صدر قبل أشهر قليلة كتاب جورج فريحة، «مع بشير: ذكريات ومذكّرات». وجورج فريحة (المُتزوّج من ابنة خال بشير، موريس الجميّل -- و«العائلة» في شعار الكتائب «الله - الوطن - العائلة» لا تعني إلا عائلة الجميّل.
ويروي فريحة أن بشير أراد تفادي تعيين قريبه، فريحة، في منصب لإدارة مرفأ جونيه «كي لا تطلع ريحتك» — كما قال له — لكن قام بتعيين «نسيب آخر» له، ص. ١٠٢)، كان من فريق ثلاثي شكّل «العقل» الاستشاري لبشير (وضمّ معه سليم الجاهل وأنطوان نجم، لكن دور أنطوان نجم، الذي لا يظهر في الإعلام، والذي كان يكتب باسم «أمين ناجي»، لأن وظيفته في الدولة اللبنانيّة كانت تمنع عليه المجاهرة بحزبيّته، هو الأبرز بين الثلاثة، وصاحب عقل طائفي مريض). والفريق الثلاثي، كما لا يخفي فريحة في روايته، كان من أنصار التحالف الوثيق مع العدوّ الإسرائيلي (وهذا الفريق نفسه كان الوحيد المُعارض لترشيح بشير الجميّل للرئاسة في عام ١٩٨٢ بسبب صغر سنّه ورفض الجمهور الإسلامي له يومها). وإذا ما كان هناك مفاجأة في الكتاب — وهناك أكثر من مفاجأة — فهي في هذه الصفاقة في التعبير عن إيمان الكاتب بضرورة التحالف مع العدوّ الإسرائيلي، ولوم مشاكل لبنان على تخلّي لبنان الرسمي عن «الحليف» الإسرائيلي في عهد أمين الجميّل.
وفريحة صاحب المشروع التقسيمي المُبكّر للجامعات في لبنان: فمشروع بشير الجميّل الكياني (كما يظهر بوضوح في الوثائق الأميركيّة المُفرج عنها) ينقسم إلى مرحلتيْن زمنيّاً: زمن المشروع التقسيمي الذي استمرّ منذ بداية الحرب حتى صعود الليكود في عام ١٩٧٧، عندما انتشى الطموح الانعزالي. كانت القوّات اللبنانيّة تحلم بتأسيس دولة انقساميّة متحالفة مع العدوّ الإسرائيلي من المرفأ إلى جسر المدفون. لكن صعود أرييل شارون وزيادة المساعدات الإسرائيليّة (ومن بعدها الأميركيّة بعد صعود رونالد ريغان في عام ١٩٨٠) قدّم لهذا الفريق فرصة الاستيلاء على كل لبنان (هذا ما عناه الشعار السيّئ الذكر، «١٠٤٥٢ كلم مربّع») من خلال اجتياح إسرائيلي شامل للبلد. وجورج فريحة بدأ مشروع التقسيم الجامعي عبر إنشاء فرع (غير مُرخّص في البداية) للجامعة الأميركيّة في بيروت، وتلاه فرض بشير الجميّل تقسيم الجامعة اللبنانيّة (لا ضيرَ طبعاً من فتح فروع للجامعة اللبنانيّة على أن تكون هذه الفروع وفق مشروع وطني شامل ومرتبط بخصائص المناطق — كما أن فروع جامعات كاليفورنيا في المناطق الزراعيّة تقدّم اختصاصات زراعيّة — وليس على أساس طائفي محض، كما أراد بشير).
وقد ظهر فريحة على شاشة «أو.تي.في» وعلى شاشة «إم.تي.في» للترويج لكتابه مع أن الكتاب تعرّض لمقاطعة من قبل آل الجميّل، لأن المؤلّف فضح للمرّة الأولى ما لم يكن خافياً في السرّ: إن خلافاً عائليّاً وشخصيّاً حادّاً بين بيار الجميّل (الجدّ) وبين موريس الجميّل (شقيق زوجة بيار الجميّل) هو الذي أدّى إلى استقالة موريس من الحزب في عام ١٩٧٠ (ينحاز المؤلّف إلى صف حميه في الخلاف). لكن رواية فريحة غير صحيحة: لم تكن رئاسة الجمهوريّة في عام ١٩٧٠ «في متناول» (ص. ١٦) موريس الجميّل لولا معارضة بيار الجميّل، حسب ظنّه. لم يكن وارداً أصلاً وصول موريس إلى الرئاسة في ذلك العام لسببيْن: ١) لم يكن وصول مرشّح حزب الكتائب إلى الرئاسة وارداً في ذلك الزمن، لأنه كان مرفوضاً بقوّة من قبل الجمهور الإسلامي واليساري والقومي العربي وحتى المسيحي، وكان ترشيح بيار الجميّل الموسمي للرئاسة يُعتبر مزحة فقط. ٢) لم يكن موريس الجميّل بالرغم من تحدّثه المُستمرّ عن العلوم والإنماء (مِن منجزاته تدشين مهرجان الزهور في بكفيّا) يُؤخذُ كثيراً على محمل الجد من زملائه، وكانت خطبه في المجلس النيابي تُقابل بالهزء، وكان شديد التألّم من ذلك.
ويكشف الكتاب عدداً من الحقائق التي كانت مجهولة، مثل التعاون الوثيق بين إدارة الجامعة الأميركيّة وحزب الكتائب اللبنانيّة. يروي فريحة كيف أن حل مجلس الطلبة في الجامعة (والذي كان واقعاً تحت نفوذ الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة) في عام ١٩٧١ كان نتيجة خطة من بشير الجميّل: الخطّة اقتضت بأن يقصد زعران حزب الكتائب الجامعة ويفتعلون اشتباكات مع الطلّاب المناوئين، ما يعطي ذريعة للجامعة لحلّ مجلس الطلبة، وهذا ما جرى (ص. ٢٤). وتلى ذلك إجراء انتخابات (قد تكون الإدارة زوّرتها) عزّزت من تمثيل «الرابطة اللبنانيّة» المحسوبة على قوى اليمين الانعزالي. ويورد الكاتب ببساطة شديدة، تكاد تكون كلاماً عرضيّاً، أخبار إرسال زعران الكتائب إلى المدارس والجامعات من أجل افتعال الاشتباكات والاضطرابات (والذي عاش فترة ما قبل الحرب يتذّكر ذلك). وكان جوزيف أبو عاصي (مرافق بيار الجميّل الذي أدّى مقتله -- على يد المخابرات الأردنيّة على الأرجح — إلى البداية الرسميّة للحرب الأهليّة في عين الرمّانة) بطلاً من أبطال زعران بشير في الضرب والاعتداء (ص. ٤٧).
وتناقض رواية فريحة الكثير من الروايات الرسميّة للكتائبيّين عن نقص في التسلّح وعن أن الحاجة الماسّة إلى السلاح هي التي دفعت بميليشيات اليمين للارتماء في أحضان إسرائيل (هذه رواية جوزيف أبو خليل الخياليّة عن رحلته إلى عرض البحر وزيارة فلسطين المحتلّة من دون تخطيط مسبق والوقوع بالصدفة على قادة العدوّ وهم يتجوّلون على شاطئ حيفا حاملين صناديق السلاح الموعود). يقول فريحة عن حقبة ما قبل الحرب (عندما كان بشير يُشدّد على ضرورة التسلّح وإنشاء منظمّات عسكريّة) ما يلي: «وكانت الأسلحة تتدفّق على الموانئ غير الشرعيّة من بلدان أجنبيّة عديدة» (ص. ٣٨). وكانت الخطّة (الإسرائيليّة ـ الأميركيّة) واضحة: فقد كان السلاح يُوزّع على المناطق المحيطة بالمخيّمات الفلسطينيّة (ص. ٤٠) من أجل جرّها إلى اشتباكات أدّت فيما بعد إلى إشعال الحرب الأهليّة.
والأستاذ الجامعي، فريحة، لا يتورّع عن الزهو بقصّة إنشاء فرع الأشرفيّة للجامعة الأميركيّة في بيروت. يقول إن الجامعة رفضت طلب فتح فرع منفصل لها في «الشرقيّة» فما كان من بشير إلّا أن قصف حرم الجامعة في بيروت «الغربيّة»، ولما لم ترضخ إدارة الجامعة له، هدّد بمزيد من القصف وبإقفال الجامعة الأميركيّة بالقوّة (ص. ٦٨). وعندما فشل اجتماع بين رئيس مجلس أمناء الجامعة وبين بشير الجميّل وداني شمعون، قصف بشير الجامعة مرّة أخرى ما أوقع جرحى، بينهم ابن نائب رئيس الجامعة، جورج حكيم. عندها فقط رضخت إدارة الجامعة لمطالب الكتائب (ص. ٦٩). ولم تختلف قصّة فتح فروع للجامعة اللبنانيّة في المناطق الخاضعة لنفوذ ميليشيات إسرائيل، إذ أن بشير استدعى بطرس ديب وطلب منه التوقيع على قرار مُعدّ. وافق ديب من دون طول نقاش، وقال: «أنا رجل شبه مريض... لا أحتمل صحيّاً دخول صندوق سيّارة أو ما شابه. لذلك أرجو أن تعرض عليّ ما تشاء بخصوص تفريع الجامعة» (ص. ٧٧). هذه الحقائق عن مجرم الحرب، بشير الجميّل، تغيب عن وثائقيّات زمن «١٤ آذار» عنه. ويجب الأخذ باحتمال أن تكون القوّات اللبنانيّة هي التي قتلت مالكولم كير، رئيس الجامعة في عام ١٩٨٤، الذي كان يريد أن يُغلق فرع الأشرفيّة للجامعة. ويعترف فريحة أن بشير فتح «كرخانة» من أجل جباية المزيد من الأموال (ص. ١٠٥): أي أن بشير الجميّل مارس مهنتيْن في آن في سنوات الحرب، قائد ميلشيا وقوّاد.

أضاف قائد الجيش
فكتور خوري أنه علينا
أن نحارب سوريا علناً


لكن هناك قصّة طريفة تُروى في الكتاب. كيف أن بشير الجميّل تلقّى رسالة شخصيّة من الرئيس الأميركي رونالد ريغان، فـ«جُنّ جنونه» فرحاً بتسلّم الرسالة، بحسب وصف فريحة نفسه. أمر بشير بجمع كل الفريق الاستشاري المعني بالشأن الأميركي برئاسة شارل مالك. المُضحك أنه بعد عمل ساعات اكتشف مالك وصحبه أنهم لا يستطيعون صياغة رسالة بالإنكليزيّة (أي أن «كاتب» شرعة حقوق الإنسان بالإنكليزية عجز عن كتابة رسالة). عندها، اقترح عليهم مالك استدعاء سيسيل حوراني (شقيق ألبرت حوراني)، وهو كان أستاذاً متقاعداً وكان يساعد مالك في صياغة خطبه في الأمم المتحدة. وسيسيل هذا ألّف في ما بعد في عام ١٩٨٤ كتاباً اسمه («الرحلة غير المنتهية»)، وقد صرّح فيه عن تعصّب أعمى لسعد حدّاد وللاحتلال الإسرائيلي للبنان. لا، وتبلغ القحّة بسيسيل هذا أن يتهم سليم الحص بكراهية الطائفة المارونيّة بحالها بسبب معارضته لسعد حدّاد وجيشه (ص. ١٨٠، من كتاب حوراني، وسيسيل هذا كان مستشاراً لبورقيبة في سنوات جهره بالصلح مع إسرائيل، كما أنه أصبح في سنواته الأخيرة داعية للنظام الأردني). وقد أُعجب الجميّل بسيسيل إلى درجة أنه طلب من فريحة أن يعتقله (بحسب ما روى في مقابلة الـ«إم.تي.في»)، ثم جعله — برضاه — مستشاراً له لشؤون مصر والعراق وإسرائيل و«دول أخرى» (ص. ١٢٣ من كتاب فريحة). (وآراء حوراني واضحة في كتابه المذكور أعلاه، فهو في الوقت الذي ينبذ فيه السلاح الفلسطيني، يتفهّم كيف أن اليهود ينضمّون حتى إلى منظمّة «شتيرن» الإرهابيّة (ص٤٦ من كتاب حوراني)، وهو يرفض فكرة أن تكون دولة إسرائيل طامعة بأرض جنوب لبنان مع أن بن غوريون نفسه أخبره أن مرجعيون — مسقط رأس عائلته — تقع في «أرض إسرائيل» (ص.٥٨ من الكتاب نفسه). الطامة أن حوراني هذا اختير من قِبل الجامعة العربيّة كي يرأس المكتب العربي في واشنطن في الأربعينيات كي يشرح القضيّة الفلسطينيّة.
والكتاب يفيد في تأريخ مرحلة مشينة من الزمن اللبناني المعاصر، لأن الكاتب لا يُخضع نفسَه للمراقبة الذاتيّة التي تفرض تكاذباً على طريقة خطاب «١٤ آذار» بأن «إسرائيل عدو»، فيما هم منخرطون بقوّة في مشروعها. لا، فريحة يروي كيف أن بشير زار القصر الجمهوري في بعبدا في ١٣ كانون الثاني ١٩٨٢ والتقى بالياس سركيس وفؤاد بطرس وجوني عبده وأعلمهم بقرار إسرائيل باجتياح لبنان. كيف كانت ردّة فعل لبنان الرسمي يومها؟ يقول فريحة: «فصفّق بعض الحاضرين قائلاً: أتانا الفرج. وبدا السرور على الرئيس سركيس مُشيراً على جوني عبده بالتنسيق مع بشير» (ص. ١٤٧). إن هذه الواقعة، مثل غيرها، تُعزّز الفكرة بأن لبنان وتركيبته مُشوّه لأنه خلافاً لبلاد عانت من احتلال أجنبي (مثل فرنسا تحت الحكم النازي أو الجزائر تحت الحكم الفرنسي) لم يجرِ حساباً وعقاباً لطاقم المتعاملين والمتعاونين مع الاحتلال الإسرائيلي، والعمود الفقري للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي اتبع سياسة الحلم والغفران حتى مع أتباع جيش لحد. (بالمناسبة، إن الكتاب يناقض روايات جوني عبده الكاذبة، بما فيه نفيه أن يكون قد احتلّ موقعاً أمنيّاً في حزب الكتائب في حرب السنتيْن، ففريحة يقول إنه كان قائداً «للشعبة الثانية» في الحزب في سنة ١٩٧٦(ص. ١٧٨)، كما أن شارون يتحدّث عن اجتماعات عديدة له مع جوني عبده (ص. ٢١٨) فيما لا يزال عبده، الذي حوّل منزله إلى بيت مضافة لشارون، ينفي أن يكون قد اجتمع بشارون مرّة واحدة).
لكن هناك جانب تراجيدي في الكتاب، عن ذلك اللقاء الحزين بين بيغن والجميّل في نهاريا قبل اغتيال بشير الجميّل بأيام. القلب يقطر حزناً لمشهد بيغن وهو يُقرّع الرئيس اللبناني المُنصَّب من قبل قوّات الاحتلال بصلف وعنجهيّة وتكبّر واحتقار. (ص. ١٨٧). ونص اللقاء بين بشير وبيغن (الذي دوّنه فريحة) يختلف كليّاً عن الأساطير التي حيكت عنه، وكيف أن بشير ضرب الطاولة وصرخ بوجه بيغن ثم قفل عائداً إلى لبنان... على متن طوّافة عسكريّة إسرائيليّة. في الحقيقة، كما نقرأ في نص اللقاء كان الخلاف يتمحور حول غضب بيغن من أن بشير (وأباه وكميل شمعون) لم يجهروا بشكرهم وامتنانهم للعدوّ الإسرائيلي (لكن بشير وعد شارون أنه سيفعل في المستقبل في مقابلة مع مجلّة «تايم»، وأنه يُحضّر لتظاهرة شعبيّة ضد الفلسطينيّين ومناصرة للاحتلال الإسرائيلي (ص. ١٩٣) — لكن الحبيب، حبيب الشرتوني، منعه من تحقيق ذلك). ثم أصدر بيغن أوامره لبشير بشأن سعد حدّاد وصنّفه بأنه «مواطن لبناني صالح» (ص. ١٩٧) (الاحتلال الإسرائيلي يفصل في وطنيّة اللبنانيّين بحسب معايير الكتائبيّين والقوّاتيّين).
ويضيف فريحة فصلاً عن لقاء لاحق في بكفيّا في ١٢ أيلول (بعد لقاء نهاريا) نجح فيه شارون في إعادة الحرارة والدفء إلى العلاقات بين القوّات اللبنانيّة والعدوّ الإسرائيلي. وهذا الفصل مفيد لأنه للمرّة الأولى يفصّل أنواع الأطباق اللبنانيّة التي كان شارون يحبّها والتي كانت صولانج الجميّل تتخصّص بإعدادها له (كما روى شارون في مذكّراته)، وهي: خروف محشي، كبة مشويّة وكبّة بالصينيّة والكنافة، بالإضافة إلى أطباق أجنبيّة (ص. ٢١٥). هذه التفاصيل يجب أن تدخل في المنهج اللبناني الدراسي كي تعرف أجيال جديدة عن تعاطي فئة لا يُستهان بها — ومن مختلف الطوائف — مع الاحتلال الإسرائيلي للبنان.
وشارون يُذكِّر بشير الجميّل بأنه هو صاحب فكرة ترشيحه لرئاسة الجمهوريّة، وأن الأميركيّين لم يصدّقوه عندما طرح الفكرة. لكن أخطر ما يرد في نص فريحة عن لقاء شارون وبشير الجميّل هو الإفصاح عن خطة مسبقة لمجزرة صبرا وشاتيلا وذلك قبل اغتيال بشير الجميّل (يُعلَم هذا للمرّة الأولى).

يكشف الكتاب التعاون الوثيق بين إدارة الجامعة الأميركيّة وحزب الكتائب
يتضح من الرواية أن الحكومة الإسرائيليّة أعدّت للمجزرة مسبقاً وناقشت بشير الجميّل في تفاصيلها، إذ أن شارون يقول للجميّل: «هل تريد أن تتحرّك قوّاتنا بحريّة في بيروت الغربيّة؟ أنا شخصيّاً أفضّل أن تبقى قوّاتنا في خارج بيروت. وسنتصرّف تصرّفاً شرعيّاً مع جماعتك لقتل الفلسطينيّين أو سواهم. هل تريدنا أن نشترك في هذا العمل؟ إذا قلتَ: لا، فنحن حريصون على أن لا نحرج موقفك» (ص. ٢٢١). وردّ بشير بالقول: «لا تدخلوا بيروت الآن...إبقوا حيث أنتم. وجودكم هو بمثابة قوّة ضاغطة تجعل الجيش اللبناني أوفر قدرة على التحرّك في مناطق مختلفة، فيطهّرها وينشر فيها الهدوء والأمان». ثم ردّ شارون: «وإذا ذهب جيشكم إلى صبرا وشاتيلا، فهل تريد أن تتحرّك قوّاتنا وراءه»؟ فأجابه الجميّل: «أظن أن جيشنا قادرٌ («قادراً» في الكتاب، ص. ٢٢١) على العمل وحده». ثم عاد شارون إلى موضوع صبرا وشاتيلا فقال: «هل ستذهب قوّاتنا وراء جيشك إلى المدينة الرياضيّة وصبرا وشاتيلا؟» فأجاب الجميّل: «نعم. إذا شئتَ التحدّث عن هذه التحرّكات فعليكَ أن تقول إن الجيش اللبناني هو الذي دخل هذه الأماكن، وإن القوّات الإسرائيليّة ما جاءت إلّا بعده لتأخذ علماً بأن كل شيء جرى على ما يرام. في وسعكم أن تأتوا بعدنا لتروا أن العمليّات تُنفَّذ على الوجه الملائم. لا يجوز أن يظن أحد أنكم تنسّقون مع الجيش اللبناني. نسّقوا ما شئتم مع «هورس» (فادي أفرام)، وميشال عون، وأمير دروري... إننا نقوم بعمليّة «سلامي». ردّ شارون: «إذاً، فالوقت غير مناسب للقيام الآن بأعمال استعراضيّة في بيروت الغربيّة؟ أجابه الجميّل: «ليست هذه المنطقة آمنة. قد يتعرّض جنودكم للخطف والقتل... سيحصل تنسيق بين إيلي حبيقة وجوني عبده على أرفع مستوى. وهما ينسّقان مع جماعتك على مستوى رفيع أيضاً» (ص. ٢٢٢).
واللافت أن أرييل شارون يبدو مهووساً بشفيق الحوت، السياسي والكاتب الفلسطيني ــــ اللبناني المعروف، ومدير مكتب منظمّة التحرير في بيروت لسنوات طويلة، والذي لم يكن له أي صفة عسكريّة. هذا هو العدوّ على حقيقته، لا يميّز بين المدني والعسكري. يسأل شارون الجميّل بصفاقة: «إذا تلقينا معلومات عن تحرّك أحد مراكز الفلسطينيّين، كمركز شفيق الحوت، مثلاً، أو غيره، وتدخل مغاويرنا لقمعه، فما هو الموقف الذي ستتخذونه من هذا الأمر؟». فيجيب بشير الجميّل: «إفعلوا ما تسمح به إمكاناتكم» (ص. ٢٢٣). هذا هو رئيس الـ١٠٤٥٢ كلم مربّع على حقيقته، بنص مساعده الأقرب. ويُطمئِن الجميّل شارون أن حكومته المُزمعة لن يكون فيها «الوزّان. ولن يدخلها جنبلاط أو قليلات أو عرفات». ويُفصح الكتاب عن حقيقة موقف الجميّل من العرب والعروبة (في وقت انفتحت فيه كل السفارات العربيّة نحو هذه الأداة الإسرائيليّة، بما فيها السفارة الجزائريّة)، إذ يقول لشارون: «ومن أجل أن تفهمني أصارحك بأني لا أعلن عزمي على البقاء في العالم العربي طمعاً بأموال العرب وما إلى ذلك. ولا تهمّني المصالح العربيّة في لبنان. ولكنني لا أستطيع إلا أن أهتم بأمور جوهريّة، حيويّة، أبرزها أن ستين في المئة من دخل اللبنانيّين، ومعظمهم من المسيحيّين البالغ عددهم ٣٠٠ ألف في البلدان العربيّة، يأتينا من هذه البلدان. لا مشكلة على الصعيد السياسي إذا نحن قطعنا العلاقات القائمة بيننا وبين العرب» (ص. ٢٢٧). وخلاصة اجتماع شارون مع الجميّل أن الفريقين توافقا على عقد معادة بين البلديْن، والتوتّر (من طرف واحد — الإسرائيلي) الذي ساد في لقاء نهاريا تبدّد، وأرسل بيغن برقيّة لبشير يهنئه فيها على الاتفاق الذليل بينه وبينه شارون (وهذا يجب أن يدفن إلى الأبد النظريّة الخبيثة عن أن خلافاً وقع بين بشير وبين مُشغّله الإسرائيلي وأن هذا كان سبب اغتياله). وأكد جورج فريحة في مقابلة مع «إم.تي.في» أن المسلمين كانوا سيقبلون المعاهدة بين لبنان وإسرائيل لأن المسلمين كان «طالع دينهم»، ولأن عبد الحميد الأحدب وصائب سلام أحبّا بشير الجميّل.
ويتضمّن الكتاب نصوصاً لاجتماعات بين بشير الجميّل ومديرين عامّين في الدولة اللبنانيّة بعد تنصيبه رئيساً. وفي لقاء مع أمين عام وزارة الخارجيّة يقول الجميّل: «فالاغتراب يجب أن يتخذ الطابع المسيحي. وسأبذل قصارى الجهد لأعيد المسيحيّين إلى لبنان». ويضيف الجميّل رأيه في أن لبنان هو جزء من العالم الثالث فيقول: «أنا حضارة. وليس لي شأن أو علاقة مع العالم الثالث. أرجو أن تثبت أننا لا ننتمي إلى هذا العالم الثالث لا من قريب ولا من بعيد. أُخرج معي من هذا العالم المتخلّف ولحّقني إلى العالم الأوروبي، ولنرتبط بالعالم الحرّ والأميركي. أما قرأتَ تصريح واينبرغر وبحثه في إدخال لبنان إلى الحلف الاستراتيجي؟ قلتُ: إني متضامن معك. خذوا شواطئنا. خذوا صنّين قواعد لكم. شدّني إلى أميركا. أنا معها. علاقتي هي بها وبأوروبا» (ص. ٢٥١). وفي لقاء مع قائد الجيش، فكتور خوري (الذي قاتل مع الميلشيات اليمينيّة في شكا في سنوات الحرب)، فنجد أن خوري يُطمئِن بشير عن طائفيّته فيقول له: «بالنسبة إلى أصحاب الرتب في المستقبل، أصبح المسلمون أوفر عدداً. لما تسملّتُ القيادة كان عددهم حوالي ١٧٠٠٠. أصبحوا اليوم ٢٤٠٠٠. فسرّحتُ قسماً كبيراً منهم، حوالي ٤٠٠٠» (ص. ٢٦١). وأضاف خوري الذي كان جيشه يقف مُنسِّقاً مع الاحتلال الإسرائيلي: «علينا ان نحارب سوريا علناً، شقيقتنا سوريا». (ص. ٢٦٣)
تقرأ هذا الكتاب وتقرأ تفاصيل ومعلومات جديدة عن مرحلة مفصليّة في التاريخ العربي المعاصر، ويزداد تقديرك وإعجابك بحبيب الشرتوني (الذي تتعرّض سيرته لتشويه فظيع وحقير في هذا الكتاب الذي ينمّ عن أخلاقيّات بشير الجميّل وصحبه). وحبيب الشرتوني لا يحتاج إلى دفاع عنه منّي أو من غيري. تاريخ لبنان (الحرّ) سينصفه وسيعظّمه. وحبيب لم يغادر وطنه يوماً. هو في صلب الوطن، وهو وقفة عزِّه. مسخُ الوطن غادره، ولن تتحقّق الوطنيّة اللبنانيّة الحقّة من دون عودة مظفّرة لحبيب وعلى رؤوس الأشهاد. عندها، عندما يخرج الناس في الشوارع ليزفّوا عريسهم حبيب، يمكن لنا أن نتكلّم عن سيادة وعن عزّة للوطن.
*كاتب عربي
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)