أعلن أحد قادة حزب «العمل الشيوعي» في سوريا عام 1991 في سجن صيدنايا أنه «كان يأمل لو أن الجنرال شوارزكوف، قائد القوات الأميركية في حرب 1991، قد أكمل طريقه إلى بغداد لإسقاط صدام حسين، بدلاً من الاكتفاء بإخراج القوات العراقية من الكويت». كان المذكور أحد القياديين في الحزب المذكور الذين ضغطوا في الثمانينيات من أجل تبنّي التفسير السوفياتي للماركسية، وبعضهم يقول عنه إنه كان يحفظ كتاب «ما العمل؟» غيباً، ضد قياديين آخرين أرادوا الاحتفاظ بخط ماركسي بعيد عن موسكو.
تأسّس الحزب المذكور عام 1976 منذ أن كان باسم «رابطة العمل الشيوعي»، هو أقرب إلى خط «اليسار الجديد» الذي كان رائجاً في الستينيات عالمياً. لا يمكن تفسير هذا القول الذي فيه تعويل على واشنطن، من دون حالة الاحتضار التي كانت تعيشها موسكو آنذاك قبل تفكك الاتحاد السوفياتي بعشرة أشهر. لم يكن هذا فقط نقلاً للبندقية من الكتف الأيسر إلى الأيمن بالمعنى السياسي فقط، بل كان يعني انزياحاً أيديولوجياً من اليسار نحو اليمين واستبدال «الفاتيكان الموسكوفي» بآخر في البيت الأبيض. كان هناك موجة استغراب واستنكار عامة ضد هذا القول، كان يلمسها كاتب هذه السطور عندما كان يلتقي بسجناء قادمين من صيدنايا وهو الآتي من القسم السياسي في سجن عدرا أيضاً للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة العليا في فترة 1992 ـ 1994. ما كشفته الوقائع خلال ربع قرن لاحقة على هذا القول أظهر أنه كان الطلقة الافتتاحية لتيار «الليبرالية الجديدة» في سوريا، وليس مهماً إن كان صاحبه واعياً آنذاك لذلك أم لا. ليس هذا فقط بل كان محدداً للملامح: هجرة من تيار ماركسي سوفياتي، حتى عند من كان معارضاً لموسكو بين الشيوعيين والماركسيين، إلى تيار جديد يميني ومركز عالمي جديد، ولكنها هجرة مبنية على عملية سياسية وليست على عملية فكرية ــ سياسية تتولد فيها السياسة من خلال البذرة والرحم الفكريين.
كان العراق هو المناسبة ولكن السبب كان موسكو. خلال التسعينيات، بدأت تظهر ملامح أوسع لهذا التيار الليبرالي الجديد سورياً وعربياً من خلال طروحات بدأ ماركسيون منزاحون بطرحها: «نهاية الأيديولوجيات» ــ «السياسة لا تبنى على منهج معرفي بل على خط سياسي فقط» ــ «الحزب لا يبنى على ثلاثية: فكر ــ سياسة ــ تنظيم، وإنما فقط على البرنامج وبالتالي يمكن لألوان فكرية متعددة أن تتعايش في الحركة السياسية الواحدة وألا يكون هذا مقتصراً على التحالفات السياسية». في عام 1990 وفي كتاب «حوارات»، أعطى القيادي الشيوعي اللبناني كريم مروة إرهاصاً لهذه الآراء، ولكن المحاولة الكبرى كانت في سوريا في عام 1998 عند الدكتور جمال الأتاسي أمين عام «التجمع الوطني الديموقراطي» الذي كان يضم خمس أحزاب هي: حزب «الاتحاد الاشتراكي العربي»، «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي»، حزب «البعث الديموقراطي»، حركة الاشتراكيين العرب، حزب «العمال الثوري العربي»، لما طرح وثيقة في نيسان من العام المذكور لـ«تحويل التجمع من تحالف إلى حركة سياسية واحدة بألوان أيديولوجية متعددة». كان أكثر المتحمسين لهذا الطرح هم قياديون من «المكتب السياسي»، مع بعض من كان يدور في مداراتهم مثل ميشال كيلو، والجسم الكامل لـ«حزب العمال» الذي كان رمزه منذ تأسيسه عام 1965 هو ياسين الحافظ. تم إفشال المشروع بسبب معارضة أغلبية كوادر وجسم «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي» والذين تعززت معارضتهم للمشروع مع خروج الأمين الأول للحزب رياض الترك من السجن في 30 أيار 1998 والذي أعلن في مقابلات صحفية عديدة، في جريدتي «النهار» و«الحياة»، بأنه لن يشتغل بالسياسة «إلا تحت راية الحزب الشيوعي».

لم يكن «إعلان دمشق» بدلالاته يحوي فقط مراهنة على الخارج الأميركي

هنا كان العراق المغزو والمحتل أميركياً عام 2003 هو الولادة الحقيقية لتيار «الليبرالية الجديدة» السوري، ويبدو أن عراق 1991 لم تكن بذرته كافية لتلك الولادة. في تلك الفترة نزلت إلى السوق الفكرية الطروحات التالية وكلها من ماركسيين وشيوعيين بدأوا بالتحول أو تحولوا نحو «الليبرالية الجديدة»، مثل: «الديكتاتورية قضت على العوامل الداخلية للتغيير، لذلك لا بد من الاستعانة بالخارج من أجل إحداث تحولات داخلية، الولايات المتحدة ترى في الديموقراطية وسيلة لتجفيف ينابيع الإرهاب الذي ضربها في 11 أيلول 2001، وهي آتية بجيوشها إلى المنطقة من أجل إعادة صياغة المنطقة كوسيلة لتحقيق ذلك، وليس من الخطأ التلاقي موضوعياً معها في هذا، ما سقط يوم التاسع من نيسان 2003 بقوة الجيش الأميركي هو صدام حسين وليس بغداد وهذا طريق نحو «عراق جديد» يمكن أن يبنى عليه في عموم المنطقة». بعد أسابيع من سقوط بغداد، كان هناك رأي عند أحد قياديي حزب العمل الشيوعي التاريخيين هو التالي: «الدبابة الأميركية الواقفة عند الحدود في البوكمال هي مثل الباص الذي يقف في استراحة حمص أثناء توجهه من حلب إلى الشام». يمكن أن يلخص هذا كله ما طرحه أحد قادة حزب «العمال الثوري العربي» قبل ثلاثة أشهر من بدء غزو العراق، هو جاد الكريم الجباعي ومن التلاميذ المخلصين لياسين الحافظ، تحت عنوان مكثف: «تهافت الدفاع عن العراق» (موقع «أخبار الشرق»، 24 كانون أول 2002)، وهو كان أيضاً من القادة المؤسسين عام 2000 لـ«لجان إحياء المجتمع المدني». لم يكن هؤلاء يملكون الثقل المعنوي لإحداث النقلة النوعية في تأسيس تيار «الليبرالية الجديدة السورية»، الذي بدأت ملامحه بالتشكل بقوة داخل «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي» وحزب «العمل الشيوعي» وحزب «العمال الثوري العربي» و«لجان إحياء المجتمع المدني» مع تاركين من تنظيم خالد بكداش مثل الدكتور عبد الرزاق عيد. وهذه النقلة النوعية التأسيسية لم تحصل إلا مع تحول رياض الترك نحو هذا الاتجاه منذ مقابلته مع «النهار» في يوم 28 أيلول 2003 عندما طرح نظريته حول «الصفر الاستعماري: الأميركان نقلوا المجتمع العراقي من تحت الصفر إلى الصفر». وهذا كان يعني تأييداً لما فعله جورج بوش الابن في العراق، وقد أتى هذا قبل زيارته بأيام لأوروبا وكندا والولايات المتحدة سراً، حيث عاد منها ليقول: «إن هناك رياحاً غربية ستقتلع الأنظمة وعلينا أن نلاقيها بثوب جديد وببرنامج جديد»، داعياً إلى تغيير اسم «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي». وقد كان عملياً تأسيس رياض الترك لـ«حزب الشعب الديموقراطي» في نيسان 2005 هو الرافعة التي جرفت معظم القوى السياسية السورية المعارضة باتجاه تشكيل «إعلان دمشق» الذي انبنى على أن ما جرى في بغداد في التاسع من نيسان 2003 وترجم في بيروت 14 آذار 2005 ستكون محطته الثالثة في الشام. فشلت مراهنات «إعلان دمشق» (16 تشرين أول 2005) على تغيير في دمشق وقد كان بعض قادته ورموزه يدعون إلى انتظار أسابيع فقط أو على الأكثر لرأس سنة 2006، لتغيير وقت سقوط النظام السوري بناء على التصادم الأميركي ــ السوري الذي كان رأس جبل جليده هو المحقق الدولي ديتليف ميليس في «قضية الحريري».
لم يكن «إعلان دمشق» بدلالاته يحوي فقط مراهنة على الخارج الأميركي، وإنما كان تحقيقاً لشيء سعى إليه رياض الترك منذ أحداث 1979 ـ 1982، وقاومته ومنعته أغلبية قيادة «الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي» التي كانت ضده كما أظهر مثلاً اجتماع اللجنة المركزية في أيلول 1980، وهو التحالف مع «الإخوان المسلمين». كان الزواج بين «الليبرالية الجديدة» و«الإسلام السياسي» من أهم ملامح مسار تيار الليبرالية الجديدة، وهو ما ظهر لاحقاً، ولو عبر ذيلية الليبراليين الجدد للإسلاميين، في «المجلس الوطني» 2011 وفي «الائتلاف الوطني» 2012، والتي كان منها كتوابع المراهنة على «التدخل العسكري الخارجي» و«العنف المعارض» من أجل إسقاط السلطة السورية في مرحلة ما بعد درعا 18 آذار 2011. كخلاصة مكثفة: إن تيار الليبرالية الجديدة السوري، وهو تيار تأسس عابراً للأحزاب، انبنى بدلالة حدث خارجي، هو غزو العراق واحتلاله من قبل الأميركان، وكانت خلفيته سقوط السوفيات وانزياح الكثير من الشيوعيين والماركسيين نحو موقع أيديولوجي سياسي جديد. لم يكن هذا التيار في نشوئه مبنياً على تحولات اقتصادية ـ اجتماعية، ما دامت البورجوازية الجديدة في سوريا 1974-2017 قد تشكلت في رحم السلطة السورية وعلى أجنابها وولدت من ذلك الرحم، وهي والفئات الوسطى، قد أثبتت أزمة 2011 ـ 2017 مدى ارتباطها العضوي بالسلطة السورية. لم يكن تيار الليبرالية الجديدة في سوريا مبنياً على مراجعات فكرية نتج عنها الانزياح من فكر سياسي، هو الماركسية، نحو تيار فكري سياسي آخر هو «الليبرالية الجديدة»، التي كانت أيضاً عند «المحافظين الجدد»، الذين سيطروا على إدارة بوش الابن، ناتجة عن متحولين من الماركسية إلى الليبرالية الجديدة التي أسسها ليو شتراوس فلسفياً، واقتصادياً ميلتون فريدمان.
* كاتب سوري