في نقاش الأزمات والصراعات في منطقتنا، يشرح أكثر المحلّلين أنّ «البنية التحتية» للسياسة والمصالح الدّولية في الاقليم هي ــــ قبل كلّ شيء ــــ حسابات النّفط والطّاقة؛ من حرب سوريا الى الأزمة القائمة في الخليج.
أهميّة النّفط بالمعنى الدّولي، وهذا أساسي لفهم المسألة، لا تقتصر على طبيعته كـ«سلعة» لها قيمة تجارية عالية، وينتج عن تبادلها رساميل هائلة تطمح القوى الكبرى للاستحواذ عليها والاستفادة منها؛ بل إنّ الأهميّة «الاستراتيجية» للنفط ــــ كمحرّكٍ لا غنى عنه لاقتصاديات صناعيّة لا تملك احتياطات طاقّة خاصّةً بها ــــ تعطي الاحتياطات النفطية في الشرق الأوسط، وكامل الاقليم المحيط بها، أهميّة سياسية (من زاوية الهيمنة الدولية والقبض على خناق «المنافسين المحتملين») لا تقلّ عن قيمة الرساميل النّفطية وصفقات السّلاح والتجارة.
لهذا السبب تحديداً اكتست الهيمنة الأميركية في الخليج والمنطقة بطابعٍ خاصّ، عنيفٍ ولا يقبل المساومة. وكما يذكّرنا جورج قرم، فإنّ السّبب الوحيد لوجود عقد الدّول «السيّدة» اسمياً على ساحل الخليج اليوم هو أنّنا لم نعد في القرن السابع عشر، حين كانت القوى الاوروبية قادرة ببساطة على اخراج السكّان المحليّين من المعادلة، وقتلهم وتهجيرهم واستغلال الموارد الثمينة بشكلٍ مباشر. ولكنّ النتيجة المرجوّة هي ذاتها: أن تتحكّم اميركا بمستوى انتاج النفط وتسعيره، أن تعود هذه الأموال النفطية الى الاقتصاد الغربي على شكل استيرادٍ واستثمار، وأن يخدم النّفط العربيّ مهمّات محدّدة على مستوى النظام العالمي. حين يكون الهدف هو توظيف النفط العربي، بشكلٍ كامل، ضمن نظام الهيمنة العالمي، فإنّ الوجه الآخر لهذه المعادلة هو أنّ هذه الثروة يجب أن تخرج من يد السكّان المحليّين الذين يعيشون فوق هذه الاحتياطات الطاقوية بشكلٍ كاملٍ ايضاً، وأن تُدار وفق حساباتٍ لا علاقة لها بالمصالح السياديّة (فالاثنان، كما سنشرح أدناه، يتناقضان).
حين تستعرض التّاريخ السياسي للنفط خلال العقود الماضية في العراق وليبيا وغيرها تفهم قصور «القراءة التقنيّة» لتطوّر هذه الصّناعة، وأنّ عوامل مثل حجم الانتاج، وأي احتياطات يتمّ تطويرها وأيٌّ يُمنع استخراج النفط منها، وصولاً الى امتلاك التكنولوجيا و«السّماح» للدّول باستغلال النفط في أرضها، كانت دوماً قرارات سياسية في العمق (هناك وثائق أرشيفية أميركية من الستينيات والسبعينيات، من بين أمثلةٍ كثيرة، تتكلّم بوضوحٍ عن جهود الخارجية الأميركية لمنع شركة «ايني» الايطالية من العمل في العراق، وخرق الحظر التكنولوجي الذي فرضته الشركات الغربية الكبرى، وتطوير حقول الرميلة والفاو وغيرها «رغماً عنها»). المعادلة، نحاجج هنا، كانت دوماً بين نمطين مختلفين جذرياً لاستغلال الثروة: نمطٌ «سياديّ»، ينظر الى احتياطات الطاقة حصراً من زاوية الحاجات المحليّة، ويسعى للتحكّم بها وبسبل استغلالها وانفاق عائداتها، ونمطٌ «تابع» يقبل بتسليم الانتاج النفطي الى إرادة خارجيّة مقابل أن تتدفّق العائدات بالعملة الصعبة على النّظام المذكور ــــ ويكون انفاق هذه العائدات واستثمارها، بالطّبع، ضمن ترتيبٍ محدّد. نُحاجج هنا بأنّ هوس القوى الغربية ومحدّد الصّراع مع الأنظمة لم يكن حول شكل النّظام أو رفع الانتاج في الشّرق الأوسط أو خفضه، بل حول هذه النقطة تحديداً، وهو النّقاش الذي اضمحلّ تقريباً ــــ على المستوى العربي أقلّه بعد هزيمة أكثر الأنظمة التي جرّبت طريقاً سيادياً في الاقليم، وصعود النمط التابع في الخليج كموزّعٍ أوحد للثروة (والثقافة والايديولوجيا والدّين).

الاستيراد والتصدير

في أساسيات الاقتصاد أنّك حين تصدّر سلعةً أو خدمةً، فأنت تخرجها من درب الاستهلاك المحلّي وترسلها الى بلدٍ آخر ليستفيد منها مقابل عملة صعبة، والسّبب الوحيد الذي يدفعك للتصدير هو لكي تتمكّن ــــ بدورك ــــ من استيراد ما لا تقدر على انتاجه باستخدام احتياطاتك النقدية. من هنا، فإنّ أسئلة كـ«لماذا نصدّر» و«لماذا نستورد» مرتبطةٌ بشكلٍ وثيق، وهي أهمّ الخيارات في أيّ خطّة تنموية. حين تصدّر النّفط أو ثروةً طبيعيّة، فإنّ الخيار يصبح ثلاثياً، بين أن تصدّر هذه الطّاقة وتخسرها لصالح غيرك مقابل مال، وبين أن تستخدمها داخلياً لانتاج القيمة والسّلع، وبين أن تبقيها في باطن الأرض وتحتفظ بها للأجيال القادمة. ومن يعتمد على تصدير نفطه باستمرارٍ لتمويل الاستيراد ونمط حياةٍ استهلاكي (بدل أن تنفقه لتأسيس صناعاتٍ ونشر التعليم حتى تغتني عن الاستيراد، أو حتّى تخلق مصادر انتاج مستدامة لا تقوم على تسييل الثروة الكامنة) هو تماماً كمن يختار أن لا يعمل وأن يُنفق من إرث أبيه. الرّخاء الظاهري الذي يجلبه الانفاق يعطيك شعوراً زائفاً بالنّجاح، طالما أنّه هناك مالٌ في الخزانة، وتبدو أي مهنة «عاديّة» أو تعلّم صنعةٍ اقتراحاً غير مجدٍ. وحين يزيد عدد أولادك وتتضخّم حاجاتك، تصبح مجبراً على السّحب من الرّصيد المتبقّي بأقصى وتيرةٍ ممكنة.
فكرة أنّ كلّ دول الخليج، من السعودية الى الكويت، تنتج النّفط بالحدّ الأقصى الممكن تقريباً، وتعتبر بلاداً لا يزيد عدد مواطنيها على مئات الآلاف أنّه من الطبيعي أن تنتج ثلاثة ملايين برميل يومياً، هو دليلٌ ساطع على أنّ انتاج النفط في بلادنا لا يخضع مطلقاً للمعايير والحاجات المحلية، بل يسدّ دوراً في الخريطة العالمية للطاقة (وأن تصبح هذه الدّول «مضطرّة» الى انتاج هذا القدر الهائل لتغطية ميزانيتها واستهلاكها، بل وتقع في عجزٍ حين تنخفض أسعار النفط، هو مثالٌ أفدح عن «النظرية التنموية» التي تمارسها هذه الأنظمة). للمقارنة، لو أردنا أن نضع ايران ــــ بعدد سكّانها ــــ في ما يشبه «النّموذج السّعودي» اليوم، لكان عليها أن تنتج أربعين مليون برميلٍ من النفط يومياً، أي أكثر من ثلث الانتاج العالمي أو الانتاج السعودي مضافاً اليه انتاج روسيا واميركا وفنزويلا والكويت، وستكون في عجزٍ ماليٍّ رغم ذلك (عدد سكّان السعودية هو ربع سكّان ايران، وانتاج السعودية يفوق الانتاج الايراني مرتين ونصف؛ ولكنّ حجم المستوردات السنوية لكامل الشعب الايراني تمثّل ــــ في الوقت نفسه ــــ أقلّ من ثلث قيمة الاستيراد في السعودية «الصغيرة»). ولعلّ الحجم السكّاني لايران هو ما جعلها، في السبعينيات، من أولى الدّول النفطية التي واجه نمطها «التابع» أزمةً وانهياراً رغم ارتفاع الانتاج والأسعار (حين خُلع السنوسيون في ليبيا لم يكن الانتاج الليبي قد أصبح مهمّاً على المستوى العالمي بعد، وعام 1958 في العراق لم تكن عائدات النّفط كبيرةً لدرجة تشكيل اقتصاد «ريع»). وسجال الثروة والسيادة يطبع كلّ المواجهات الكبرى في تاريخ ايران القريب، من ثورة 1905 الى مصدّق وتأميم النّفط وصولاً الثورة الاسلامية، وهو صراعٌ بين نموذجٍ «تابع» وآخر يرى أنّ مفتاح التنمية يبدأ بالسيطرة على الثروة الوطنية وتوجيهها نحو الدّاخل، ويربط بين الهيمنة الخارجية وبين التخلّف وهدر الموارد، ويعتبر أنّ عدوّه ليس النّظام الحاكم فحسب، بل القوة الأجنبية التي تقف خلفه.

الغاز الطبيعي كمثال

في إحدى الدّراسات القليلة الجادّة عن الظروف السياسية لنشوء صناعة الغاز القطري ونظام الطاقة في الخليج، يكتب الباحثان جيم كراين وستيفن رايت (الدراسة نشرتها مدرسة لندن للاقتصاد في اذار 2014 بعنوان «قطر ترتقي فوق اقليمها: الجيوسياسية ونبذ السوق الخليجية للغاز») قصّة تحوّل الثروة القطرية الى لاعبٍ في السوق الدولية للغاز، بدلاً من أن يستخدم هذا المورد لتنمية اقليمٍ هو في أمسّ الحاجة اليه. كلّ دول الخليج في حاجةٍ متزايدة للغاز، والغاز القطري الرّخيص والوفير يشكّل «فرصةً» لها كلّها، والجغرافيا قريبة وسهلة. يقول كراين ورايت أنّ انبوباً خليجياً لنقل الغاز القطري من حقل الشمال كان سيكلّف، في بداية التسعينيات، أقلّ من ملياري دولار تتقاسمها الدّول الستّ، ويوصل أكثر من 30 مليار متر مكعّب من الغاز سنوياً (وهو رقمٌ هائل بمقاييس تلك المرحلة، يغني عن احراق النّفط لانتاج الكهرباء ويوفّر طاقةً رخيصة لمختلف الصناعات). للمقارنة، يضيف الكاتبان، كلّفت المرحلة الأولى من مشروع تسييل الغاز القطري وبيعه في آسيا الجانب القطري وحده أكثر من أربعة مليارات دولار، وقدرته هي أقلّ من ربع سعة الأنبوب الذي لم ينفّذ (وانت حين تبيع الغاز المسال، فإنّ ثلثي قيمته أو أكثر ــــ بحسب السّعر العالمي ــــ تذهب كلفةً لتسييله ونقله، ثمّ إعادته الى حالته الغازية، فلا يكون السّعر الفعلي للغاز الذي يتلقّاه البلد المنتج wellhead price الّا قسماً بسيطاً من سعر البيع).
على الجّهة الأخرى، تشرح الباحثة الايرانية الهام حسن زادة في اطروحتها الجامعية عن تصدير الغاز في ايران (حسن زادة تتبوأ اليوم منصباً هامّاً في صناعة النفط الايرانية) كيف تحوّل اهتمام المخططين الايرانيين من تصدير الغاز الى استخدامه داخلياً مع سقوط الشاه وقيام الثورة. كان الشّاه يحاول تطوير موارد الغاز في ايران ولكن بنيّة تصديرها والحصول على عملةٍ صعبة يستخدمها لتمويل الاستيراد والمشاريع، وقد قام فعلاً بتصدير الغاز الى الاتحاد السوفياتي وحاول بيعه الى اوروبا في مرحلةٍ لم يكن الغاز الطبيعي له بعد قيمة سوقية أو استخدام واسع في العالم. النّظام الثوري، بالمقابل، قام بالغاء أكثر عقود التصدير وخطّط لبناء صناعاتٍ حول ثروة الغاز ووضع أهدافاً بعيدة المدى من نمط التوقّف عن تصدير النفط الخام، وانهمك في بناء شبكة استهلاكٍ داخلية هائلة (وقد تمّ انجاز أكثرها فيما الحرب العراقية ــــ الايرانية تدور). العلاقة هنا بين التحوّل السياسي ونمط استخدام الثروة واضحة ومباشرة.
بالمعنى الاقتصادي الحسابي المباشر، من المفترض أن تكون المعادلة بسيطة. بأسعار البارحة، مثلاً، يمكنك شراء الغاز (مسالاً وواصلاً الى اليابان) بما يقارب الـ25 سنتاً للمتر المكعّب الواحد. من جهةٍ أخرى، حين تستخدم ايران الغاز في الدّاخل، فهو يذهب أساساً الى ثلاثة استخدامات: امّا أنّ تضخّه داخل آبار نفطيّة حتى يزداد الضغط وتستخرج كميات اضافية من النفط كانت ستظلّ في باطن الأرض؛ في هذه الحالة، يقدّر الخبراء أنّ كلّ مئة مترٍ مكعّب من الغاز ستنتج لك برميلاً اضافياً من النّفط، وهو يوازي تماماً أن تبيع الغاز مباشرةً بسعر نصف دولارٍ للمتر المكعّب (حين يكون سعر النفط خمسين دولاراً، أو 46 سنتاً بسعر البارحة) وهو أكثر بكثيرٍ من أيّ عائد تصدير ــــ وانت لا تخسر هذا الغاز، بل تخزّنه في حقل النّفط، وتستخرج لاحقاً 80% منه. الاستخدام الثاني هو أن تحرق هذا الغاز لانتاج الكهرباء أو في المنازل والسيارات، وهنا المعادلة مشابهة، فكلّ مترٍ من الغاز يستبدل لتراً من السوائل النفطية، تصدّره الى الخارج وتبيعه بنصف دولار. فيما الطريقة الثالثة لاستخدام الغاز هي كوقودٍ لصناعات بتروكيمياوية ومعدنية، وهنا العائد أعلى (حين تكون الصناعة وطنية). بكلمات أخرى، لو كانت ايران تصدّر كامل غازها على طريقة الشاه، لحصلت ربّما على ثلاثين أو أربعين مليار دولارٍ في السنة (توازي أقل من 500 دولار لكلّ مواطن، أو ثمن هاتفٍ ذكيّ حديث)، ولكنها لما قدرت على تصدير برميلٍ واحدٍ من النّفط، ولاضطرّت لاستيراد ملايين البراميل الاضافية، يومياً، لتغطية حاجات استهلاكها.
التنمية والسيادة، وبخاصّة في دولٍ تعوم فوق ثروات استراتيجية، لا ينفصلان، ولهذا السّبب فإنّ تحسين النّظام التّابع لا يمكن أن تنجزه «إصلاحات» أو سياسات اقتصادية «أفعل»، بل هو يستلزم ــــ بالمثل ــــ تغييراً سياسياً. حكومات الخليج لم ترفض بناء شبكة غازٍ اقليمية بسبب المناكفات القبلية والنزاع على واحة في الصحراء، بل لأنّها أساساً تملك نظرةً قاصرة عن التنمية والثروة والأولويات، ولا يضير سلالاتها أن تحرق مليارات الدولارات هدراً، ثمناً لخلافٍ عائليّ مع قطر. لا أدلّ على ذلك من حالة محمّد بن سلمان الّذي، حين واجه بوادر أزمة تشبه أزمة شاه ايران، وظهرت نتائج غياب التنمية والتسرّب المستمرّ للثروة من البلد الى خارجه، قرّر أنّ الحلّ يكمن في بيع شركة النفط الوطنية ــــ «البيت» الذي ورثه عن والده ــــ واستثمار ثمنها في «وول ستريت». شعار «نفط العرب» للعرب لم يختفِ لأنّه خطأ، أو لأنّه لم يعد مركزياً، بل ببساطةٍ لأنّه هُزم وطُمس وأخرجته الهيمنة من السّجال.