عند البحث في تاريخ الإمبراطوريّة المغوليّة، يتّضح أنّ معركة «عين جالوت» كانت أكثر المعارك نقاشاً من قبل المؤرّخين، لما لها من محورية في وقف التوسع المغوليّ. ويذهب الكثير منهم لتصنيفها ضمن فئة المعارك التي حدّدت مصير العالم أجمع. والواضح، من التسلسل الزمنيّ، أنّ التوسّع المغوليّ غرباً توقّف بعد الهزيمة التي مُني بها أمام جيش المماليك في «عين جالوت».
تجمّع العوامل: المماليك وجغرافيا بلاد الشام

حين مقاربة معركة «عين جالوت»، وقبل الغوص في تفاصيلها ونتائجها، لا بدّ من الحديث عن المماليك كقوّة عسكريّة. يقول تشارلز هالبِرين، في بحثه «الصلة القفجاقيّة: إلْخان والمماليك وعين جالوت» (وإلخان هو اسم خاقانيّة فارس التي أسّسها هولاكو)، إنّ معظم المماليك الذين أتى بهم الأيّوبيّون إلى مصر يتحدّرون من قبائل «القفجاق» التركيّة. وهذه القبائل كانت تنتشر قبل الاجتياح المغوليّ من شمال البحر الأسود إلى حدود الصين، دون أن تشكّل وحدة سياسيّة في أي مرحلة من تاريخها. وكانوا شعب قبائل رُحّل أتقن ركوب الخيل والرماية عن ظهورها. ومع الهزائم المتتالية، على أثر توسّع المغول وكبر رقعة انتشارهم في السهوب الأوراسيّة، دخلت قبائلهم تدريجاً في القوّات العسكريّة المغوليّة (أولى المعارك التي شاركوا فيها ضمن صفوف الجيش المغوليّ كانت معركة نهر «كالكا» عام 1223) حتّى هزيمتهم النهائيّة عام 1241 التي أدخلت كلّ قبائلهم ضمن قوّات الجيش المغوليّ الفاعلة. وأعيد توزيعهم تباعاً على خاقانيّات الإمبراطوريّة من الصين إلى شرق أوروبا، ضمن عمليّة «إعادة الهندسة الاجتماعيّة» التي عادة ما اتّبعها المغول. وأكثر الخاقانيّات التي استعملتهم في عديد جيوشها كانت خاقانيّة سلالة «جوشي» في غرب الإمبراطوريّة، التي عُرفت في ما بعد بخاقانيّة «الجحفل الذهبي».
ويشرح «هالبِرين» أنّ الاجتياح المغولي لغرب السهوب الأوراسيّة خلق سلسلة تفاعلات أدّت إلى نشوء دولة مماليك مصر التي كانت تتألّف طبقة النخبة العسكريّة والإداريّة فيها من المتحدّرين من القبائل التركيّة والمغوليّة التي هجّرها المغول من سهوب وسط آسيا وقزوين، فيما كانت النخب الأكثر تأثيراً تلك المتحدّرة من قبائل «القفجاق».
أمّا مماليك مصر، فإنّهم ــ إضافة إلى خلفيّتهم العسكريّة ــ فقد شكّلوا مؤسّسة عسكريّة واضحة الهرميّة وشديدة الفعاليّة، تحرص على مراكمة خبراتها ونقلها عبر الأجيال. ويشرح جون ماسّون سميث، في بحثه «عين جالوت: نجاح مملوكيّ أم فشل مغوليّ؟»، بعض محتويات دليل التدريب المملوكيّ، حيث كان التدريب يوميّاً وبحضور السلطان الذي كان يشرف شخصيّاً على تدريبات خمس العسكر مداورة. وأهمّ التدريبات كانت أشكال الرماية المتنوّعة، التي عادة ما أتقنها المماليك عن ظهر الخيل المتحركة، حتى قبل شرائهم وانخراطهم في الجيش، بسبب التربية عليها منذ الصغر في قبائلهم. ولكن تدريبات المماليك كانت تركّز على الرماية الدقيقة من موقع ثابت عن مسافات بعيدة، فكان المستوى المقبول للمملوك المصريّ هو إصابة دائرة قطرها متر عن بعد 70 متراً بثلاثة أسهم متتالية، بمعدّل رماية سهمين في الثانية. ويصنّف سميث هذه الأرقام بالمذهلة، فهي تضاهي دقة إصابة أفضل الرماة المعاصرين (علماً أنّ الأقواس والأسهم المتوافرة اليوم أكثر تطوّراً من تلك التي استعملها المماليك).

اعتمد المغول
على الهجوم بثلاث أمواج متتابعة من صفوف الخيّالة الرماة

وهذا النوع من التدريب والمهارة في الرماية هو أحد أسباب انتصار المماليك في معركة عين جالوت، كما يقول سميث. فالمغول كانوا يعتمدون على الهجوم بثلاث أمواج متتابعة من صفوف الخيّالة الرماة في كل هجوم، حيث يرمي خيّالة الموجة الأولى ثمّ يفسحون المجال لخيّالة الموجة التالية بتنسيق عال جداً، وهكذا دواليك حتى تتكسّر صفوف الأعداء صفّاً بعد صف. ومع أنّ الرّامي المغوليّ كان بإمكانه الرمي رماية دقيقة عن ظهر خيل متحرّك من بعد 150 متراً، إلّا أنّه لم يكن بإمكانه أن يكون بدقّة الجندي المملوكيّ إلّا عن بعد 30 متراً (الرماية عن ظهر حصان متحرّك أصعب بكثير من الرماية من موقع ثابت، حتى لو كان القوس المغوليّ أكثر تطوراً). وهذا الفارق الكبير في المديات أعطى أفضليّة كبيرة للجندي المملوكيّ الواقف في انتظار أمواج الخيّالة المغوليّة لتقترب إلى مداه القاتل حتى يرمي قبل أن يتسنّى للخيّال المغوليّ فرصة رماية دقيقة حقيقيّة. أمّا مشكلة الأمواج الثلاث المتتالية، فكانت تتكفّل بها سرعة رماية الجنديّ المملوكي التي أشرنا إليها سابقاً، فيكفي صفّ رماة واحد من المماليك للتصدّي لموجات الهجمات المغوليّة المتتالية.
ولكن هذه الأفضليّة في الرماية لم تكن كافيّة لتحقيق الانتصار، فبينما كان بإمكان الجندي المملوكيّ صدّ مجموعة من الخيّالة الرماة المغول، لم يكن بإمكانه التفوّق على تكرار الهجمات إن كانت أعدادهم كبيرة تفوق سرعته في الرماية أو مخزونه من السهام. كما ذكرنا في المقال السابق، إنّ الجنديّ المغولي كان يأخذ معه إلى الحرب ثلاثة أحصنة على الأقل، وفي حروب الشرق الأوسط كان الرقم يرتفع إلى خمسة أو ستة أحصنة بحسب سميث، فبإمكان الخيّال الهجوم والمراوغة دون اعتبار لحالة الحصان لأنه سيستبدله ما إن ينهي هجومه وينطلق في هجوم جديد. وإذا ما أضفنا هذا العامل إلى التفوق العدديّ كبير، يمكن معرفة لماذا لم يكن ليتمكّن المماليك من صدّ هجومات المغول المتتالية لفترة طويلة، في ظلّ العديد الهائل من الخيّالة والخيل التي لن ينالها التعب بسبب مداورة الخيّال على 3-5 أحصنة في المعركة. ولكن هذا ما لم يحصل، فبالرغم من أنّ هولاكو دخل سوريا بستة «تومين» (60000 جندي)، إلّا أنّ معركة عين جالوت خيضت «بتومين» واحد في مقابل 12000 للمماليك (فيهم 6000 مملوك)، كما قدّر «سميث». وهذا حرم المغول استعمال مخزون لا نهائيّ من الخيّالة والأحصنة المرتاحة والمفعمة بالنشاط، فيما الخيّالة المماليك لم يستعملوا أحصنتهم إلّا حين تعبت أحصنة خيّالة المغول لينقضّوا عليهم ويلحقوا بهم الهزيمة. وبينما يفسّر الكثيرون سحب هولاكو لجلّ جيشه من سوريا بتوجّهه إلى «كراكاروم» (عاصمة الإمبراطوريّة في منغوليا) لدعم أخيه «قوبلاي خان» في الحرب الأهلية المغوليّة، يقول «سميث» إنّ السبب الرئيسيّ كان لوجيستيّاً. وليبرهن ذلك، يستعين سميث بمسارات كلّ الاجتياحات المغوليّة لسوريا في فترة الحروب المغوليّة-المملوكيّة (1260-1303) التي كانت تبدأ بستة «تومانات» وتنتهي بواحد بعد سحب خمسة مع انتصاف موسم الربيع. والسبب الرئيسيّ هو اعتماد المغول على التموين من الأمام وليس من الخلف كما ذكرنا في المقال السابق، مع ما يعنيه ذلك من ضرورة تأمين مراعٍ (سهول أو سهوب) تكفي لثلاثمئة ألف حصان، وهو ما لا يمكن تأمينه في سوريا بعد انقضاء موسم المطر.

في انتظار انقضاء موسم المطر

فرض تجمّع هذه العوامل هزيمة على المغول الغزاة في «عين جالوت»، ومجموعة من «الهزائم بالنقاط» وأخرى جليّة أوقفت تقدّمهم غرباً في منطقتنا نحو شمال أفريقيا والأطلسي. ويمكن رؤية تأثير غياب المراعي عن هنغاريا وبولندا في وقف الزحف غرباً في أوروبا أيضاً، حيث كان المغول ينتصرون في المعارك ولكنهم غير قادرين على الاستقرار فينسحبون. ولكن العامل الجغرافيّ لم يكن كافياً، فممالك أوروبا الشرقيّة التي لم يستقر فيها المغول بقيت تعترف بسيادتهم عليها وتدفع لهم الجزية حتى انتصاف القرن الرابع عشر.
في المقابل، لعب المماليك، وهم الخبراء بتكتيكات المغول العسكريّة، بفعل خلفيّاتهم الإثنيّة كما وضّحنا سابقاً، على عامل تفوّقهم العسكريّ التقنيّ في بعض النواحي، بالإضافة إلى العامل الجغرافي. ففي كلّ الاجتياحات المغوليّة لسوريا، التي دائماً ما كانت تبدأ في الشتاء، كان المماليك ينسحبون إلى مصر ويتركون في بلاد الشام حاميات المدن فقط، وعند نهاية الربيع - الذي دائماً ما كان يتزامن مع انسحاب أغلب القوّات المغوليّة - كانوا يتقدّمون بجيوشهم من مصر إلى سوريا ليقاتلوا أعداداً مغوليّة تتناسب مع عديدهم المحدود (لم يتخطّ عدد المماليك في جيش سلطنة مصر المملوكيّة الـ12000 مقاتل) وأسلوب قتالهم. هذه الاستراتيجيّة، بالرغم من أنّها لم تبعد الخطر المغوليّ كلّياً، إلّا أنّها حافظت على سيادة السلطنة المملوكيّة ومكّنتها من تشكيل عامل صدّ، حمى المشرق العربي من الذوبان الكليّ في الامبراطوريّة المغوليّة.
وبالرغم من أهمّية هذه المعركة ومحوريتها، إلّا أنّها لم تكن الأكثر تأثيراً في تاريخ التوسّع المغوليّ وفعّاليته، ولم تكن الأكثر إثارة للدهشة من حيث الفارق في الأعداد والعتاد. وهذا ما سنناقشه في مقال لاحق، حيث سنبحث في مجريات معركة خليج «هاكاتا» ونتائجها.
* كاتب لبناني