في عام 1206م بسط تيموجين سيطرته على كامل السهوب المغوليّة (منغوليا ومقاطعة منغوليا الداخليّة الصينيّة اليوم)، معلناً بداية مشروع كونيّ جديد وأسطورة أنجح غاز في التاريخ. أمّا المشروع فكان الإمبراطوريّة المغوليّة، التي امتدّت في أوجها في منتصف القرن الثالث عشر ميلاديّ من بحريْ اليابان والصين شرقاً إلى غرب الأناضول ونهر نيستِر في غرب أوكرانيا غرباً، ومن بحر الصين الجنوبي جنوباً إلى مدينتي فلادِمير وسمولينسك شمال موسكو شمالاً.
أمّا الغازي فلم يكن إلا تيموجين نفسه، الذي أصبح يُعرف بـ«جنكيز خان». ويُصنّف هذا المشروع بالكونيّ لانّه، وبحسب جون جوزيف سووندرز في كتابه «تاريخ الغزوات المغوليّة»، انطلق جنكيز خان في بناء امبراطوريّته من قناعته أنّ «تنغري» ــ إله شعوب السهوب الآسيويّة ــ قد اختار المغول لحكم العالم أجمع.

الجحافل الوهميّة

ولا تزال الامبراطوريّة المغوليّة، إلى اليوم، أكبر إمبراطوريّة بريّة متّصلة عرفها التاريخ. ويعيد المؤرّخون التوسّع الكبير والسريع لهذه الإمبراطوريّة لما أرساه جنكيز خان من قواعد عسكريّة في الجيش الذي أورثه لأبنائه وأحفاده. ولم يكن العدد أو فعّاليّة وحداثة السلاح، كما يتبنى معظم المؤرّخين، ما ميّز الجيش المغولي، ولكن التنظيم والالتزام الفائقين وسرعة التنقل الإعجازيّة هي التي ميّزت ذلك الجيش.
ويقول موريس رُسّابي، في بحثه «كل جياد الخان»، إنّ جنكيز خان أورث أولاده جيشاً لا يزيد عدده عن المئتي ألف مقاتل، وهذا العدد قليل جداً عند احتساب المساحات التي جرى احتلالها في الأعوام التاليّة في حملات متزامنة في شتّى الاتجاهات شرقاً وغرباً. ويقول مارتن ديزموند، في «الجيش المغولي»، إنّ المؤرّخين ضخّموا أعداد جيوش المغول لسببين، الأوّل لضرورات السرد، فكلّ غاز عظيم يجب أن يقود جيوشاً جرّارة. والثاني، بمفعول رجعيّ، لتبرير الشعوب المهزومة هزيمتها أمام المغول. ويضيف ديزموند أنّ العديد المقاتل الفعلي لجيوش جنكيز خان عند موته كان 129000 جنديّ يتوزّعون على جيوش الجناح الأيسر (الشرق) والجناح الأيمن (الغرب) والحرس الإمبراطوريّ (الوسط). ويضيف أنّه حتّى مع توسّع نطاق سيطرة الإمبراطوريّة في أيّام أوغدِيْ خان واستقطابها للمزيد من المقاتلين من البلدان المحتلّة، لم يتعدّ عدد المقاتلين الفعليين في جيوش المغول الـ400 ألف جنديّ. وهذا عدد صغير للسيطرة على إمبراطوريّة شاسعة امتدّت، في حينه، على مدى شمال الصين وكامل وسط آسيا وإيران وأجزاء يسيرة من أوروبا الشرقية. ويضيف أنّ الجيوش التي كان يرسلها جنكيز خان ومن ثمّ ابنه كانت صغيرة مقارنة بالجيوش التي واجهتها، لا بل لم تخض معركة إلا أمام جيوش ذات عديد أكبر في السنوات الأولى من التوسّع. إذاً إنّ صورة جيوش المغول الجرّارة التي تفوق بأعدادها أي قدرة على المواجهة، التي زرعتها كتب التاريخ في رؤوسنا، هي صورة خاطئة.

القوس والخيّالة: جديد قديم

في مقابل المحاججة بالأعداد الضخمة كعامل نجاح المغول في المعارك، تبرز حجّة السلاح وتركيبة الجيش المغولييْن. من نافل القول إنّ المغول اعتمدوا على الرماة الخيّالة في قتالهم، وتألّفت جيوشهم، بشكل كامل، من الخيّالة. وحجّة السلاح تنبع من غرابة وتطوّر وفعّاليّة القوس الذي استعمله الرماة المغول في حينه. فبحسب إريك هيلدينغر في مقاله البحثي «الاجتياح المغوليّ: معركة لييْغنتز»، كان القوس المغوليّ مقوّس للخلف مركّب مصنوع من الأوتار والقرون الحيوانيّة والخشب. ويشرح سووندرز أنّ قوة إطلاق السهم من هذا القوس تعادل 72 كلغ-قوة، بينما تختلف مدياته بحسب ثقل السهم مع اختلاف الهدف من الرمايات، حيث يزيد مدى القوس على 320 متراً.

أصعب معارك خاضها جنكيز خان كانت معارك توحيد منغوليا ومنغوليا الخارجيّة
فرمايات الخيّالة الخفيفة، وهي الرمايات الدقيقة المباشرة كانت تُرمى عن بعد 150-175 متراً، بينما الرمايات «الباليستيّة» غير الدقيقة، التي كانت تهدف إلى تشتيت خيّالة ومشاة العدوّ قبل اقترابهم، كانت تُرمى عن بعد 400 متر.
وكانت الجيوش المغوليّة تتألّف من الخيّالة فقط، أُضيف إليها فرق هندسيّة فيما بعد مع استيعاب الطاقات الصينيّة والمسلمة في الجيوش. ويقول ديزموند إنّ الخيّالة كانت تنقسم إلى قسمين، الخفيفة وهم الرماة خفيفو التدريع، والثقيلة وهم الفرسان المجهّزون بالسيوف والفؤوس بالإضافة إلى الأقواس، وهؤلاء كانوا ذوي تدريع ثقيل (نسبة لمستوى التدريع في سهوب آسيا) ومهمّتهم الانقضاض على خيّالة ومشاة الخصوم بعد تشتيتهم جرّاء تعريضهم لوابل الأسهم. ويضيف أنّ هذه التركيبة ووابل الأسهم الذي كانت تصبّه كانا ساحقين لجيوش المسيحيّة والإسلام والصين.
لكن ديزموند لا يرى أنّ عاملي السلاح والتنظيم الجديديْن على الجيوش آنفة الذكر ــ بحسب التأريخ التقليدي لهذه المرحلة ــ هما اللذان ساهما في التوسّع السريع للإمبراطوريّة المغوليّة. فيشرح أنّ الرماة الخيّالة لم يكونوا جدداً على هذه الجيوش بالحقيقة، فالمسلمون كانوا قد خبروهم في نموذج الجنود الأتراك القادمين من السهوب الآسيويّة عبر محيط بحر الأرال والذين سرعان ما تحوّلوا إلى نموذج الجندي المثاليّ في العالم الإسلاميّ. بينما كانت الصين تعاني من غزوات شعوب السهوب الآسيويّة منذ آلاف السنين وهم قد خبروا الخيّالة الرماة بشكل واسع. أمّا أوروبا فكانت تعاني منهم منذ القرن الثالث الميلاديّ مع اكتساح الهون للقارّة متسلّحين بقدرة الرمي عن ظهر خيل متحرّك بسبب اختراع جديد، وهو «ركاب السرج». وكذلك الأمر بالنسبة لتركيبة الجيش المكوّنة من الخيالة فقط، فجنكيز خان لم يأت بجديد في هذا العامل، لا بل إنّ كلّ جيوش شعوب السهوب الآسيويّة كانت مؤلّفة من الخيّالة بالكامل. وأصعب معارك خاضها جنكيز خان كانت معارك توحيد منغوليا ومنغوليا الخارجيّة، أي ضدّ جيوش تتّبع نفس البنية العسكريّة والتكتيكات، ومع ذلك انتصر عليها. لذلك فإنّ ميزة جيش جنكيز خان الأساسيّة لم تكن في هذين العاملين فقط أيضاً.

الأساس: التنظيم والالتزام

وكما ذكرنا سابقاً فإنّ أحد أهم عوامل النجاح المغوليّ كان التنظيم والالتزام. وفي ما خصّ التنظيم، فقد كانت كلّ جيوش شعوب سهوب آسيا تخضع للنظام العشري في التقسيم. ويوضّح «ديزموند» هذا النظام بإسهاب، فكلّ عشرة جنود كانو يشكّلون «أربان» التي كلّ عشرة منها تشكّل سرب خيّالة أو «جاغهون» (100 جندي) الذي بدوره تشكّل كل عشرة منه فوجا أو «مينغّان» (1000 جندي)، وكل عشرة أفواج تشكّل فيلق أو «تومين» (10000 جندي). ولم يعدّل جنكيز خان في هذا النظام ولكنّه طوّر فعّاليّته، فكان يقسّم أو يجمع جنود القبائل التابعة للإمبراطوريّة في وحدات يتراوح عددها بين ألف وعشرة آلاف ليتمكّن من استدعائها بسرعة عند اللزوم. ولكنّه حافظ على البناء العشائريّ لهذه المجموعات عبر تعيين رجال من هذه العشائر يثق بهم لقيادة الوحدات التي تضم عشائرهم، ليرسي بذلك أساسات هيكل عسكريّ بدائيّ. ويُساعد هؤلاء القادة قادة آخرون من الأكفّاء، من أيّ عرق أو طبقة اجتماعيّة كانوا، ليحصّنوا قيادة الوحدات والجيوش من قلّة الكفاءة، التي قد تنتج عن الالتزام بالقرابة والعشائريّة. فجنكيز خان اتّبع نموذج ترقية الجنود تبعاً للكفاءة مما حافظ على فعّالية جيشه. حتّى أنّه كان قد ولّى قائده المفضّل سابوتاي القيادة الفعلية لجيش غرب الامبراطوريّة الذي كان قد أولى قيادته الرسميّة إلى ابنه جوشي ومن بعده إلى حفيده باتو. والالتزام كان عنصراً أساسيّاً في نجاح الجيش المغوليّ برأي ديزموند. فالجندي المغوليّ كان يلتزم بالتعليمات الصادرة عن قادته بحذافيرها من دون أن يحيد قيد أنملة عنها. فبالرغم من الشكل البدائي للهيكل العسكريّ إلّا أن جنكيز خان أرسى نظام محاسبة وعقاب قاسياً ارتبط بمركزيّة سلطة الخان، وكان يُطبّق على قادة الجيوش من العائلات الحاكمة كما على الجنود العاديين. وكان الالتزام والطاعة للخان والإيمان بمركزيّة قراره قد وصلت إلى مراحل استثنائيّة، فقد كان الجميع يلتزم بتطبيق عقاب الخان على يد رسوله، حتى وإن كان الرسول من أوضع طبقات المغول والقائد من العائلات الحاكمة.
هذان العاملان ساهما في إعطاء جيوش جنكيز خان الأفضليّة على باقي جيوش السهوب الآسيويّة، ومن بعدها على الجيوش المؤلّفة من العنصر التركيّ في العالم الإسلاميّ وجيوش أوروبا. ولكنّ هذين العاملين لم يكونا الوحيدين في صناعة هذه الآلة العسكريّة شديدة الفعّالية وتحقيق نجاحاتها.

صناعة صاروخ باليستيّ: الحصان والإمداد من الأمام

وشكّل الحصان المنغوليّ عاملاً آخر شديد الأهمّية. فهذا الحصان، وبالرغم من صغر حجمه، كان قادراً على قطع مسافة مئة كيلومتر في اليوم الواحد، كما يقول ديزموند. ويحتاج إلى شرب الماء مرّة واحدة في النهار فقط، بينما يمكنه أن يكتفي بالاقتيات على عشب السهوب. وقدرة الاحتمال هذه جعلت الحصان المنغولي من أهمّ ادوات الآلة العسكريّة المغوليّة، حيث وصفه رُسّابي بـ«صاروخ القرن الثالث عشر الباليستيّ». وقدّ فعّل جنكيز خان استعمال الحصان المنغوليّ أكثر من خلال فرض تأمين ثلاثة أحصنة على الأقل لكلّ مقاتل في جيشه، فيتمكّن الخيّال من السير لمسافات ولمدد أطول بكثير، لأن لديه حصانين يسيران من دون حمل وزن في كلّ الأوقات، مما يبقي كل خيوله الثلاثة بمستوى نشاط مناسب للسفر لمسافات طويلة. ويضرب ديزموند مثلا مسير جنكيز خان بجيشه، خلال حملة احتلال سلطنة خوارزم، من باميان إلى غازني عبر كابُل بيومين اثنين فقط، علماً أن المسافة التي قطعها تبلغ 210 كم، في واحدة من أكثر سلاسل الجبال وعورة في العالم. وهذه السرعات في تنقّل الجيوش تُعتبر إعجازيّة حتّى في عصرنا هذا.
وعامل آخر ساهم في سرعة انتقال الجيوش المغوليّة كان الإمدادات اللوجيستيّة. فبينما الجيوش تعمل على نقل إمداداتها عبر خطوط خلفيّة يجب أن تُؤمّن، كان الجيش المغوليّ يتطلّع إلى الإمداد من الأراضي التي سيصل إليها. ويشرح ديزموند أن الجيش المغولي لم يكن ينقل معه المؤن، فالجندي المغوليّ كان بإمكانه أن يمضي عشرة أيام دون أن يأكل طعاماً مطبوخاً، فقد كان بإمكانه أن يعتمد على زوّادة شخصية فيها أربعة كلغ من الحليب الرائب المجفّف وليترين من مشروب حليب مخمّر وكميّة من اللّحم المقدّد، وإذا ما نفدت الكميّة قبل الوصول إلى مصدر غذاء جديد كان يقيت نفسه عبر إحداث شقّ صغير في رقبة حصانه ليشرب من دمه. وعند الوصول إلى منطقة هدف الحملة العسكريّة يعمل الجنود على تمشيطها للتموّن. أمّا الحصان فكما ذكرنا سابقا هو شديد التحمّل ويقتات من أعشاب الأرض، فلا حاجة لتحمّل نقل غذاء له، بينما يكفيه القليل من الماء. وهذا سهّل تنقّل الجيش من دون الحاجة لتأمين الخطوط الخلفيّة أو السير على سرعة البغال أو الثيران، التي عادة ما كانت تُستعمل لنقل الإمدادات. وهذا ما خلق جيشاً سريعاً يباغت الأعداء وله قدرة مناورة استثنائيّة في المعركة وخلال نصب الكمائن خارج أرض المعركة.

كيف وقفت الآلة؟

في القرنين الثالث عشر والرابع عشر ميلاديّ شكّلت الجيوش المغوليّة، وبالرغم من النزاعات الداخليّة في الإمبراطوريّة بين أحفاد جنكيز خان، الآلة العسكريّة الأمضى، التي أرعبت العالم من أقاصي شرق آسيا إلى غرب أوروبا ــ بعدما عبّر جوشي خان عن الرغبة في الوصول إلى البحر النهائي (أي المحيط الأطلسي) ومن بعده ابنه باتو خان كان قد حاول ذلك فعلاً حتّى أنّه حاصر فيينا ــ ليكون الخان الأعظم خان كل ما بين المحيطات حقّاً. ولكن هذه الآلة توقّفت فجأة عن التوسّع ولم تحتلّ العالم كلّه، ويعود الفضل بهذا لمعركتين أساسيتين سنأتي على ذكرهما في مقالات قادمة، وهما معركتا «عين جالوت» و«خليج هاكاتا».
* باحث لبناني