رجل طاعن في السن، قضى حياته ينقّب بين الأوراق الصفراء عن آية هنا وحديث هناك، وتراث متراكم من الأحكام الشرعية، ليخرج بعدها بتعليق أو تحديد لفتوى أو على فتوى شرعية.
رجل خارج الزمن الذي يعيش فيه، وداخل جغرافيا الحيّز الضيق لأسرته أو مجتمعه العلمي، يحيا دون أي فعلٍ منتج ومؤثر. ولعلّ أبلغ الأثر لديه أن يعيد توليد أناس يشبهونه، أو يردّ على سؤال يفد عليه لتحديد التكليف في الطهارة والنجاسة، والعقود والإيقاعات، وما يحفظ أداء العبادات، ليس إلّا...
هكذا أرادوه، وهكذا صوروا لنا المرجع والمرجعية الإسلامية. وهذه بالواقع، هي معركة تنميط صورة الحياة الإسلامية، وذلك عبر تصويرها كشيء ما خارج الحياة، أو إن شئت فقل: إسلام ضد إنسانية الإنسان، وواقع ضد الحياة الدنيا.
والعجيب هنا... أن الأمر إن كان على هذه الصورة، فلِمَ الخوف من المرجعية والفتيا؟! لمَ الخوف من الحكم الشرعي، والتكليف الشرعي والحاكم الشرعي؟ إن كان المرجع هو ذاك الرجل المغلول الذي لا حول له ولا قوة، فعلامَ التسابق على فهم دوره ووظيفته وموقعه من الناس، من دوائر أقل ما يقال في حجمها أنها كبرى.

واضح أن بعض التجاب الفردية لعلماء دين تؤشّر لنحو من التكاسل الحيوي في استنهاض الأمة، وحفظ تاريخها وذاكرتها ووعيها وموقعها. لكن الأمور لا تقدّر بشاهد هنا أو مؤشر هناك. إن الأمور والظواهر الكبرى إنما تُطلق في حقها الأحكام بعد دراسة موقعها التاريخي في وجدان وعقل الشعب والأمة التي تولّدت منها. والمرجعية الدينية كصيغة تدبيرية لحياة المسلمين، ارتكزت إلى قواعد العلم، والكفاءة، والتدبير، والتقوى. بل ارتكزت في الواقع الشيعي إلى الوكالة العامة لغيبة المعصوم، إنما تؤشّر إلى عمق إيماني في حياة أهل الدين والإيمان. وهي لا تهتز بفعل التشويه الصادر عن دوائر فرض القرارات وتطويع الشعوب. ولا يمكن أن تعاني من أزمة بفعل التشويش والشبهات التي تمارسها سلطات فكرية وثقافية علمائية، تعمل على إخراج الفعل الديني عن واقعه الريادي بقيادة الجماعة وشؤونها اليومية.
ولنا في هذا أكثر من دليل وبرهان، منه ما يعود للتاريخ القديم، ومنه ما يعود للمسار العام لدور المرجعية والفتوى وثقافة الحكم الشرعي، ومنه ما سنقتصر بلفت النظر إليه، سواءً منه ولاية الفقيه المرجع وثقافة التكليف الشرعي عند الإمام الخميني – قده -، واستمرارية هذا الخط.
أو مرجعية الفقيه الرشيد السيد السيستاني ودور الفتوى في مواجهة الاحتلال، وكسر الهرطقة التكفيرية، واستعادة حيوية العراق وشعب العراق الذي لطالما عانى من سياسة التيئيس والتهميش. والذي ما أعادت إليه الروح الخلّاقة إلا ثقافة الفتوى والتكليف الشرعي.
إن كل هذا يفضي للقول: إن الفتوى هي المسار الأكثر حيوية وفاعلية في حياة المسلمين ومنها يتبلور موقع ودور المرجعية كما الولاية.
* رئيس معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة