحرية فيأخذك الحنين إلى أعراس النصر واحتفاليات تضج نشوة وفرحاً ورقصاً على أنغام موسيقى السامبا في هافانا مع دخول فيديل وصحبه بلحاهم الكثة إليها مطلع عام 1959.
فيديل كاسترو! ويساورك يقين خِلتَ أنه قد غادرك إلى غربة المنافي وفيافٍ قاحلة لا يزهر فيها إلا الشوك والعلقم والظلام والتوحش. وينهض في خبايا الروح شيء من روح ذاك الفتى يجعل من الثورة عشقاً، ويعيد إليك بصيصاً من الأمل بقسط من العدل وإنصاف ملح الأرض من الفقراء والمُعدَمِين والمساكين والمظلومين والمضطهدين والمستضعفين والمُهَمَّشين والمسحوقين وكل من حلّت به لعنة القهر والاستغلال.
فيديل كاسترو! ويرتسم أمامك الطريق إلى فلسطين غاباتِ ورد وأقحوان وزعتر، وأضرحةَ شهداء، وأعراسَ نصر، وعزيمةَ شعب، ورهباناً ومعابد للثورة.

كانت صورة كوبا تتراءى له كجنة عدن تفيض وعوداً بدعم حركات التحرر


فيديل كاسترو! وتطالعك أيقونة للثورة والأمل المعقود على أقواس النصر الآتي. أيقونة الثورة! عليها يطوي الفتى شغاف القلب ليشتعل بركان من الوجد تؤججه بسمات فيديل كاسترو وارنستو تشي غيفارا وجمال عبد الناصر، فهم أول المشوار وبداية الطريق إلى جورج حبش، وهاشم علي محسن، وحزب العمل الاشتراكي العربي.
فيديل كاسترو! وينتابك الحزن أمام مشهد الرحيل إذ يشدّ قديس الثورة رحاله إلى عالم الأبدية بعد حياة حافلة بالتمرد على الظلم والحصار وعنجهية قوى الاستعمار فضلاً عن إتقانه للعبة الأمم وإجادته فنون الإبحار في متاهات الحرب الباردة. وهو إذ يوصد أبواب العمر خلفه يترك لك إرثاً من المواجهة والثبات والكفاح والإنجازات في مجال التعليم ومحو الأمية والقضاء على التخلف والطبابة الجيدة المجانية للجميع. فيديل كاسترو! ويتملكك الشعور بالفقد وهو يغادرك وفم التاريخ يبلل شفتيه وهو يقص عليك دروساً وعبراً عن استحالة الضعف قوة، والنجاة من شظايا جدار برلين، والصمود في وجه الحصار. لا جَرَم أنّ في ذلك كله ألقاً فاتناً لكل الساعين والطامحين لمقاومة التسلط والظلم وجبروت القوة والحديد والنار.
فيديل كاسترو! ويتناهى إلى أسماع الفتى صوت مارسيل خليفة وهو يغني "يا رفاقي في كوبا الأبية". لم تكن الحرية ضالته التي يجدها في مراتع لعبه وأراجيح العيد ونوارس البحر ولحظات الغرام فحسب، بل كانت الحرية سيمفونية اليسار ونجمته في ليل الظلم الأليل. وكانت صورة كوبا تتراءى له من بعيد كجنة عدن تفيض وعوداً بدعم حركات التحرر. وسِحرُ حرب الشعب الذي أرخى سدوله على اليسار اللاتيني زادَه توهجاً لاهوتُ التحرر والمصالحة التاريخية التي عقدها بين الدين وبين كارل ماركس.
فيديل كاسترو! ويستبد بك الإحساس بأن سؤال الحرية ما فتئ على مدى العمر يقض مضاجع قديس الثورة هذا القادم من بلدة بيران الريفية في شرق كوبا والذي غادرنا ليرتاح بعيداً عنا. وعلى أعتاب طقوس الموت يهمس لك الحزن عن غواية الحرية التي أغوته بالسير في مشواره الطويل. وبقدر ما ظل سؤال الحرية في كوبا كاسترو سؤالاً عن توازنات السلطة والثورة وقيمها، وعن قمعٍ وسجنٍ وسجّانٍ ومنفى، وعن أنينِ مطر وشجر وبشر، فإنه يبقى بعد رحيله معانقاً سؤال اليوم التالي وما تبقى من أحلام.
فيديل كاسترو! ويذكرك الاسم وسط مشاعر الفقد بدمعة أمك، أو بدمع القلب الذي ذرفته حرقة عليها. يغادرك ويثير في القلب أسى ولوعة ويثقل عقلك بالتساؤلات. وهو إذ يغفو في حدائق الحب والورد تسمع صوته هادراً كدأبه أبداً وهو يعلن في مرافعته أمام المحكمة التي حاكمته بتهمة الهجوم الفاشل الذي قاده على ثكنة مونكادا في سانتياغو دي كوبا عام 1953: "أصدروا بحقي ما طاب لكم من الأحكام، فالتاريخ سيعلن براءتي".
* باحث عربي