ما يجري في سوريا وغير بلد عربي يتجاوز حدود تسليع الفرد، إلى مستويات أخرى وآليات تضمن لأصحاب رؤوس المال تحقيق أعلى معدل من الربح والتراكم. ومعلوماً أن إثارة الحروب وإدارتها، وكذلك الاستثمار فيها، يعود على الدول والشركات الكبرى بمكاسب مالية تفوق تكاليف تمويل الميليشيات بكثير. ويدلل على ذلك ما يحصل في غير بلد عربي من تدمير ممنهج ومدروس. إن أوضاع الحرب في سوريا، العراق، اليمن، وليبيا، تؤكد أن واشنطن ودولاً أخرى، مستعدة لصرف مليارات الدولارات من أجل إطالة أمد الحروب.
ولا يتناقض ذلك مع اشتغالها على تحميل بعض الدول الإقليمية، وبشكل خاص الخليجية، تكاليف الحروب الدائرة. وترى الدول والشركات الكبرى، أن تسليح الجماعات والأطراف المتصارعة وتمويلها، ولاحقاً إعادة هيكلة الجيوش وتأهيلها في أكثر من دولة، والاستثمار في إعادة الإعمار، سيدرُّ عليها أرباحاً يصعب علينا تقديرها.
هذا يعني أن الحروب التي تدور رحاها في الدول العربية، تندرج في إطار آليات اشتغال رأس المال الصناعي والعسكري والخدماتي وأيضاً النقدي. بكلام آخر، إن من أهدافها الرئيسية مضاعفة الربح، وزيادة مركَزة رأس المال لصالح الدول الغربية. ويتجاوز ذلك حدود الدول الضالعة في الحروب بشكل مباشر، إلى دول أخرى مثل الصين التي سيكون لها دور سياسي واقتصادي في سوريا، وغيرها من الدول التي تحوّلت لساحات صراع ونزاع. وتندرج مصالح دول أخرى مثل إيران وتركيا والعربية السعودية وقطر... في الإطار ذاته. وجميعها إضافة لموسكو تدخل في سباق مع الزمن، لتثبيت مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية. ويكشف عن ذلك حجم التباين والخلاف وحتى التناقض بين الدول المشاركة في حروب الإقليم.

تحويل سوريا إلى مسرح
للحروب يكشف عن البُعد الإمبريالي للحكومات الرأسمالية

والتناقضات المخفية، وتلك الأخرى التي يتم الإعلان عنها بين الدول المشاركة في حروب المنطقة، تتجاوز حدود الاقتصاد والمال، إلى مستويات أيديولوجية يمارس من خلالها النافذون في إدارة المعارك عمليات توظيف واستثمار الأوضاع الدينية والعقائدية والمذهبية والطائفية وقضايا أخرى مشابهة، لإبعاد الصراع عن جذوره الحقيقية السياسية منها والاقتصادية. وجميعها عوامل تتعلق بالتناقضات البنيوية لرأس المال، وما يتعرض له من أزمات تربطها صلات عميقة بالتناقض الداخلي لتركيبة النظام الرأسمالي الذي يميل منذ عقود إلى تمييل رأس المال، ومضاعفة حجم التراكم غير المستند إلى الإنتاج المادي. وذلك يشمل الدول الرأسمالية الكلاسيكية، والشركات العابرة للحدود والجنسية، إضافة إلى المؤسسات المالية الكبرى. ما يعني اتساع الفقاعة المالية وازدياد حجمها. ونشير هنا إلى أن مخاطر انفجار الفقاعة المالية، سينعكس بأشكال سلبية متباينة على البشرية جمعاء. ويتعلق ذلك بدرجة ارتباط تشكّل الفقاعة المالية بالأزمة البنيوية لرأس المال المعولم. فالإصرار على معالجة أزمات رأس المال البنيوية، بذات الآليات القائمة على الاحتكار والهيمنة ومركزة الربح، يفاقم من درجة الإفقار والاستقطاب على المستوى العالمي. ما ينذر بنشوء أزمة عامة وشاملة من أسبابها تمييل رأس المال واتسام آليات اشتغاله بالتناقض والفوضى والاضطراب وإثارة الحروب. يضاف إلى ذلك، اشتغال المؤسسات المالية العالمية والشركات العملاقة على فرض ميول وسياسات اقتصادية نقدية ومالية تتناقض كلياً مع أي ملح اجتماعي. ويتجلى ذلك بأوضح أشكاله في البلدان الطرفية التابعة اقتصادياً والمرتهنة سياسياً للغرب الرأسمالي. وذلك من خلال إخضاعها لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الحرة. وتستخدم الحكومات الرأسمالية وتحديداً واشنطن لتحقيق أهدافها الموغلة في الرجعية، أحدث ما وصلت إليه ثورة التقانة في مجالات المعلوماتية والاتصالات والإعلام، وأيضاً العلوم التطبيقية في مجال الصناعات العسكرية والجرثومية والبيولوجية. وتكشف الحروب الإمبريالية في بلادنا وعليها، عن تقاطع الصراع على إعادة اقتسام العالم، مع تحويلنا إلى حقل تجارب لصناعاتهم العسكرية، ومختبرات لدراسات علماء الغرب النفسية والعصبية.
إن ما تم ذكره إضافة إلى قضايا أخرى نناقشها لاحقاً، يندرج في إطار الحوار الرأسمالي خارج الأطر الجغرافية للدول الكبرى. والحوار وفق منظورنا، يمكن أن يأخذ أبعاداً ومستويات وأشكالاً شديدة الهمجية والبربرية. لكن الثابت أن جميعها يميل إلى توظيفنا نحن العرب، كأدوات في حواراتهم الدموية العابرة للزمن والجغرافيا. وذلك بهدف تعميق نهب ثرواتنا وفرض شروط الهيمنة، وأيضاً تدمير تاريخنا وملامح حضارتنا الموغلة في الزمن. وجميعها يتجلى في كونه تعبيراً عن آليات وعدّة اشتغال رأس المال العابر للحدود والجنسية. فلغة القوة العسكرية ذات البعد السياسي الإمبريالي باتت أساس التواصل الرأسمالي خارج حدود الدول الكبرى. والسبيل الوحيد لتحقيق المكاسب والنفوذ والهيمنة.
إن تحويل سوريا وبلاد عربية أخرى، إلى مسرح للصراع والحروب، يكشف عن البُعد الإمبريالي للحكومات الرأسمالية. ويتجلى ذلك بوضوح من خلال الصراع على تقاسم مناطق النفوذ والسيطرة، والاستثمار في مشاريع إعادة الإعمار. وكل ذلك يتموضع في الإطار الإمبريالي. ما يعني إصرار الدول المتصارعة على إضعاف الدولة الكيانية وتطييفها أو فدرلتها. يضاف إلى ذلك سلبها السيادة الاقتصاديّة ومنعها من تطوير مواردها الطبيعية والبشرية، وإلغاء أي دور تنموي أو اجتماعي للدولة. وجميعها يؤسس لمزيد من التوتّر السياسيّ وأيضاً الحروب.
وبناءً على المعطيات الدَّالة على أن إثارة الحروب، والاستثمار فيها، وأيضاً إدارتها، تشكل مدخلاً للاستحواذ على عقود الاستثمار وإعادة الإعمار في سوريا والعراق وغير دولة عربية. يمكننا الإشارة إلى أن اشتغال حكومات الدول الرأسمالية الكبرى في إطالة زمن الحرب، يندرج في إطار الفعل الإمبريالي، وتربطه علاقة مباشرة بمصالح الإمبرياليات المتناقضة. وما يجري من تدمير ممنهج لموارد بلداننا، وقواها العاملة، وأيضاً بنيتها التحتية، فإنه يندرج في إطار تحييدنا كشعوب ودول عن سياق الفاعلية السياسية والثقافية والاقتصادية و«العملية الإنتاجية» أولاً، وإخراجنا من التاريخ ثانياً. وفي سياق رؤيتنا الآنفة، يمكننا القول بأن الحرب وكذلك إعادة الإعمار يشكلان أحد أدوات المجمع الصناعي ـ العسكري لبسط نفوذ الشركات الكبرى وأيضاً اللوبيات. ومردّ ذلك ضمان التراكم في دول المركز. وجميعها يستدعي منا نحن الشعوب المقهورة والمستَغَلة التمسك بمقاومة مشاريع الهيمنة الرأسمالية بصيغتها الإمبريالية المركزية. ويقودنا ذلك للتساؤل حول إشكالية تفكير بعض النخب السياسية الحاكمة والفكرية التي ما زالت ترى إمكانية في التكيف مع الهيمنة الإمبريالية، وبناء نماذج حداثوية تحاكي التجارب الغربية أو تتماهى معها.
ويبرز في سياق الحروب الإمبريالية على أراضينا وبدمائنا. أن ثمة أهدافاً أخرى تتعلق بالصراع من أجل الهيمنة على مصادر الطاقة وطرق وآليات تسويقها. والأهم إعادة تشكيل أوضاع دولنا الاقتصادية والسياسية من منظور إعادة إنتاج علاقات التبعية والارتهان والهيمنة، وضمن إطار تقاسم الثروات والنفوذ على المستوى العالمي. نشير أخيراً إلى أن من أسباب خطورة إعادة إنتاج الأدوار الإقليمية لغير دولة عربية ومنها سوريا والعراق. هو إدراجها في إطار مشروع شرق أوسط جديد يضمن استمرار مصالح واشنطن السياسية والاقتصادية، ومصالح حلفائها الأوروبيين والإقليميين وتحديداً إسرائيل. وذلك سينعكس على مآلات حل القضية الفلسطينية سواء كان ذلك على أساس الدولة الواحدة أو الدولتين، أو غير ذلك من احتمالات.
من جانب آخر، تبرز على سطح الحروب الدائرة في بلداننا، مخاطر تحويلنا لعمال أحرار لا نمتلك من خيارات إلّا بيع قوة عملنا. وذلك تمهيداً لتحويل دولنا ومجتمعاتنا إلى مجالات مفتوحة للاستثمار، وأدوات لتمكين هيمنة وآليات اشتغال المؤسسات المالية الكبرى، والشركات العابرة للحدود والجنسية. وبطبيعة الحال فإن التحولات المذكورة تؤسس لمنظومات ثقافية وأخلاقية وآليات تفكير سياسية مختلفة عن ما هو سائد حالياً. ويتم على قاعدة الحروب الإمبريالية الراهنة، تفكيك مجتمعاتنا وتذريرها، والدفع إلى تحلل المنظومات الأخلاقية والثقافية بشكل خاص، وفق أشكال تناسب آليات وميول رأس المال الاحتكاري والمالي المتحلل من كل القيم الأخلاقية.
* كاتب سوري