لعل أقسى ما قد يعايشه المقدسي اليوم، أن بالقدس من بالقدس إلا همّ كما كان سابقاً، بغزة من بغزة إلا الغزيّين. هي قساوة التخلي الممزوجة باللامبالاة المقصودة أو غير المقصودة، ومشاعر المتخَلَّى عنه في قضية وطنية لتضحي قضية منطقة أو طائفة أو فئة دون غيرها.
لكن لعل أكثر ما يميز الساحة المقدسية اليوم هو الحد الثاني الإيجابي من السيف الذي نشهده. وهو ما يسمى بالتخلي الإسلامي عن قضية الأقصى والمقدسات. لتعود وتغدو قضيتنا، هي قضية فلسطينية وطنية بحتة بعيدة عن أي بعد إسلامي كاد أن يجزئ هدفنا الأوحد إلى أهداف متفرقة. والذي أوجب نزول ذوي الطوائف غير الإسلامية في القدس والاعتصام لقضية الوطن أجمع... والذي لم ولن أعتبره رمزاً لشعار تافه مجزِّء ومفرِّق يدعى «التعايش المسيحي الإسلامي» على أرض فلسطين، بل هو تمثيل للمواطنة تحت شعار وطن واسترجاع لهويتنا المشوهة. الوطن وليس أشباه الدولة كونه المصطلح الذي لم يخضع حتى اللحظة لا لتقسيم أو تأويل أو تحريف.
قضية القدس اليوم، تحوي بصيص أمل كاد أن يختفي تماماً، بعد الوجود الهائل للهويات المفتتة المنثورة هنا وهناك والمصاحب بشكل طبيعي تماماً، لأهداف مختلفة هنا وهناك. وربما، علينا الاستفادة بكل ما أوتينا، بل ومناجاة من نريد، لاستمرار هذا «التخلي» الإسلامي عن قضية «المليار مسلم» بل ودعم تحييد قضية القدس عن كونها قضية «أمة» إسلامية مخترعة لا تحوي أي سمة من سمات الأمة.
لا أعلم كم من الوقت سيمر وسنخسر لتعزيز هوية وطن أعي تماماً أسباب اضمحلالها وزعزعتها، بل وتبدل معانيها. ولا أعلم إن كان أبنائي أو أحفادي أو من سيتبعونهم، أولئك الذين سيحظون بمساعي الحفاظ على هويتنا اليوم.
أعلم أن قدسنا رغم كل ما حصل ستطلب منا أكثر، ليس تدللاً ولا فائض حاجة، بل حاجة فعلاً. فهي مدينة واعية لشخصيتها وتاريخها رغم غيابه خمسة قرون. فلم ولن تكفيها الالتفافات الدينية والأهداف المجزِّأة غير الجامعة، ولا المغالاة بمشاركة فلان ذي الطائفة كذا أو علّان ذي ميول كذا لإسعافها. فكلنا أبناؤها وأصحاب واجب في الحفاظ عليها كما احتوتنا دوماً. فهو ليس بخيار ولا ترف ولا مجاملة بين الجماعات غير الواعية لمصيرها.
اليوم، أتتنا الفرصة لتغيير العديد من المصطلحات الممغمغة، واصطياد الفرص لتوحيدنا حول مصطلحات ومفاهيم تخلصنا من نزعاتنا الفردية القاتلة، ومشاعر اللامبالاة التي جمدتنا والتخلص من أصحاب الانتقادات السلبية التي دمرتنا وما زالت.
وطني العزيز، التفافنا حول ما يعتقده البعض «هوية» دينية للدفاع عن رموزنا الوطنية في القدس لا يدعم إلا تبرير مساعي الاحتلال للحفاظ عليها ومن منطلقات دينية أيضاً! فدفاعنا عن الأقصى اليوم هو ليس أكثر من دفاع عن رمز وطني يمثّل كافة مواطني المجتمع.
نحن نشهد اليوم فرصة لقلب السحر على الساحر، وقلب مساعي المستعمِر الذي سعى دوماً لتعزيز هوياتنا المجزأة لتفريقنا. لنتفق على كرهنا ورفضنا للمحتل، على حبنا ومساعينا للحفاظ على رموزنا! لنتوحد ربما على أساليب مقاومتنا بدءاً بالمصطلحات. لنتفق أخيراً كمستعمَرين على رؤيتنا للقضية!
فأساليب المستعمر لم تتطور كثيراً كونه ليس عظيماً كما يصوره البعض. لكن تكرارنا للأخطاء نفسها في مواجهة الأساليب نفسها لا يعكس سوى قلة وعي أو اعتيادية بائسة تشتهي الروتين وعدم التجديد!
فسياسة المحتل بالمماطلة والنفس الطويل هي سياسة البارحة واليوم وغداً إن لم ندرك خطورة الاعتياد! المحتل الذي لطالما عوّل على جهلنا وافتقادنا للوعي والنهج والخطة. غير ذلك سنلاحظ أن نفسنا القصير وذاكرتنا التي حددنا بدايتها بتاريخ الإسلام فقط ستُختَزَل إلى نصف ساعة، أي حدود فورة تويترية وفيسبوكية! باختصار، استند المحتل إلى كذبة لنفس طويل ونهج، مرتكزاً إلى تاريخ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد لإقامة دولته و«أمته». أما أرضنا المدركة لشخصيتها منذ ستة آلاف سنة تتمنى علينا الوعي والنفس الطويل للحفاظ عليها خارج إطار أمم مفبركة دون أساسات مجمِّعة. وها نحن اليوم نواجه ستة شهور جدد لاختبار قدرتنا على رفض الروتين!