استوقفني ما وصفه الكاتب علاء اللامي في مقاله المنشور في صحيفة «الأخبار» الموقرة (17/08/2017) بـ«حملة تشنيع وهجاء ضد بعض الشخصيات التاريخية العربية الإسلامية»، وعلى رأسهم بالقطع يوسف بن أيوب المسمى بصلاح الدين.الغريب أن الكاتب قرر منذ البدء أن كل ما يوجه إلى صلاح الدين من اتهام هو هجاء مذهبي، فيما تمثّل آراؤه وحده تقييماً موضوعياً.

حسم الكاتب موقفه بالقول إن «قراءتي لشخصية صلاح الدين الأيوبي لا تعني عدم الانحياز المبدئي له كرمز لمقاومة الغزو الأجنبي الإفرنجي، فلست مستشرقاً أو مأخوذاً بالمنهج العلموي الاستشراقي الذي يدس السم بالعسل كبعض الليبراليين واليساريين المزيفين، ولا متسامحاً مع القراءات الطائفية السلفية سواء كانت وفق المنهج التمجيدي السني أو الآخر الهجائي الشيعي في الوقت عينه».
لا نعتقد أن هذا المنهج يمكن وصفه بالموضوعي، بل هو نهج انفعالي لا موضوعي، حيث يرى أن أي نقد يوجه لصلاح الدين، يدخل ضمن ما يسميه بالليبرالي والاستشراقي واليساري المزيف.
إن تشخيص المسألة وكأنها مجرد خلاف حول شخص المدعو يوسف ابن أيوب يمثل استخفافاً بواحدة من أخطر القضايا التي حولت مسار الحضارة والتاريخ الإسلامي، وهي سقوط الحضارة الإسلامية التي شيّدتها الدولة الفاطمية وتحولها إلى أنقاض تمثلها أكوام مدينة تنيس (الواقعة على الحافة الشمالية الغربية لبحيرة تنيس سابقاً المنزلة حالياً) أعجب مدينة في تاريخنا والتي تحولت بفضل «الكابوس الأيوبي» إلى كيمان لا يكاد يذكرها أحد أو حتى يعرف عنها شيئاً. فسقوط الأندلس وبغداد مأساة تستدعي «قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل»، أما سقوط الدولة الفاطمية فاستحقاق طبيعي ربما يستدعي الاحتفاء والتمجيد!

العالم الإسلامي والتحاقب التاريخي

الذين درسوا التاريخ يعرفون جيداً أن ثمة ما يسمى بـ«التفسير الإجمالي الحضاري للتاريخ» (Macrohistory) أي دراسة تعاقب المراحل التاريخية وكيف أفضت مرحلة إلى أخرى أو بمصطلح أدق «التحاقب التاريخي».
الأيوبي صلاح الدين لم يكتفِ بالقضاء على البنية السياسية والعسكرية للفاطميين التي أقضت مضاجع الفرنج الصليبيين وأجبرت الروم البيزنطيين على التزام سلام دائم معهم، بل محا البنية الثقافية والحضارية لمصر والعالم الإسلامي عبر تدمير مكتبة الفاطميين التي ضمّت مليونين من الكتب، وهي كارثة تفوق أضعاف أضعاف كارثة مكتبة بغداد التي دمرها الغزو المغولي، ويكفيه هدم بعض أهرام الجيزة مستفيداً من أحجارها لبناء قلعة تحميه من غضب المصريين.
القضاء على الدولة الفاطمية كلفنا ما هو أسوأ، وهو سقوط مصر والعالم الإسلامي في قبضة العبيد المماليك الذين دامت دولتهم ستة قرون، اثنان منها خالصة لهم، وأربعة نيابة عن العثمانيين الذين قاموا بتسليمنا غنيمة باردة للغرب.
لم يكلف كثير من كتابنا ومفكرينا نفسه همّ دراسة هذا التحاقب المأساوي وكيف انتقلت مصر من حكم مرتزقة السلاجقة إلى حكم العبيد المماليك المجلوبين من شتى بقاع الأرض ومعهم آفاتهم الأخلاقية والذين وصفهم المقريزي في «الخطط» بأنهم «أزنى من قردة وألص من ذئب وأفسد من فأر».
الأيوبيون، إخوة صلاح الدين، وأحفاده، فشلوا في حكم مصر فتسلمها عبيده، أي المماليك البحرية (قطز وبيبرس وأيبك) فكان أن انتفض الأشراف ضدهم بقيادة الشريف فخر الدين ابن ثعلب وكان أن علقت لهم المشانق من بلبيس إلى القاهرة (قرابة مائة كيلومتر).
ولئلا يعتقد الأستاذ اللامي أننا نهذي فعليه أن يراجع مذكرات أحمد عرابي الذي تمثلت مصيبته الكبرى ومصيبة مصر عام 1882، أي بعد نهاية العصر الفاطمي بستة قرون في الضباط الجراكسة أحفاد المملوك خاير بيك الذي سلم مصر للعثمانيين.

صلاح الدين قاهر الصليبيين؟!

هكذا تعلمنا في المدرسة حتى في دروس اللغة الإنجليزية. قصة القدس تحتاج إلى شرح وتفصيل حيث تمكن الصليبيون وعبر علاقاتهم (الدبلوماسية) من تسلّم القدس من يد الأيوبيين الأبناء مرتين حتى أخرجوا منها نهائياً على يد الخوارزميين.
أما سائر بلاد الشام فلم يخرج الفرنج منها إلا في عصر الأشرف قلاوون وبقيت في أيديهم قرنين من الزمان بعد صلاح الدين.
السؤال اللغز الذي يحتاج إلى دراسة وتفصيل هو لغز الرسائل العلنية والسرية المتبادلة بين صلاح الدين وبابا الفاتيكان، وهو ما أغفلته المصادر العربية أو لم تحط به أصلاً، باعتبار أن هذا النوع من العلاقات والصفقات محكوم بالبقاء في الخفاء بعيداً عن عين المواطن العربي.

كانت مصر الفاطمية هي غاية الصليبيين وليس القدس كما يحدثنا الإعلام

في كتاب «العلاقات السياسية بين الدولة الأيوبية والإمبراطورية الرومانية المقدسة» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب يكشف الكاتب عادل عبد الحفظ حمزة عن القشرة الخارجية لهذه العلاقة المريبة التي لا تختلف شيئاً عما يعلنه حكام زماننا المعاصر من صفقات يسمونها تاريخية.
يقول الكاتب «كان صلاح الدين حريصاً على أن يبلغ الإمبراطور فردريك الأول (1152- 1190م) إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة بمجريات الأمور في الشرق وأيضاً بمراسلات البابوية، فقد أرسل إليه برسالة منتصف أبريل 1182م /ذي الحجة 577هـ يقول فيها أنه أحسن استقبال المندوب البابوي ألبيركوس جانسيوم وأنه أكرمه وأعاده صحبة مندوبه أبو طاهر».
كانت البابوية ترسل المندوب برسالتين، واحدة خطية وأخرى شفوية يغلب عليها السرية حيث يقول صلاح الدين «ولقد استمعنا بعناية إلى كل ما قاله من قبلكم» (ص 83).
ويذكر صلاح الدين أنه أعجب بكل ما جاء في الرسالة البابوية وأنه تلقاها بشغف وروح طيبة كما يذكر له أن الصداقة وطيدة جداً، حيث يقول «تأكدنا من عظم الصداقة بيننا». يقول الكاتب: «كما أرسل مع المندوب البابوي رسالة شفوية غير مكتوبة وسرية للغاية» (ص 84).
ويلاحظ الكاتب أن المصادر العربية المعاصرة لصلاح الدين لم تذكر شيئاً عن هذه المراسلات في حين تذكره المصادر اللاتينية.
في شباط/ فبراير 1188م/ 584 هـ، أرسل الإمبراطور فريدريك الأول رسالة إلى صلاح الدين مع مبعوثه هنري دي ستيتيز من ألمانيا يخاطبه فيها بصفته سلطان المسلمين في الشرق، ثم يحذره من المساس ببيت المقدس ثم يذكره بالصلات الطيبة السابقة بينهما والرسائل التي جرى تبادلها بينهما قائلاً: «إن الخطابات التي أخلصت لنا فيها منذ وقت طويل بشأن المسائل الهامة والعظيمة الشأن بيننا والثقة التي كانت تحملها كلماتك إلينا قد اعتبرت وسيلة للاتصال بعظمتكم» (ص 136).
ويمضي فريدرك قائلاً: «إن صلاح الدين ليس له حق في القدس»، إذ يعتبره وصياً عليها أو مجرد حارس قائلاً: «التي توليت حكمها كأوصياء حراص لكل من يهودا والسامرة وفلسطين»، ولذا يعتبر فردريك نفسه المدافع عن هذه الأرض ويعطي تعويضاً عما خربه كما تقتضيه القوانين المقدسة، ثم يعطيه مهلة اثني عشر شهراً اعتباراً من تشرين الثاني/ نوفمبر 1188م كي يتمكن صلاح الدين من الاستجابة لهذه الطلبات وإن لم يستجب فسوف يهاجمه (وإلا هاجمناك في مصر لإحياء الصليب باسم يسوع).
ويذكره أن هذه الأرض أرض المسيح وأنه ــ صلاح ــ يعرف هذا تماماً «والتي تبررها كل الكتب القديمة»، ثم يذكر له أن كل المنطقة الشرقية ومصر كانت تابعة لهم «ولا تذكر أن كل من ثيوثيا Scythia وبارثيا Parthis حيث لقي جنرالنا ماركوس كراسوس الموت المفاجئ ومصر حيث كان أنطونيو وكليوباترا».
الذي نخلص إليه من قراءتنا لهذا الملف وبمعنى أدق لما توفر لدينا من معلومات حوله، أن مصر الفاطمية كانت هي الهدف والغاية الذي تكالب عليه كل هؤلاء وليس مجرد الاستيلاء على القدس كما يحدثنا إعلامنا السطحي الساذج والفج.
كانت مصر، احتلالاً أو تدميراً وإزاحتها من طريق التمدد الصليبي، هي الهدف والغاية، وهو ما نجح الصليبيون والمتحالفون معهم في تنفيذه، وما أشبه الليلة بالبارحة.
الرسائل السرية والخطط الحقيقية متوفرة لدى الغرب. أما نحن، فمنشغلون احتفالاً بصلاح الدين «محرر القدس» ومدمر الحضارة الإسلامية!
*ناشط وكاتب مصري