تعهد وأقرّ الرئيس الأميركي باراك أوباما مؤخراً بتقديم 38 مليار دولار في السنوات العشر القادمة كمساعدات عسكرية لإسرائيل، والذي يعتبر أكبر تعهد من نوعه في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
ومع صعود دونالد ترامب لسدة الحكم فلن يكون بالقرار المفاجئ إن ازدادت قيمة هذه المساعدات. كانت ولا تزال هذه المساعدات لإسرائيل عرضة للانتقاد على الدوام لمساهمتها في إدامة الاحتلال العسكري الإسرائيلي، ولكن يبدو أن المساعدات الأمنية الأميركية للسلطة الفلسطينية والتي تقدر بمعدل 400 مليون دولار سنوياً منذ عام 2008 تقوم أيضاً بالمهمة نفسها والمتمثلة بإدامة الاحتلال الإسرائيلي واستعماره للفلسطينيين وللأرض الفلسطينية.
في العقدين الأخيرين تعهدت الولايات المتحدة الأميركية بتقديم 5 مليارات دولار للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة من إجمالي المساعدات الدولية للفلسطينيين والتي تقدر بحوالى ثلاثين مليار دولار. جُلّ هذه المساعدات توزعت على القطاع الأمني؛ إذ يعمل حوالى نصف موظفي السلطة الفلسطينية في هذا القطاع والذي يحظى بحوالى المليار دولار سنوياً من موازنة السلطة الفلسطينية، وحوالى ثلث المساعدات الدولية توزع على هذا القطاع.
تقوم الولايات المتحدة الأميركية منذ عام 2005 وعبر مكتب المنسق الأمني لإسرائيل والسلطة الفلسطينية "بإصلاح" القطاع الأمني للسلطة الفلسطينية عبر "مهننة" أجهزتها الأمنية وزيادة فعاليتها ضمن مشروع بناء الدولة تحت الاحتلال. وكانت ركيزة هذا "الإصلاح" ونقطته المرجعية تتمثل بتعزيز وتجذير "التعاون والتنسيق" الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية كعقيدة أمنية راسخة بل ومقدّسة. وبالتالي، هذا يعني فيما يعنيه، أن قسماً كبيراً من المساعدات الأمنية للسلطة الفلسطينية (والمحسوبة على الشعب الفلسطيني بالطبع) هي في حقيقة الأمر الواقع مساعدات لإسرائيل ولاحتلالها الكولونيالي. فآخر الأبحاث في هذا المجال أشارت إلى أن حوالى 78% من المساعدات الدولية للفلسطينيين تصب في الاقتصاد الإسرائيلي في نهاية المطاف بشكل مباشر وغير مباشر. وبالتالي، فهذا النوع من المساعدات "المحسوبة" على الفلسطينيين هي لعنة عليهم لأنها تمّول مشاريع المحتل وأولوياته "الأمنية". فالتعاون مع المحتل والمستعر تعني إدامة السطوة والهيمنة لذلك المحتل والمستعمر.
فالجنرال الأميركي كيث دايتون والذي عمل مسبقاً كرئيس لمكتب المنسق الأمني الأميركي لإسرائيل والسلطة الفلسطينية أثنى على "الفلسطينيين الجدد" الذي قام "بصنعهم" وأطرى على حسن أدائهم في قمع الانتفاضات ولتوجيه أسلحتهم نحو "العدو الحقيقي" وليس نحو إسرائيل بإشارة لأولئك المقاومين لإسرائيل واحتلالها. وبالتالي، فقد تحولت السلطة الفلسطينية بفضل هذه المساعدات لقطاعها الأمني لمجرد وكيل أمني لإسرائيل واحتلالها. الإشارات المدللة على ذلك كثيرة خاصة في السنوات الست الأخيرة وخير دليل على ذلك تقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية.
إذ ترفض نسبة كبيرة من الفلسطينيين إن لم يكن أغلب الفلسطينيين موقف ونهج الرئيس الفلسطيني محمود عباس والمتمثل بقدسية التنسيق الأمني مع إسرائيل. لاجئ من مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة أخبرني: "لا مشكلة لدي بالتنسيق الأمني إن كان تبادياً ويسري في كلا الاتجاهين. ولكن ما نراه هو السطوة الإسرائيلية والتبعية والذل الفلسطينية فقط". لاجئ آخر من مخيم بلاطة حاجج بالقول: "التنسيق الأمني قضى على أمننا وقضيتنا وحوّل السلطة لمجرد أداة في يد إسرائيل واحتلالها".

لم تساهم المساعدات الأمنية الأميركية في جعل الفلسطينيين أقرب إلى حريتهم

أضف إلى ذلك أن العديد من الدراسات والأبحاث أشارت إلى أن هذه المساعدات الأمنية للسلطة الفلسطينية قد زادت من "سلطوية وقمعية" السلطة ووضعتها على مسار "الدولة البولسية" القابعة تحت الاحتلال. فتقارير منظمتي العفو الدولية (أمنستي) وهيون رايتس وتش أشارت إلى الاستخدام المفرط للعنف من قبل أجهزة السلطة الفلسطينية في قمع الحريات المدنية والسياسية للفلسطينيين. كذلك فقد قامت مؤسستي حقوق إنسان في صيف هذا العام بتقديم شكوى لمحكمة الجنايات الدولية بخصوص تعذيب المعتقلين السياسيين الفلسطينيين في سجون السلطة الفلسطينية.
وبالتالي، فالمساعدات الأمنية الأميركية على وجه الخصوص لم تساهم في جعل الفلسطينيين أقرب إلى حريتهم، بل أنها ساهمت ودعمت بناء سلطوية قمعية فلسطينية. ما يحتاج إليه الفلسطينيون هو استثمار في التعليم والصحة والبنية التحتية وبناء القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الفلسطيني بدلاً من صرف ملايين الدولارات على أمن المحتل والمستعمر.
وفي هذا الإطار من المهم النظر إلى الإحصاءات التالية المتعلقة بالقطاع الأمني للسلطة الفلسطينية والتي ننشرها ولأول مرة اعتماداً على تقرير غير منشور من إعداد مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة (ديكاف) والتي تحصّلت على نسخة منه. إذ أشار تقرير مركز جنيف (ديكاف) إلى أن 83,276 شخصاً يعملون في القطاع الأمني للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. بكلمات أخرى، لكل 48 فلسطينياً يوجد رجل أمن واحد، وهذه نسبة عالية جداً بكل المقاييس. فعلى سبيل المقارنة، ثمة 406 شرطي لكل مئة ألف أفغاني وحوالى ستة جنود فاعلين لكل ألف أفغاني. في الولايات المتحدة الأميركية ثمة 260 شرطياً لكل مئة ألف أميركي وحوالي خمسة جنود فاعلين لكل ألف أميركي. إلّا أن هذه النسبة العالية في فلسطين لا تعني شيئاً إن لم تتم عنونة الاحتياجات الأمنية للفلسطينيين أنفسهم بدلاً من ضمان أمن المحتل والمستعمر.
كذلك فقد أشار تقرير "ديكاف" إلى أن لدى السلطة الفلسطينية 232 عميداً/بريجيدر جنرال ولدى حماس 80. في المقابل تملك الولايات المتحدة الأميركية 410 عمداء/بريجيدر جنرال موزعين على جيشها وأسطولها البحري والجوي. هذه الأرقام كفيلة بتفسير الحالة الفلسطينية السوريالية.
أضف إلى ذلك واستناداً إلى تقرير ديكاف المشار إليه أعلاه، فإن 65,463 شخصاً من أصل 83,276 يعملون في القطاع الأمني للسلطة الفلسطينية ويتلقون رواتبهم من السلطة الفلسطينية، والمتبقين والبالغ عددهم 17,813 يتلقون رواتبهم من حركة حماس وحكومتها في قطاع غزة. إذ تدفع السلطة الفلسطينية الرواتب لحوالى 31,913 عنصراً أمنياً في الضفة الغربية وحوالى 33,550 عنصراً أمنياً في قطاع غزة. وبالتالي، ففي عام 2015 مثلاً أنفقت السلطة الفلسطينية ثلث موازنتها على القطاع الأمني وحوالى 78% من ثلث الموازنة هذه صرفت على الرواتب والأجور والامتيازات. وفي قطاع غزة لم يختلف الأمر كثيراً إذ قامت حركة حماس بتوزيع 78% من موازنتها البالغة 261 مليون دولار للقطاع الأمني كرواتب وأجور وامتيازات أيضاً.
ولكن وفي ظل حالة الانقسام الفلسطيني المتجذر تستمر السلطة الفلسطينية بدفع رواتب 33,550 عنصراً أمنياً في قطاع غزة في ظل غيابهم وتغيبهم عن أداء مهامهم ووظائفهم. ولكن تبلغ تكلفة هذه الفاتورة لوحدها حوالى 40 مليون دولار شهرياً من موارد السلطة الفلسطينية. بكلمات أخرى، هذه الجزئية فقط كلّفت فاتورة الرواتب للسلطة الفلسطينية في السنوات العشر الأخيرة حوالى 4.8 مليار دولار. يا حبذا لو التفتت قيادات حركتي فتح وحماس لهذه المبالغ الطائلة. ولكن من دون أدنى شك فهم غير معنيين في ذلك؛ فما يهمهم هو إدامة هذا التشرذم والانقسام الفلسطيني والذي يضر في الكل الفلسطيني في مسيرة الفلسطينيين للحرية والعدالة والمساواة.
تدلل هذه المعطيات على أن الاحتلال العسكري الإسرائيلي والسلطوية القمعية الفلسطينية سيستمران في الاستدامة طالما أن المساعدات الدولية تستمر في تغذيتهما بالشكل والإطار الحالي. المطلوب هو إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي فوراً ليصبح لكلمة الأمن معنى أوضح وأدق وأعدل، والمطلوب أيضاً هو إعادة خلق وظائف ومهام السلطة الفلسطينية ومنظومة المساعدات الدولية من أجل تحقيق السلام العادل وإحراز الحقوق وإحقاق الأمن والعدالة والمساواة. عدا ذلك سيكون مضيعة للوقت وذراً للرماد في العيون.
* مدير البرامج في شبكة السياسات الفلسطينية، ومحاضر جامعي في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف.