أكتبُ عن رجلٍ راكمَ في حياةٍ واحدة ــ لم تتعدَّ خمسة وعشرين سنة ــ حياة شيوخ مسنّين ومعمّرين. مَن يصدّق أن الذي عاشَ هذا العمر القصير عَبَرَ في تنظيمات ثوريّة مختلفة، ثم أسّس تنظيماً وقادَهُ وشاركَ في معارك الحرب الأهليّة على رأس رفاقه، قبل أن يستشهدَ برصاص الانعزاليّين؟ مَن يصدّق أن سيرة هذا الرجل البطوليّة لا تزال مجهولة من معظم اللبنانيّين (واللبنانيّات) بالرغم من رمزيّتها الثوريّة ومساهمات صاحبها في الثورة الفلسطينية واللبنانيّة؟ لماذا لا تعترف الثقافة السياسيّة والشعبيّة اللبنانيّة السائدة إلا بالمقاولين والمستشرقين والمُستعمرين والمحتالين والمُحتلّين (وأعوانهم)؟
كنتُ قريباً جداً من الراحل ظافر الخطيب. لا، أنا لم ألتقِ به قطّ، ولم أتزامن في العمل السياسي معه. هو مِن جيل سبقني، لكن اسمَه وإرثَه الثوري بقيا معي في ذهني عبر الزمن. سمعتُ عنه الكثير من رفاقٍ عايشوه منذ أن انخرطت في العمل السياسي في لبنان وتعرّفتُ إلى مجموعات لبنانيّة وفلسطينيّة ثوريّة («متطرّفة» بتعريف كمال جنبلاط آنذاك، وهو ما انفك يشكو من المتطرّفين). ظافر الخطيب بطلٌ وإن لم يسمع به كثيرون في لبنان.

لبنان مشغول بتكريم حلفاء العدوّ الإسرائيلي، ولا يشغله الحديث عن أبطال واجهوا المؤامرة الإسرائيليّة وخاضوا نضالات ثوريّة في كل بقعة من لبنان. في لبنان آخر متخيّل، يُطلق اسم ظافر الخطيب لا شارل مالك ولا بشير الجميّل على جادات وساحات ومَعالِم. في لبنان آخر، يقرأ تلاميذ المدارس عن رجلٍ نذر حياته القصيرة من أجل لبنان ومن أجل فلسطين، لا بل من أجل الطبقة العاملة في العالم. لبنان الواقع ليس لبنان الآخر: لبنان الحاضر هو الذي يحتفي بأعداء الطبقة العاملة والكادحين ويطلق أسماءَهم على المطار وعلى شوارع وعلى مستشفيات حكومية. ظافر الخطيب لا ينتمي إلى عالمكم في لبنان. ظافر كان يعمل على إنشاء لبنان آخر: لبنان الحلم الثوري المضاد للطائفيّة.
سمعتُ عن تفاني ظافر وعن حيويّته الثوريّة. وعندما جمعت عائلته في كتاب كلَّ مقالاتِه وأوراقه، وحتى رسوماته وبعضاً من رسائله، سارعتُ إلى اقتناء الكتاب الذي رافقني على مدى عقود.i أعود إليه مرّة كل سنة أو سنتين لأتسقّط آخر أخبار شهيد قضى. كأن ظافر بقي حاضراً في ذهني ليعرّفني إلى ماضٍ نضالي ثوري ــ قد يعود (هل يعود؟) والكتاب أفضل تعريف بحياة ظافر لمَن لم يعرفه، وإن كان غير متوافر ووُزع بنحو محدود.
ظافر عاش حياته القصيرة مستعجلاً ولاهثاً. لم يكن ليهدأ. كان يعيش على عِلم أنه في حياة قصيرة سيتسنّى له أن يفعل أكثر مما نفعل نحن في عقود طويلة. أقرأ عن ظافر وعن تعريفه للنضال الثوري وأتساءل: هل كان الرجل ينام؟ كان يريد أن يغيّر لبنان ويحرّر فلسطين ويغيّر العالم برمّته؟ ظافر نموذج لثوري بات (وكانَ) نادراً. هذا الذي تفرّغ مبكراً للثورة في لبنان، ولم تكن الحركة الوطنيّة اللبنانيّة بأفقها الإصلاحي تعبّر عن طموحاته الكبيرة. وقد نَمَت في عام ١٩٧٣ حتى السبعينيات أحزاب وتنظيمات وحركات ثوريّة صغيرة لم يسمع بها كثيرون (وكثيرات). تلك كانت حقبة المنافسة الثوريّة الحادّة. هذا زمن غير زماننا الحالي. اليوم، يطمح الشاب العربي إلى الحصول على وظيفة في دُبي. الـ«إن.جي.أو» والمقاولة، لا الثورة، هو عنوان المرحلة الحاليّة. في تلك الأيّام، كانت تتقاطر إلى مكاتب المنظمات الفلسطينيّة أفرادٌ (نساء ورجال) من كل أنحاء العالم العربي، والكل يريد أن يشارك في الكفاح المسلّح.
ظافر، أو «الرفيق وسام»، كان واحداً من هؤلاء، لكنه كان يريد ثورة شاملة. التطرّف استهواه، فجعله ينجذب إلى تنظيمات ثوريّة خارج مروحة التنظيمات المعتادة، إلى أن يضيق ذرعاً بعدم تطرّفها فيلتحق بتنظيم آخر، إلى أن أنشأ تنظيمه الخاص. بدأ ظافر حياته السياسيّة والعسكريّة في تنظيم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. لكنه في عام ١٩٧٢ انشقّ مع مجموعة «أبو شهاب» (أحمد الفرحان) التي كوّنت تنظيم «الجبهة الشعبيّة (الثوريّة) لتحرير فلسطين». والمجموعة كانت من ضمن ما يُسمّى «جناح اليسار» في رحم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. والتنظيم كان يأخذ على قيادة التنظيم جنوحَه نحو اليمين ــ صدّق أو لا تصدّق. لا، الأنكى أن التنظيم المُزايد هذا كان يضع غسّان كنفاني ووديع حدّاد في صف اليمين. وفي بيان الانشقاق، يذكر التنظيم المُنشق وديع حدّاد من دون أن يسمّيه ويقول إن عمليّته في خطف طائرة الـ«لوفتانزا» في عدن جنت خمسة ملايين دولار «بطريقة مشبوهة».ii يقولون ذلك عن وديع حدّاد؟ لكن ارتباط المنشقّين بمخابرات النظام العراقي سرعان ما انكشف، وظافر كان شديد الحساسيّة ضد الارتباط بأي من الأنظمة العربيّة. (كان ظافر في تنقّله بين تنظيمات ثوريّة يحاكي مسار هؤلاء المناضلين الذين كان يصعب عليهم الاستقرار في حالة تنظيميّة واحدة ما لم تكن تلبّي طموحاتهم العالية في العمل الثوري المباشر. هاكم (وهاكنّ) حكاية المناضل علي الغضبان: انشقّ عن الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين ليلتحق بتنظيم «الجبهة الشعبيّة (الثوريّة) لتحرير فلسطين»، ثم انشقّ عنها ليشكّل «المقاومة الجديدة»، ثم انشقّ عنها في تنظيم «شيوعيّون عرب»، قبل أن يؤسّس «المنظّمة الشيوعيّة العربيّة». كان هم هؤلاء هو في تحرير عاجل لفلسطين، وفي إسقاط عنيف للسلطة في لبنان.
عاد ظافر إلى تنظيم الجبهة الشعبيّة الأم، وكان قريباً من الفرع اللبناني «المتحوّل» عن حركة القوميّين العرب، أي «حزب العمل الاشتراكي العربي ــ لبنان»، لكن لم تطل به الإقامة. وكان ناشطاً جداً في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وهو واحد من نحو مئة من الطلاب الـ١٠٣ الذين (واللواتي) تعرّضوا للطرد من الجامعة بسبب نشاطهم السياسي والاحتجاجي ضد زيادة الأقساط ومن أجل منح الطلّاب الحقوق الديموقراطيّة والتمثيليّة. ولفتني في مراجعة رسالة الطرد التي تلقّاها الراحل أنها كانت تحمل توقيع مسؤول التسجيل في الجامعة، فؤاد حدّاد. وفؤاد حدّاد هذا هو نفسه الذي كان بشير الجميّل يعدّه لتسلّم وزارة التربية في حكومة بشير الجميّل الأولى، بسبب خدماته (السريّة) للكتائب من موقعه في الجامعة الأميركيّة. وطرد الطلّاب حدث بعد اقتحام قوى الأمن (بأمر من وزير الداخليّة «الاشتراكي» يومها)، وبتنسيق بين إدارة الجامعة وحزب «الكتائب». لكن ظافر لم يكتفِ بالعمل الطلّابي: هو كان أوّل طالب في الجامعة الأميركيّة يستشهد في معارك حرب السنتيْن.iii
لكنْ ثمة عاملان تلاقيا في تكوين التنظيم الجديد الذي ارتبط اسمه باسم ظافر، الذي استشهد تحت لوائه. ففي ديسمبر/ كانون الأول من عام ١٩٦٤، ابتعد زاهر الخطيب عن الحزب التقدّمي الاشتراكي وصدر البيان الأوّل «لرابطة الشغّيلة»iv، وأصبح لظافر حزب خاصّ به يعبّر عن طموحاته السريّة. ومن بداية انطلاقة التنظيم زها أعضاؤه بأنه كان أكثر التنظيمات اللبنانيّة الثوريّة تطرّفاً (لكن كان له منافسوه في احتكار عنوان التطرّف). وكانت هويّة التنظيم العقائديّة مناقضة لبرنامج الحركة الوطنيّة. وكان في صفوف الأحزاب والتنظيمات الشيوعيّة اللبنانيّة آنذاك نهجانv: نهج إصلاحي تعبّر عنه الحركة الوطنيّة اللبنانيّة، ونهج ثوري تبنّته «رابطة الشغّيلة» و«حزب العمل الاشتراكي العربي ــ لبنان» وغيرهما من الأحزاب والتنظيمات اليساريّة المتطرّفة. كانت الحركة الوطنيّة تسعى إلى إصلاح النظام اللبناني، فيما كان الثوريّون ينادون بإسقاط النظام اللبناني بالعنف. كانت الحركة الوطنيّة تدعو إلى الحل السلمي للخلافات السياسيّة وتسعى إلى التمثيل البرلماني كأعلى مراحل النضال، فيما كان المتطرّفون يدعون إلى التسلّح ويحذّرون من مخطط كتائبي حتمي لإشعال الحرب الأهليّة. كان الإصلاحيّون يستخفّون بالتحذيرات من مخطط كتائبي لإشعال الحرب الأهليّة.

منذ انطلاقة التنظيم
زها أعضاؤه بأنه أكثر التنظيمات الثوريّة تطرّفاً

ومن المذهل كيف أن الحركة الوطنيّة تجنّبت كل الدعوات الثوريّة للاستعداد لمواجهة مسلّحة مع اليمين، حتى بعد افتضاح المخطّط في ١٩٦٩ ثم في ١٩٧٣، عندما تعرّضت المقاومة الفلسطينيّة لمحاولة تصفية من حكم سليمان فرنجيّة بالتواطؤ مع التحالف الأميركي ــ الإسرائيلي. وخلافاً لحزب العمل الذي شارك في التمثيل داخل الحركة الوطنيّة، ونعم بخيراتها الماليّة المتدفّقة من ليبيا ومِن غيرها، بقيت «رابطة الشغيلة» خارج إطار الحركة الوطنيّة. لم يكن ظافر ليقبل المساومة.
وُلد ظافر لعائلة ميسورة، وكان والده نائباً في كتلة كمال جنبلاط. وعندما مات والده، خلفه أخوه زاهر في المقعد النيابي. لكن ظافر لم يدخل في السياسة التقليديّة، لا بل ثارَ عليها. وكانت كتاباته شديدة النقد لقيادة كمال جنبلاط. زاوج ظافر بين دوره في النشاط السياسي في الجامعة وبين العمل الثوري السرّي، وشارك في سن الثانية والعشرين في القتال في صفوف المقاومة الفلسطينيّة في عام ١٩٧٣، عندما تعرّضت لمحاولة التصفية.
لكن شخصيّة ظافر تظهر من خلال كتاباته التي جُمعت بعد وفاته. كان يكتب افتتاحيّات «صوت الشغّيلة» بالإضافة إلى عمله التنظيمي ومشاركته الفعّالة في القتال في حرب السنتيْن، والتي لم يعشْ كي يرى نهايتها البائسة. وفي مقالات ظافر، كان هناك إصرار على رفض الطابع الطائفي للحرب، وعلى معارضة نهج الحركة الوطنيّة الذي هادن الحركات الطائفيّة الإسلاميّة. وذهب ظافر (و«رابطة الشغّيلة») أبعد من باقي الأحزاب والتنظيمات اليساريّة عندما اعتبر «كل التيارات الإصلاحيّة» على أنها «تمثّل موضوعيّاً عملاء الطبقة الحاكمة في صفوف جماهير الشغّيلة».vi وهذه المواقف باعدت بين الرابطة وأحزاب الحركة الوطنيّة كافة. عاشت «الرابطة» في عزلة، قبل أن تتحوّل بعد وفاة ظافر إلى حليف هامشي لحركة «أمل».
وأعدّ ظافر لانطلاقة «رابطة الشغّيلة» برنامجاً زراعيّاً نُشر باسم التنظيم تحت عنوان «حول المسألة الزراعيّة: وثيقة برنامجيّة». والبرنامج كان يُعدّ لمرحلة الثورة المقبلة لضرب الاحتكار الإقطاعي للملكيّة الزراعيّة، حيث كان ٤,٢٪ من «المزارعين» يملكون ٤٠٪ من الأراضي. ولم يعرْ أي من أحزاب اليسار القضيّة الزراعيّة اهتماماً يُذكر. صحيح أن «حزب العمل الاشتراكي العربي ــ لبنان» «أمّم» أراضي لآل الخليل في صور، وأخرى لآل عسيران في أنصاريّة، لكن الحزب لم يكن له رؤية واضحة للمسألة. والتأميم الذي بدأ مبشّراً بملكيّة مشاعية انتهى بطريقة تقليديّة، حيث كان الحزب «يُضمّن» الأراضي في صور مثل باقي الملّاك، وتبخّر مشروع توزيع الأرباح على الفلّاحين. وكان ظافر يستشرف الحرب عندما طالب مبكراً بضرورة وضع «الأرض المؤمّمة تحت تصرّف مجالس الفلّاحين الفقراء والعمّال والزراعيّين». vii وخلافاً لأحزاب اليسار اللبناني، دعا ظافر مبكراً (أيضاً) إلى العمل الثوري في صفوف الفلّاحين لبناء «حركة فلاحيّة ثوريّة». لم تأخذ أحزاب اليسار العمل التنظيمي في صفوف الفلاحين على محمل الجدّ، كما فعلت في صفوف العمّال.
وكتابات ظافر السياسيّة تمتاز بسهولة الأسلوب ونفس تحريضي ثوري مباشر. لو قُيَّضَ له أن يعيش، لكان ظافر قد برز ككاتب ثوري مقروء. الكتابة اليساريّة الثوريّة في تلك الزمن كانت تعاني من حشو ومن استشهادات لينينيّة قرآنيّة. الخطاب اليساري الإعلامي (بعد غسّان كنفاني) لم يكن يصل، وكانت الناس ترمي بمجلات وجرائد فصائل الحركات الوطنيّة ــ التي كانت تُوزّع في الغالب مجّاناً ــ من نوافذ السيّارات. وكانت افتتاحيّات ظافر منظّمة الأفكار وسلسة الأسلوب وواضحة المرامي: لم يكن هناك فيها بلاغة مصطنعة أو خطابيّة وعظيّة، كان الخطاب الوطني يعجّ بها في تلك الأيّام. على العكس، كان ظافر يكتب للجمهور وليس للنخبة، وهذا نادر في الأدب السياسي في تلك المرحلة. وكان الراحل مُستشرفاً للمراحل المقبلة. أحسنَ ظافر في قراءة شرارة الحرب الأهليّة في صيدا. كانت قراءتُه لأحداث صيدا في شباط وآذار من عام ١٩٧٥ صائبة في لومِها للحركة الوطنيّة في ميوعة مواقفها وفي جعلها بقاء الحكومة هدفاً في حدّ ذاته.viii كان على حق في أن القوى اليمينيّة وقوى الحركة الوطنيّة تلاقت في الحفاظ على النظام. لو أن قوى الحركة الوطنيّة وعت مبكراً لطبيعة المؤامرة ولتواطؤ السلطة المباشر في اغتيال معروف سعد، وفي التأجيج للحرب، لكان يمكن تلافي الموقع الضعيف الذي وجدت الحركة الوطنيّة نفسها فيه عند إشعال اليمين الطائفي للحرب الأهليّة في أوّل عام ١٩٧٥.
والتمايز بين قوى الإصلاح اليساريّة وقوى الثورة اليساريّة، ظهر في تحديد المسؤول عن المؤامرة في عام ١٩٧٥: أصرّ ظافر على أن النظام و«الكتائب» هما فريق واحد، فيما بقي كمال جنبلاط وحلفاؤه يصرّون على احترام تمايز غير موجود بين الفريقيْن. ولم تكن دعوات التهدئة التي انجرّت لها الحركة الوطنيّة، بإصرار من قوى الإسلام الرجعي في المنطقة الغربيّة ومن النظام السوري، إلا هديّة لقوى اليمين كي تمعن في التحضير للحرب، وكي تستجلب المزيد من السلاح والمرتزقة للجولة المقبلة، والتي تعترف الوثائق الأميركيّة بأن كميل شمعون نفسه ــ عندما كان وزيراً للداخليّة ــ هو الذي أشعلها. لم يوفّر الخطيب رشيد كرامي من إدانتهix، بالرغم من أنه كان يحظى بتغطية من قيادة الحركة الوطنيّة.
لكن قوى اليسار الثوري، وهذا يشمل «رابطة الشغّيلة» كما يشمل «حزب العمل الاشتراكي العربي ــ لبنان»، لم تنجح في وضع شعارات «السلطة الشعبيّة» أو «الاستيلاء على السلطة» موضع التنفيذ. صحيح أن ميزان القوى كان يميل بقوّة إلى قيادة الحركة الوطنيّة الخاضعة لحسابات عرفات في ضرورة التهدئة، لكنها لم تقدّم للجماهير خطة واضحة حول طرق الالتفاف على مشروع التهدئة والمهادنة الذي انتهجته الحركة الوطنيّة، والذي كلّف المنطقة الغربيّة الكثير، وكاد أن يسمح لقوى اليمين الفاشي بالتقدّم من المرفأ باتجاه منطقة القنطاري والحمراء، كي يتسنّى لبشير الجميّل تنفيذ مخططه في السيطرة على المصرف المركزي. إن قوى المقاومة الفلسطينيّة هي التي أنقذت بيروت الغربيّة في معركة الفنادق، وليس حركة «المرابطون» التي تفوّق قائدها في إطلاق حملات العلاقات العامّة والاستعراض الفارغ و«الدعاية المسلّحة»، على قول ظافرx.

كان الإصلاحيّون يستخفّون بالتحذيرات من مخطط كتائبي لإشعال الحرب

وحاولت «رابطة الشغّيلة» مع حليفتها «اللجان الثوريّة»xi، في مطلع الحرب أن تضع برنامجاً ثوريّاً، وكان يحتوي على عدد من المهمات الملحّة، مثل «تأسيس جيش شعبي يمثّل في تكوينه العمّال والفلاحين» والإصرار على «استمرار القتال»، ووضع ثورة لبنان في سياق الثورة العربيّة الشاملة، و«إعطاء الأقليّات القوميّة» في مناطق السلطة الشعبيّة حقوقاً متساوية، و«حل مسألة المرأة حلّاً جذريّاً» وتأميم التجارة الخارجيّة و«كل المصارف والبنوك» و«المدارس الأجنبيّة والخاصّة»، ومصادرة «كل أملاك الملاكين الكبار»، لكن الخطة المشتركة لم تلحظ خريطة طريق تشرح كيف نصل إلى هذا الحلم الاشتراكي المنشود.xii ولماذا لم يضع التنظيمان أياً من بنود هذه الخطة الموعودة موضع التنفيذ عند اندلاع الحرب؟ وهل الفارق بين الوعود والتنفيذ هو الخلل الذي أصاب كل الحركات الثوريّة في حينه؟
حرص ظافر الخطيب على احترام العمل السرّي، ورفض انجرار كل أحزاب القوى الوطنيّة نحو الانفلاش والعلنيّة. حتى توزيع نشرة «صوت الشغيلة» كان يجري بطرق سريّة بإصرار من ظافر. لو أن قوى اليسار الثوري التزمت هذه السريّة لكان عملها أفعل وأجدى، ولكانت الاختراقات المعادية المتفشيّة قد فشلت. وفي واحدة من آخر افتتاحيّاته، شدّد ظافر على «الحرص على عدم انكشاف المناضلين لأية جهة انتموا إلى أجهزة القمع البورجوازيّة السريّة والعلنيّة، وذلك حتى يستطيعوا أن يكملوا المسيرة».xiii لم يكن يسود هذا الحرص على السريّة. بمجرّد اندلاع الحرب، انفلش العمل الحزبي، وكانت الأسماء الحركيّة غير كافية لإخفاء هويّات الرفاق.
لم يكن الرفيق «وسام» براغماتيّاً، ولم يكن يؤمن بالفصل بين التناقضات الرئيسية والتناقضات الثانويّة. لم يكن يؤمن بالشعار الفتحاوي المُخادع، بأن «كل البنادق نحو العدوّ الصهيونيّ» (ماذا تفعل بأعوان العدوّ الصهيوني في الصف العربي؟). كان ظافر من القلّة الثوريّة اليساريّة التي رفضت الانضواء في صف «جبهة الرفض»، لأنه رأى أن التحالف مع النظام الليبي والعراقي «تتعاكس» ــ حسب وصف ظافر ــ مع مصالح الجماهير الكادحة.xiv كذلك كتبَ ظافر في التضامن مع معتقلي النظام السوري. وكانت كتابات ظافر مفعمة بالتفاؤليّة ــ المفرطة أحياناً: تقرأه يتحدّث عن الوضع في الخليج فيقول إن «الثورة تمتد في ساحة الخليج وتحقّق الانتصار تلو الآخر». لكن كان لتلك المرحلة مبرّرات للتفاؤل أكثير بكثير من المرحلة الحاليّة.
مات ظافر الخطيب لأنه أصرّ على أن يتقدّم قوّاته في جبهة الشيّاح (وكان قد تعرّض لمحاولة اغتيال قبل استشهاده بأسابيع). اتخذت القيادة المركزيّة في «رابطة الشغّيلة» قراراً بمنعه من أن يكون على رأس العمليّة التي استشهدَ فيها (وكانت العمليّة تهدف إلى كسر جمود خطوط التماس المفروض، مثل عمليّة «الثغرة» التي قام بها «حزب العمل» في أكتوبر ١٩٧٥). لكنه رفض القرار لأنه لم يكن يميّز بين القادة والعناصر، وكان هذا محور كتاباته في العمل التنظيمي. وفي العمل التنظيمي، كان «وسام» متطلّباً جدّاً، ربما لأنه كان متطلّباً من نفسه. وله دليل نظري وسياسي وتنظيمي ونضالي للثوريّين العرب، وفيه يطلب من المناضل أن يتحلّى بالهدوء والصلابة والمبادرة وتجاوز الروتين ونكران الذات والمحافظة على رباطة الجأش واكتساب القدرة على اتخاذ القرارات السريعة. ويريد من المناضل «وعياً نظريّاً عميقاً» و«دراسة عميقة للكلاسيكيّة الماركسيّة»، و«اطلاعاً نقديّاً على التجارب العالميّة والعمليّة»، و«متابعة يوميّة وجادة لتطورات التجارب الثوريّة الأخرى». ويريد «اطلاعاً دائماً ومواظباً» على «أهم الأخبار والتحليلات والإحصاءات على الصعيد المحلي والقومي والعالمي»، ومتابعة «كل الأخبار الواردة في الصحف والمجلات الرسميّة ــ عالميّاً وقوميّاً ومحليّاً»، ومتابعة «كل الإحصاءات الواردة في الإحصاءات الرسميّة وغير الرسميّة للدول عالميّاً وقوميّاً ومحليّاً»، و«مواكبة والاطلاع على كل النشرات الحزبيّة على الصعيد العالمي والقومي والمحلّي لكل الفصائل السياسيّة» و«ومتابعة صراعات الطبقات السائدة». وكان يريد من المناضل أن يكتسب القدرة الجسديّة والنفسيّة للانخراط بالنضالات الجماهيريّة اليوميّة بالإضافة إلى «اكتساب المعرفة العسكريّة، بجانبيْها النظري والعملي والتقني». وأراد أن يتمتع كل مناضل بالقدرة على «ابتكار كافة أساليب تزوير الوثائق الرسميّة المختلفة والأختام»، والقدرة على «فهم ولو أوليّاً للمشكلات التخصيصيّة (الكهربائيّة، إصلاحها أو تخريبها)»، بالإضافة إلى الأقفال والخزائن الحديديّة («فتحها وفكها الخ»). وكان يريد من المناضل أن يجيد قيادة السيّارة والدرّاجة الناريّة والطائرة. لكن متى يرتاح المناضل، يا رفيق «وسام»، ومتى يأكل ويشرب ويسمع الموسيقى ويمارس الحب؟ لكن لم يكن ظافر يطلب من المناضل ما لم يكن هو يفعله ــ وقد فعله في عمره القصير جدّاً.
عاش ظافر الخطيب بالنيابة عن جيل بكامله، ومات دفاعاً عن أجيال بكاملها. لكن هل يُعقل أن حتى الذين دافع عنهم ظافر، وقدّم حياته لهم، يجهلونه؟

المراجع

1) «ظافر الخطيب: القائد الثوري، فكراً وممارسة. الآثار الكاملة».
2) راجع بيانات الانشقاق لتنظيم «الجبهة الشعبيّة (الثوريّة) لتحرير فلسطين» في «الجبهة الشعبيّة (الثوريّة) لتحرير فلسطين، كيف نفهم أزمة الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين وطبيعة تناقضاتها»، جزء 1، ص52.
3) راجع فتحي البس، «انثيال الذاكرة: هذا ما حصل»، ص.241. يقول البس الناشط في حركة «فتح» عن ظافر يومها: «بكاه كل مَن عرفه في الجامعة وخارجها».
4) راجع النبذة في فضل شرورو، «الأحزاب والتنظيمات والقوى السياسيّة في لبنان، 1930-1980، ص. 322.
5) راجع كتاب حزب العمل الاشتراكي العربي - لبنان بعنوان «نهجان».
6) افتتاحيّة العدد الأوّل من «صوت الشغّيلة»،23 ديسمبر 1974، وهي منشورة في كتاب «ظافر الخطيب» المذكور أعلاه، ص. 109.
7) راجع نص «حول المسألة الزراعيّة»، في المرجع نفسه، ص. 323.
8) راجع افتتاحيّة 24 آذار 1975، في المرجع نفسه، ص. 126.
9) المرجع نفسه، ص. 137.
10) راجع المرجع نفسه، ص. 203.
11) العلاقة أيضاً بين التنظيميْن لم تكن يوماً واضحة.
12) راجع «البرنامج الانتقالي لرابطة الشغّيلة واللجان الثوريّة»، كانون الأوّل 1975.
13) افتتاحيّة 5 كانون الثاني، 1976، المرجع نفسه ص. 173.
14) افتتاحيّة «صوت الشغّيلة»، 29 أيلول 1975، في المرجع نفسه، ص. 183.

* كاتب عربي
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)