تلقيتُ قبل أشهر رسالة إلكترونيّة من الزميل، جيمس ستوكر1، يُعلمني فيها أنه وقع أثناء بحثه في الأرشيف الأميركي على وثيقة أميركيّة جديدة مُفرَج عنها، وأنها ستحوز على اهتمامي لإشارتها مبكّراً — أي في عام ١٩٦٩— لعلاقة بين الأحزاب ــ الميلشيات التابعة لبيار الجميّل وكميل شمعون والعدوّ الاسرائيلي.
تشوّقتُ لقراءة الوثيقة الجديدة، لكن أشهرَ مرّت، وأرسلَ لي مجدّداً أنه كان مشغولاً وأنه سيعدّ الوثيقة كي ينشرها على صفحته كي أراها، وقد وفى بوعده قبل أسبوع. والوثيقة مذهلة من حيث ضلوع الحكومة الأميركيّة في الأزمة اللبنانيّة في عام ١٩٦٩ ومن حيث جديّة التفكير الأميركي في التدخّل العسكري في لبنان لإنقاذ نظام كان يمكن أن يكون متهاوياً.
ليس هناك من سياسة داخليّة في لبنان. كل سياسة داخليّة لها ضلع أو أكثر في السفارات الغربيّة. ليس هناك من شأن سياسي في لبنان لا تقحم فيه دول الغرب أنفَها. ووثائق الحكومات الغربيّة، خصوصاً الأميركيّة منها إذ أنها باتت أقل صرامة في الإفراج والمراقبة من قبل عن مراحل تاريخيّة معيّنة، تفضح الهوّة الكبيرة بين الخطاب الرسمي المُعلَن للسياسيّين والخطاب الحقيقي الذي يسرّون به لمبعوثي الحكومة الأميركيّة. خذ (أو خذي) مثلاً وثيقة من ١٠ نوفمبر من عام ١٩٤٨، عندما كان رياض الصلح يجهر برفضه القاطع لوجود إسرائيل.في الوثيقة ترد موافقة رياض الصلح على حل سلمي بين العرب وإسرائيل على أساس القبول «بوجود إسرائيل كدولة»2. والوثائق الأميركيّة هي ترسيخ لطبيعة السياسة العربيّة منذ عام ١٩٤٨: أن تعامل الحكومات العربيّة مع أميركا تجري على نقيض من الخطاب الرسمي لتلك الحكومات.
وفي عام ١٩٦٩، اندلعت أزمة سياسيّة في لبنان كادت ان تشعل حرباً أهليّة. هل المخطّط الأميركي ـ الإسرائيلي الذي أشعل حرباً أهليّة في لبنان في عام ١٩٧٥ حاول أن يفجّر لبنان من أجل القضاء المبكّر على العمل الفدائي فيه؟ أم أن الحكومة الأميركيّة والاسرائيليّة كانتا شديدتي القلق من تنامي النفوذ اليساري في لبنان؟ كان من الواضح أن الميلشيات اللبنانيّة («كتائب» و«أحرار») كانت تقوم بجملة من الاستفزازات الطائفيّة والسياسيّة ضد خصومها: من حرق شاحنات سعوديّة تنقل نسخاً من القرآن على كوع الكحّالة، إلى ضرب الطلاّب في المدارس والجامعات، إلى توقيف عناصر فلسطينيّة بمناسبة وغير مناسبة. وفي آذار ١٩٦٩ أطلقت ميليشيات اليمين النارعلى قافلة سيّارات لفدائيّين عائدين من جنازة شهداء سقطوا في الجنوب اللبناني (كانت هذه بمثابة مجزرة عين الرمّانة الأولى). وذكرَ كمال صليبي في كتابه عن تاريخ الحرب الأهليّة أنه كان للمخابرات اللبنانيّة دور «سريّ» فيها 3، فيما أكّد الديبلوماسي الأميركي، روبرت أوكلي، الذي خدم في لبنان في تلك الفترة، أن كميل شمعون اعترف له بمسؤوليّة مؤيّديه عنها 4. كانت تلك الميلشيات اليمينيّة تستدرج أعداءها لمنازلة مبكّرة، وتستدرج رعاتها في تل أبيب وواشنطن لتدخّل عسكري مباشر. كان مقدّراً على لبنان أن يخوضَ أيّاراً أسود، قبل سنة من أيلول الأسود في الأردن. لكن الانقسام الطائفي (والسياسي) وتنامي نفوذ الأحزاب اليساريّة والقوميّة فوّت على الأعداء تلك الفرصة. لكن فصول المؤامرة كانت واضحة آنذاك.

عمّ الطرح الانعزالي عن أن ميلشيات اليمين لم تحمل السلاح إلا ضد مخطط التوطين الفلسطيني


ورد في كلام كمال جنبلاط آنذاك عناوين عن فصول المؤامرة (مع أنه كان حريصاً على الحفاظ على النظام اللبناني وكان يميّز بين موقفه وبين مواقف المتطرّفين في قوى اليسار، والتي حرص جنبلاط على تمييز نفسه عنها حتى عام ١٩٧٥). والحكم اللبناني أراد تحوير الأنظار عن غضبة شعبيّة متنامية، خصوصاً بعد قمع وحشي لتظاهرة نيسان الشهيرة، من أجل لوْم الشعب الفلسطيني على المشاكل الداخليّة اللبنانيّة. والحكم اللبناني (بشخص رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة آنذاك، رشيد كرامي) شارك في المؤامرة عندما خالف بنود اتفاق بين الدول المحيطة بفلسطين المحتلّة من أجل عدم كشف معلومات عن الوجود الفدائي على أراضيها. وتحدّث جنبلاط في خطاب له في المجلس النيابي محمّلاً الدولة المسؤوليّة عن «إعطاء مبرّر عالمي جهاراً وفي وضح النهار لإسرائيل تتذرّع به للاعتداء على لبنان... وقد أدّت جهالة الدولة في فضح ما كان يجب أن يكون سرّاً مقدّساً... إلى تقديم خدمة لا تقدّر بثمن للصحافة العالميّة المتأثّرة بالصهيونيّة وللدبلوماسيّة الإسرائيليّة لأجل تمهيد الأجواء وتبرير أي اعتداء تقوم به إسرائيل على لبنان» 5.
تسارعت الأحداث في أيّام وأسابيع الأزمة التي جمّدت عمل الدولة (العلني)، فيما كانت أجهزة الدولة السريّة (أي التابعة لرئيس الجمهوريّة والخارجة عن أي رقابة أو سلطة) ناشطة في التواصل مع الحليف الأميركي ومع العدوّ الإسرائيلي. وكانت الحكومة الأميركيّة تراقب الوضع اللبناني عن كثب 6. وقد أعدّت «مجموعة واشنطن للعمليّات الخاصّة» في البيت الأبيض سيناريوهات تدخّل أميركي في لبنان (الوثيقة موّجهة من هارولد ساندرز7 إلى هنري كسينجر). وكان النقاش فيها حول خياريْن: خيار مد العوْن للحكومة اللبنانيّة أو للميلشيات اليمينيّة مباشرةً. وتطرح الوثيقة خيارات عدّة أمام الحكومة الأميركيّة (أي بشخص الرئيس، لأن الحكومة الأميركيّة لم تكن تعترف في حكومة لبنان إلا بشخص الرئيس، وكانت تصرّ على أن ينتدب الأخير شخصاً غير مُعلن كي يتولّى ملف العلاقة السريّة مع الأميركيّين خارج الأقنية الدبلوماسيّة التقليديّة). وتروي الوثيقة ما كان غير مُعلن يومها: أن شارل الحلو فكّر في أمر إعلان حكومة عسكريّة. ولا ندري إذا كانت الفكرة فكرة أميركيّة جاهزة، لأن سليمان فرنجيّة لجأ إليها في عام ١٩٧٦، لكنها لم تقوَ على الصمود بسبب معارضة إسلاميّة ويساريّة ضدّها. وتقول الوثيقة إن حلو طرح الفكرة أكثر من مرّة. والوثيقة تسلّط الضوء على حقيقة غيّبتها السرديّات اليمينيّة الانعزاليّة عن تاريخ الحرب الأهليّة، إذ ان هذه السرديّات بالغت في تقييم الدور الفلسطيني وقلّلت عن قصد للبعد الداخلي (العقائدي والطائفي) للصراع الأهلي. والطرح الانعزالي عمّ عن أن ميلشيات اليمين لم تحمل السلاح إلا ضد مخطط التوطين الفلسطيني مع أنها لم تدشّن أعمالها الحربيّة إلا بمجازر طائفيّة وحملات تهجير ضد لبنانيّين (كما ضد فلسطينيّين). وأحاديث قادة زعماء الموارنة — الذين شكّلوا أقطاب «الحلف الثلاثي» السيّئ الذكر الذي لم يكن صعوده في انتخابات ١٩٦٨ إلاّ جزءاً — على الأرجح 8 — من مخطط أميركي ـ إسرائيلي خصوصاً أن «الحلف» أتى بسليمان فرنجيّة رئيساً، وكان مُعدّاً له أن يشنّ الحرب على العمل الفدائي في لبنان 9.
والوثيقة تتحدّث عن «استيلاء يساري» بناء على برنامج يعتمد على دعم الفدائيّين. وكان قادة اليمين يتحدّثون دوماً عن قوى اليسار وضرورة محاربتها بالنيابة عن أميركا (وعن إسرائيل). والوثيقة تقول بصريح العبارة إنه من غير المرُجح أن يقوم الفدائيون بالاستيلاء على السلطة، فيما ترى أنه يمكن أن تقوم قوى «يساريّة وبعثيّة» بمحاولة إحداث «تغيير جذري» في الميزان المسلم ـ المسيحي لصالح المسيحيّين. (إلى هذه الدرجة كانت حكومات الغرب مستثمرة في نظام الهيمنة الطائفيّة، لكنها تكيّفت مع نظام الطائف لعلمها ان قادة طوائف إسلاميّة لا يقلّون طوعاً وانصياعاً لمصالحها عن قادة الموارنة في الزمن السابق). لكن الوثيقة تقلّل من احتمال حدوث استيلاء يساري على السلطة بسبب «المسلمين المحافظين» الذين لديهم مصلحة في الحفاظ على النظام القائم. وهذا التحليل صائب بدليل مواقف القوى الإسلاميّة عينها التي تعاملت مع أحداث ذلك الربيع بالكثير من القلق وبكثير من الرجعيّة. فصبري حمادة، رئيس المجلس النيابي يومها، طالب بمنع «الأحزاب العقائديّة». وكمال جنبلاط انتقد مواقف «بعض الأخوان في الأحزاب الأخرى» (وكان هو معارضاً للتظاهرة التي أشعلَ قمعُها الأزمة). وعادل عسيران، وزير الداخليّة يومها، زعم أن التظاهرة كانت «بأيدٍ غريبة» 10. وعثمان الدنا، الذي كان بشير الجميّل قد وعده بالوزارة في حكومة لم يُقدّر لها ان ترى النور، حمّل «هدم» الأحزاب التقدميّة المسؤوليّة عن الأزمة 11.
وتتحدّث الوثيقة عن احتمال اشتعال حرب طائفيّة في لبنان وتقول إن «الكتائب مستعدّة للدفاع عن المسيحيّين ضد اعتداء مسلم وحتى للتعاون مع إسرائيل في ذلك». وتحلّل الوثيقة إمكانيّات التدخّل الخارجي فتقول إن جيش العدوّ الإسرائيلي مستعد للتدخل في حال دخول قوّات سوريّة نظاميّة إلى لبنان، وأن هناك احتمالاً قوياً أن إسرائيل «ستحتلّ قسماً من جنوب لبنان» أو أن تهاجم دمشق نفسها.
أما عن التدخّل العسكري الأميركي فتقول الوثيقة ان فشل عمليّات الترحيل العاديّة للأميركيّين في لبنان قد تستدعي ضرورة تدخّل عسكري أميركي لانقاذهم. والخطة تتطلّب هبوط طائرات أميركيّة في مطار بيروت مع سرية مشاة مُجوقَل للسيطرة على المطار. وقد «يلحق ذلك تعزيزات لضمان طرق الترحيل». وتضيف الخطّة أن طائرات محمّلة بقوات «أمنيّة» يمكن أن تصل إلى بيروت في غضون ٤٨ ساعة. أما الأسطول السادس فهو لم يكن يبعد أكثر من ٤٥ ساعة عن بيروت. لكن كان لأميركا خطة تدخّل أبعد وأشمل بكثير من خطة ترحيل الرعايا الأميركيّين في لبنان.
لحظت الخطة احتمال تدخّل عسكري أميركي في حال تعرّض «الحكم المعتدل» (هذه الصياغة تعني حكم رئيس الجمهوريّة فقط) لخطر وفي حال توجهه بطلب مساعدة لإنقاذه من «سيطرة يساريّة». وتتدرّج الخطّة الأميركيّة من «عرض القوّة الأميركيّة»، إلى «إنزال جوّي أو هبوط مظلّي لمساعدة القوّات اللبنانيّة» على فرض السيطرة. وتبحث الوثيقة في تفاصيل القوّة العسكريّة المنوي استخدامها، فتتحدّث عن الحاجة إلى لوائيْن محموليْن وكتيبة فريق مارينز للانزال. وتقول الوثيقة إنه يمكن إنزال قوة كهذه في غضون ٢٤ ساعة. وتضيف أن تعزيزات إضافيّة من الولايات المتحدة تتطلّب تعهداً من جسر جوّي منهمك في حرب فيتنام.
لكن الوثيقة لا تنفي ان التدخّل العسكري الأميركي في لبنان سيكون محفوفاً بالمخاطر، التي حلّلت تلك الوثيقة أبعادَها. وتذكر أوّل ما تذكر ردّة فعل عدائيّة من قبل عرب وسوفيات. وأخذ ردّة الفعل في عين الاعتبار تستدعي، على ما ورد، تدعيم القوّة العسكريّة بأكثر من القوّة التدشينيّة، مما يتطلّب الاستعانة بالجسر الجويّ لفيتنام، وهذا يحتّم الاستعانة بقوّات جاهزة لحالات طوارئ أخرى. وتلحظ الوثيقة إمكانيّة هجوم «معظم العالم العربي» على أفراد أميركيّين وممتلكاتهم. لكن سيناريو الدعم الأميركي لميلشيات الأطراف اليمينيّة صيغت بلغة غريبة بعض الشيء إذ أنها تتحدّث عن «تزويد اللبنانيّين المسيحيّين بوسائل الدفاع عن النفس ضد هجمات من مسلمين، لكن من دون تدخّل عسكري أميركي. ويمكن لوكالة المخابرات الأميركيّة 12 أن تزوّد هذه المجموعة بالسلاح سرّاً». لكن الوثيقة تضيف أن هناك مجازفة في هذا الخيار لأنه «يضعنا (أي يضع أميركا) في تواطؤ مع مجموعة مستعدّة ان تستدعي تدخلاً إسرائيلياً في لبنان إذا اقتضت الضرورة لإنقاذ المجموعة المسيحيّة».أي أن الحكومة الأميركيّة خشيت من ردّة الرأي العام العربي من تحالف مع قوى لبنانيّة متحالفة مع إسرائيل.

خشيت الحكومة الأميركيّة من ردّة الرأي العام العربي من تحالف مع قوى لبنانيّة متحالفة مع إسرائيل


وتطرح الوثيقة إمكانيّات أو سيناريوهات أخرى للتدخّل العسكري الأميركي في لبنان. وتقول إن اجتياحاً سورياً للبنان سيستدعي تدخلاً عسكريّاً أميركيّاً يترواح بين عرض قوّة ودعم جوّي تكتيكي للقوّات اللبنانيّة إلى خيار كامل من التدخّل الجوّي والبحري والبرّي. ويذكّر التقرير مرّة أخرى أن الالتزامات الأميركيّة في فيتنام تحدّ من القدرة على القيام بتدخّل عسكري كبير في لبنان. ويظهر في التقرير الحد الذي أثّرت فيه حرب فيتنام على الرغبة والإرادة الأميركيّة في التدخّل في أماكن مختلفة من العالم. ولا تستبعد أميركا احتمال حصول «تضارب سوفياتي ـ أميركي» وردّة فعل عربيّة عدائيّة في هذه الحالة. (لكن الوثيقة لم تذكر ردّة فعل مصريّة ربمّا لأن عبد الناصر كان جازماً في رفض فكرة تغيير النظام في لبنان) 13.
والتحليل في الوثيقة يعكس مرحلة باتت غابرة في صنع السياسية الخارجيّة الأميركيّة. إذ أن لغة الوثيقة تدخل في مصطلحات المستعربين في وزارة الخارجيّة الأميركيّة. إذ أن سيناريو التدخل العسكري الإسرائيلي ضد تدخّل عسكري سوري في لبنان يتبعه ملاحظة أنه في هذه الحالة — أي حالة التدخّل العسكري الأميركي — فإن الحكومة الأميركيّة «ستكون مضطرّة لاتخاذ موقف معارض لإسرائيل مخافة المجازفة بفقدان المصداقيّة بالكامل في العالم العربي». وهذه الحجّة كانت عبر العقود حجّة المستعربين في وزارة الخارجيّة الأميركيّة ضد الداعين لزيادة الدعم الأميركي لإسرائيل وحروبها. وكان اللوبي الصهيوني ومناصروه، مثل المؤرّخ الإسرائيلي، باري روبن 14، يقولون إن الشعب العربي لن يكترث لو أن أميركا التصقت بإسرائيل أكثر، وأن المصالح الأميركيّة لن تتضرّر لو أن أميركا تبنّت بالكامل وجهاراً المواقف والحروب الإسرائيليّة. لكن فئة المستعربين في الحكومة الأميركيّة زالت بحلول التسعينيات، وبات اللوبي الإسرائيلي مسيطراً بالكامل على صنع السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط. لكن لا يمكن مخالفة صحّة الحجّة الصهيونيّة بأن الالتصاق الأميركي بإسرائيل لم يكلّف الحكومة الأميركيّة الكثير في العالم العربي، لأن الاحتجاج الشعبي على الدعم الأميركي الكامل للعدوّ الإسرائيلي بات غائباً.
والمُلفت أن محاذير التدخّل العسكري الأميركي في لبنان، الواسع أو المحدود، تمحورت في أكثرها حول مخاطر الاستعانة بقوّات تحتاج إليها الحرب في فيتنام. كما أنها ركّزت على تأثير العداء العربي لإسرائيل على إمكانيّة القيام بتدخّل أميركي عسكري. وهذا يظهر أهميّة عامل الرأي العام العربي — عندما يكون موجوداً — على تقرير سياسة دولة عظمى. كانت الحكومة الأميركيّة تحسب ألف حساب لغضبة الشعب العربي جراء أعمال عسكريّة تنوي القيام بها في بلادنا. هذا يختلف قطعاً عن الواقع الحالي حيث يمكن لصانع القرار الأميركي أن يهمل عامل الرأي العام العربي لأنه ينحصر في غضبته على صفحات الـ«فايسبوك». ولخّص التقرير الموقف الأميركي بالقول «ليس هناك من خيارات جديّة في الأزمة اللبنانيّة بسبب موقفها (أي أميركا) من المسألة العربيّة-الاسرائيليّة». لكن التقرير لا يخلص إلى نفي التدخّل كقرار. لا بل أن يتكرّس اجتماع «مجموعة العمليّات الخاصّة» لبحث مسألة «الحكم في جدوى وكلفة التدخّل العسكري»، والحكم في مسألة ردّة الاتحاد السوفيات على التدخّل العسكري الأميركي، والحكم في «الكلفة السياسيّة» وفي «البدائل السياسيّة».
وتطرح مذكّرة أميركيّة تصحب التقرير المذكور في تفاصيل اجتماع رسمي يحضره الرئيس الأميركي (نيكسون) الذي بدر عنه اهتمام في الشأن اللبناني. وتطرح أيضاً الاختيار بين تسليح الحكم أو تسليح «الأقليّة المسيحيّة». والمذكّرة تضيف أن الخيارات العسكريّة يمكن ألا تكون مؤثّرة (إذا كانت محدودة) وأن أي تدخّل يتطلّب طلباً رسميّاً من شارل حلو. أما في خيار تسليح الميلشيات اليمينيّة فتضيف المذكّرة ملاحظة مفادها أن تسليح القوى المسيحيّة يضع الولايات المتحدة على «الجانب الخاطئ من المسألة — إلى جانب إسرائيل (وهذه المجموعة — المسيحيّة — على صلة بإسرائيل) ضد المسلمين». وهذه الإشارة العرضيّة حول «صلة بإسرائيل» بالغة الأهميّة لأنها تنسف كل الحجج والذرائع والأكاذيب التي صدّرها معمل الدعاية الانعزاليّة حول العلاقة بين ميلشيات اليمين وبين العدوّ الإسرائيلي. أي أن العلاقة بين هذه القوى وبين العدوّ سبقت اندلاع الحرب الأهليّة بست سنوات على الأقلّ، وسبقت صعود المقاومة الفلسطينيّة. لا بل يمكن القول إن العلاقة بين تلك القوى وبين العدوّ الإسرائيلي هي التي أدّت إلى صعود وانفلاش المقاومة الفلسطينية، ربما بإيعاز إسرائيلي من أجل تعطيل فعالية العمل الثوري الفلسطيني.
وأضافت المذكّرة ملاحظة عن غياب بحث ردة فعل الأمم المتحدة على خطة تدخّل عسكري أميركي، وطلبت بمناقشة الذرائع التي ستسوقها أميركا لتسويغ تدخّلها: وهل ان التدخّل سيكتفي مثل عام ١٩٥٨ باستخدام حجّة مناشدة الحكومة (اللبنانيّة) للمساعدة». كما أن المذكّرة تلحظ عدم وجود تحديد للمدّة التي ستقضيها القوّات الأميركيّة في لبنان، لأن ذلك سيؤثّر على العمليّات العسكريّة في فيتنام. لكن الحاجة إلى التدخّل العسكري الأميركي تناقصت بسبب تكالب زعماء لبنان (من مختلف الطوائف) لإنقاذ النظام.
يحتاج التاريخ اللبناني المعاصر، وخصوصاً تاريخ الحرب الأهليّة، إلى إعادة نظر. وثائق الحرب الأهليّة اللبنانيّة من أطرافها اللبنانيّة لن تكون متوفّرة، لأن صانعي الحرب والمجازر أسهموا في تغيير سرديّة الحرب، حتى بعد هزيمتهم العسكريّة. وبقايا أطراف الصراع اللبناني المقابل لم يعد يكترث لمواجهة سرديّة الطرف الانعزالي، خصوصاً وأن بعضه أصبح حليفاً لذلك الطرف. لكن الوثائق الأجنبيّة المتوّفرة يمكن أن تساهم في دحض السرديّة السائدة عن الحرب — حتى قبل اندلاعها الرسمي.

المراجع

1) هو مؤلّف كتاب «ميادين التدخّل: السياسة الأميركيّة الخارجيّة وانهيار لبنان، ١٩٦٧-١٩٧٦»، والذي كتبتُ عنه نقداً وتقييماً ومراجعةً.

2) راجع «السياسة الخارجيّة للولايات المتحدة، عام ١٩٤٨»، الشرق الأدنى، الجزء الخامس، القسم الثاني، ٥٠١، ب.ب. فلسطين.

3) كتاب كمال الصليبي عن الحرب الأهليّة (بالانكليزيّة)، ص. 45

4) يعبّر اوكلي عن دهشته في شهادته للوحشيّة التي بدت عن شمعون و«نموره» وهم يزهون بقتل ٣٠ فلسطينياً وجرح ٤٠. ونمّ كلام أوكلي عن عنصريّة ضد الموارنة في إشارته إلى مظهر غربي وباطن من القرون الوسطى.

5) النص في «النهار»، ٢٤ أيّار، ١٩٦٩. وسيناريو المؤامرة آنذاك يذكّر بنفس سيناريو المؤامرة الحاليّة ضد المقاومة حيث يتطوّع أعضاء لوبي ١٤ آذار لتقديم أخبار وإخباريّات عن وضع المقاومة العسكري—في السرّ («ويكليكس») وفي العلن إلى أعداء المقاومة.

6) ملفتٌ الحد الذي كانت تقارير التلخيص الإخباري الاستخباراتي اليومي المُعدّ للرئيس الأميركي يرصد أخبار لبنان في الحرب الأهليّة. وقد أفرجت وكالة المخابرات الأميركيّة عن بعض نصوص تلك الوثائق من عام ١٩٧٥ و١٩٧٦ بعد مراقبتها وحذف ما تشاء منها — وهو كثير.

7) هو نفسه الذي عمل لسنوات منذ السبعينات في وزارة الخارجيّة الأميركيّة في قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي.

8) ليس هناك من وثائق تؤكّد ذلك، لكن كان هناك توتّر في العلاقة بين الحكومة الأميركيّة وبين المكتب الثاني، الذي حاول تحسينها عبر مسرحيّة تعطيل خطف الاتحاد السوفياتي لطائرة ميراج لبنانيّة.

9) رسمَ فرنجيّة دورَه المستقبل في مقالة «وطني دائماً على حق» في جريدة «النهار» في ١٦ أيّار ١٩٦٩.

10) جريدة «الجريدة»، ١٦ أيّار، ١٩٦٩.
11) جريدة «الجريدة»، 18 أيّار، ١٩٦٩.

12) إن عرض خيار التسليح عبر وكالة المخابرات هنا مهم لأنه يضفي على كتاب ستوكر إضافة ضروريّة بأن وثائق وزارة الخارجيّة المبنيّة على تقارير السفارات لا تكفي للحكم على الدور الأميركي في لبنان لأن تسليح ميلشيات اجنبيّة يجري في عمليّات سريّة من قبل وزارة الدفاع والمخابرات الأميركيّة، كما جرى في سوريا على مرّ السنوات الماضية.

13) راجع كتاب شوكت اشتي، «التشكيلات الناصريّة في لبنان»، ص. ١٤٧.

14) بدأ باري روبن، الأميركي الأصل، حياته يساريّاً مناصراً للقضيّة الفلسطينيّة، وتخصّص في جامعة جورجتاون في التاريخ، وتحت إشراف هشام شرابي. لكنه تحوّل فيما بعد نحو اليمين والصهيونيّة وهاجر إلى دولة العدوّ، حيث عمل ومات فيها.

*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)