لم يكن صيف ١٩٨٢ صيفاً عاديّاً في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة، لا بل في تاريخ العالم العربي المعاصر. تلاقت مؤامرات عربيّة وإسرائيليّة وغربيّة عدة كي تجهض حركة المقاومة الفلسطينيّة وكي تفرض نظام «كامب ديفيد» على كل العالم العربي. في هذا الصيف، الذي زاد في حرارته انقطاع المياه والكهرباء بفعل الحصار الإسرائيلي ــ القوّاتي على بيروت الغربيّة، تقرّر أن تقود مصر ــ «كامب ديفيد» العالم العربي. أصبح حسني مبارك الوكيل الشرعي والوحيد للهيمنة الأميركيّة في المنطقة، وهو الذي تولّى أيضاً في صيف ١٩٩٠ شرعنة الغزو الأميركي للعالم العربي بحجّة اجتياح صدّام حسين للكويت.
لم يكن ياسر عرفات على خلاف مع فلسفة أنور السادات بأن «٩٩٪ من أوراق الحلّ هي في يد أميركا». الاتحاد السوفياتي لم يكن يتنطّح للدفاع عن حلفائه ضد مسيرة السلام الأميركيّة. على العكس، كان يحثّ كل الأطراف العربيّة على تقديم المزيد من التنازلات، وكان كل ما يودّه هو إشراكه في عمليّة السلام الأميركيّة. لهذا، فإن عرفات لم يسعَ يوماً إلى سلك خط مفاوضات خارج نطاق العمليّة الأميركيّة. وإصراره على التعويل على "الحَكَم" الأميركي، هو الذي وضع خاتمة لأحلامه، وانتهى به في زنزانة رحيبة في «المقاطعة»، ما سمح للعدوّ باغتياله متى شاء (وبإذن أميركي على الغالب). وكان عرفات يخوض مفاوضات غير مباشرة، ويبعث بالرسائل، عبر عدد كبير من الوسطاء. كان لا يحصر مفاوضاته، أو توسّلاته من أجل بدء مفاوضات مع أميركا، بطرف واحد. كان كل مَن يصل مَن أميركا ويحظى بلقاء عرفات، يحمل منه رسالة إلى الإدارة الأميركيّة. وهذا جرى على مرّ سنوات، من إدارة كارتر حتى وفاة عرفات في عهد بوش 1. وهناك من زاد ثروته من خلال حمله رسائل، أو وعده بحمل رسائل، من عرفات إلى الإدارة الأميركيّة. وكان عرفات يموّل دكاكين مختلفة لعلّ واحدة منها تفي بالغرض. ومفاوضات أوسلو كانت رحلة السعي نحو واشنطن عن طريق تل أبيب. أدرك عرفات أن واشنطن لن تقوم بأي جهد للحصول على تنازلات من إسرائيل لمصلحة فلسطين، فاختار أن يقدِّم تنازلاته مباشرة لإسرائيل لعلمه بأن ذلك يقرّبه من الراعي الأميركي.
لكن عرفات لم يكن جديّاً، لا في القتال والمقاومة ولا في الدبلوماسيّة. كان عرفات يظنّ بأنه يستطيع أن يلعب كالبهلوان على عدد من الحبال المتشعّبة. لكن عرفات خلافاً لما قيل فيه، بقي ثابتاً منذ أوائل السبعينيات على التزامه بخيار الدبلوماسية لتحقيق دولة فلسطينيّة ــ مسخ على أرض الضفّة والقطاع. ولم يكن ترويج الجبهة الديموقراطيّة المُبكّر للفكرة إلا بإيعاز من عرفات. الكفاح المسلّح كان عند عرفات — خلافاً لميثاق المنظمة في عام ١٩٦٨، وخلافاً لبرنامج حركة "فتح" — تكتيكاً يهدف إلى تحريك الوضع في المنطقة من أجل جذب الحلّ الأميركي. وكان عرفات يحاول جاهداً جذب الالتفات الأميركي إليه — تماماً مثل السادات قبل وبعد حرب أكتوبر التي لم يردْها إلا "تحريكيّة".
مناسبة العودة إلى صيف ١٩٨٢ هي صدور كتاب جديد لعدلي الهوّاري بعنوان «بيروت ١٩٨٢: اليوم «ي»»، عن «الاتصالات الفلسطينيّة الأميركيّة أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت». وقد جمع المؤلّف عدداً مهماً من الوثائق السريّة التي مرّت أمامه في صيف ١٩٨٢ في واشنطن عبر جهاز الـ«تلكس» في مكتب «المجلس الوطني في أميركا الشمالية». وصوّر الهوّاري تلك الوثائق وترجمها إلى العربيّة في هذا الكتاب المهم. والملاحظة العامّة عن الوثائق وعن نمط الأسلوب العرفاتي في المفاوضات هي: ١) كما يورد المؤلّف، فالمراسلات تظهر أن عرفات كان يقول للأميركيّين ما لا يعلنه بالعربيّة لشعبه. ٢) بالرغم من أن عرفات سياسيّ بارع وتكتيكيّ ماهر بالنسبة إلى خصومه في منظمّة التحرير أو في الساحة العربيّة، فإنه كان مفاوضاً فاشلاً، لا يقدّم تنازلاً إلا ويُفرَض عليه تنازل آخر. في كل مسيرة مفاوضات عرفات عبر العقود، قدَّم من دون مقابل، ولم يفرض شروطاً كان بعض الأميركيّين من خصومه يظنّون بأنه كان بإمكانه فرضها (مثل مسألة المستوطنات التي لم يلحظها مفاوضو أوسلو الفلسطينيّين، معتمدين على حسن النيّة الإسرائيليّة). ٣) من بديهيّات التفاوض، التفاوض من موقع القوّة. وهذا الشرط أهمله المفاوضون العرب — المتزمّتون منهم والمتساهلون. إن قبول جمال عبد الناصر بمبادرة روجرز حدث في زمن كان فيه الموقف المصري (والعربي) في أضعف مرحلة منذ اندلاع حرب فلسطين. لو أن عبد الناصر أراد الاعتماد على التوسّط الأميركي، لكان حصل على أكثر لو أنه فرض شروطاً أعلى قبل الهزيمة. الهزيمة هي أسوأ محطّة لخوض التفاوض مع العدوّ. انتظر الفيتناميّون أضعف لحظة للغازي الأميركي كي يدخلوا في مفاوضات باريس. لكن ياسر عرفات لم يدخل في مفاوضات اختياراً، وإنما دخلها كلّها مُكرهاً في مواقف ضعف عسكري وسياسي، ما سمح للعدوّ بفرض شروطه، وكانت قدرة عرفات على المساومة ضعيفة للغاية. إن دخول ياسر عرفات المفاوضات مع العدوّ (عبر أميركا) في زمن الحصار كان الخطأ المدمِّر الذي قاده إلى أوسلو ومترتّباتها. إن كل المفاوضات السياسيّة المصيريّة التي دخلها عرفات، أتت بسبب شعوره بأنه محاصَر وأن الطرق الأخرى مسدودة أمامه. لكن عندما كان عرفات في مراحل القوّة العسكريّة والسياسيّة (بعد معركة «الكرامة»، أو بعد تثبيت المقاومة العسكريّة في لبنان في عام ١٩٧٥)، كان يتحاشى المفاوضات لظنّه أن الآتي أفضل. إن شروط التفاوض لم تكن متوفّرة حتى في مراحل قوّة المقاومة لأن بناء المقاومة العسكريّة والثورة الفلسطينيّة لم يكن مكتملاً بعد. ٤) لم يكن عرفات في مفاوضاته مع الأميركيّين يريد أن يصدّق بأنهم لن يكونوا حياديّين، بالرغم من صراحة (وصفاقة) المفاوض الأميركي. كان عرفات دوماً يظنّ بأنه بمرونته ولطفه واعتداله يستطيع أن يُغيِّر الموقف الأميركي الداعم لإسرائيل. كانت المفاوضات عند عرفات — وعند الكثير من المفاوضين الفلسطينيّين، مثل حنان عشراوي وصائب عريقات ونبيل شعث وأحمد القريع — لعبة مناظرة، كأن الحجّة القويّة وحدها والصياغة البارعة كفيلتان بتغيير الموقف الأميركي. ٥) لم يكن عرفات منسجماً مع نفسه في طروحاته في المفاوضات، فكان يرسل إشارة ما للحزب الديموقراطي، وأخرى مختلفة للحزب الجمهوري، متمنيّاً أن يصيب إحداهما فيكسب.

لم يكن هناك من عداء أميركي ليثني ياسر عرفات عن المضيّ في التفاوض

كانت المفاوضات عنده مثل لعبة النرد. ٦) أساء إلى المفاوضات الفلسطينيّة مع الحكومة الأميركيّة، عددٌ من الأطراف، بينهم بعض الأساتذة الفلسطينيّين المعروفين في أميركا، والذين كان يحثّون عرفات على الاعتراف بإسرائيل وأن ذلك من شأنه تغيير الموقف الأميركي. كما أن المستعربين المتقاعدين بالغوا أيضاً في تقييم أثر التنازلات العرفاتيّة على عمليّة صنع القرار الأميركي. وكان هؤلاء محكومين إما بحسن النيّة أو بصهيونيّة النيّة. ٧) كان النظام السعودي مسؤولاً بدرجة كبيرة عن حثّ عرفات على تقديم التنازلات إلى الحكومة الأميركيّة. والوثائق هنا تشير إلى ذلك بوضوح.
كانت المقاومة الفلسطينيّة في صيف ١٩٨٢ تخوض أصعب مرحلة في تاريخها، والتي أدّت في نتائجها إلى وأد حركة المقاومة الفلسطينيّة بعد انطلاقتها الكبيرة في منتصف الستينيّات. وفي الوقت الذي كانت فيه قوّات الاحتلال الإسرائيلي تطبق على بيروت الغربيّة، اختار ياسر عرفات التفاوض مع راعي الاحتلال الأميركي على شروط مغادرة المقاومة لبيروت. لماذا لم يختر طرفاً أقل انحيازاً إلى العدوّ؟ ولماذا — إذا كان يريد أن يغادر — غادر عبر اتفاق سرّي مع الأميركيّين؟ ألم يكن بمستطاعه الإصرار على رعاية من الأمم المتحدة لظروف مغادرة قوّات المقاومة؟ أي أن عرفات أصرّ على أن يدفع ثمنَين لمغادرته: ثمناً للاحتلال الإسرائيلي وآخر للراعي الأميركي. يعترف هاني الحسن في شهادة له بأن القيادة العرفاتيّة تجاهلت مبادرة فرنسيّة تودّداً للإدارة الأميركيّة 2.
وكانت الحكومة الأميركيّة تنتدب الحكومة اللبنانيّة والجيش اللبناني الانعزالي (الذي كان خاضعاً بالكامل لسلطة بشير الجميّل وحلفائه الإسرائيليّين) كي يلعب دور ضابط الارتباط مع عرفات. وقبِل عرفات بذلك من دون نقاش، كما يظهر في الوثائق (راجع ص. ٢٤، مثلاً). ولعب صديق الإسرائيليّين جوني عبده دور الوسيط — وهو الذي حوّل منزله في اليرزة إلى بيت مضافة لأرييل شارون. وكانت الحكومة الأميركيّة تملي على عرفات شروطاً إسرائيليّة وتسوّقها له على أنها شروط أميركيّة. لماذا مثلاً رفضت الحكومة الأميركيّة أن تغادر منظمة التحرير عبر ميناء طرابلس وليس عبر ميناء بيروت؟ أليس من أجل تسهيل مهمّة جيش العدوّ في مراقبة عمليّة المغادرة في منطقة كان يحتفظ بقوّات احتلال فيها؟ ولماذا لم يصرّ عرفات على استعمال ميناء طرابلس الذي كان بعيداً عن المراقبة الإسرائيليّة؟
أما في الموضوع الأخطر، أي مجزرة صبرا وشاتيلا، فإن ياسر عرفات ارتكب خطيئة مميتة في تسليم مقدّرات أمن المخيّمات الفلسطينيّة بعد مغادرة حماتها من مقاتلي الثورة الفلسطينيّة إلى الحكومة الأميركيّة — أي الحكومة التي عادت قضيّة الشعب الفلسطيني منذ إنشاء دولة إسرائيل. والمُشين أن رسالة من الحكومة الأميركيّة في ٦ آب ١٩٨٢ (ص. ٣٥) ذكرت ضمان «المخيّمات في بيروت» (لماذا فقط في بيروت) بطريقة جد عرضيّة. ويبدو أن المُفاوض الفلسطيني لم يعر القضيّة أهميّة كبيرة: وريغان كان قد وصف في لقائه مع سعود الفيصل وعبد الحليم خدّام الفلسطينيّين في بيروت بأنهم «إرهابيّون» فقط. وعندما وقعت المجازر، تملّصت الحكومة الأميركيّة من المسؤوليّة بطريقة مقزّزة 3، فهي قالت إنها في ضمانها لأمن المخيّمات اعتمدت على ضمان من بشير الجميّل. أي أن منظمّة التحرير الفلسطينيّة اعتمدت على ضمانات حكومة عدوّة للشعب الفلسطيني (والتي لم تكن تعترف بمنظمّة التحرير)، والتي اعتمدت بدورها على عدوّ الشعب الفلسطيني الألدّ في لبنان، أي بشير الجميّل، كي يحمي المخيّمات الفلسطينيّة في بيروت. إذ قال نيكولاس فيليوتس لوفد فلسطيني أميركي زار وزارة الخارجيّة الأميركيّة في ١٣ تشرين الثاني من عام ١٩٨٢، إن الحكومة الأميركيّة ترفض أي إيحاءات عن مسؤوليّة ولو جزئيّة لها بالنسبة إلى صبرا وشاتيلا لأن ضماناتها «كانت مبنيّة على تأكيدات تلقّتها الولايات المتحدة من رجل واحد: بشير الجميّل» (ص. ٨١). وكما يعلّق المؤلّف هواري، فإن عرفات (الذي فاوض باعترافه على مدى عشرة أيّام على «كل تفاصيل الخروج بما في ذلك المراسم حسب الأصول البروتوكوليّة الدوليّة، كيف يؤدّي لي حرس الشرف، من غير قوّاتي، التحيّة العسكريّة، ومرافقة بعثة عسكريّة يونانيّة بقيادة جنرال لموكبي» 4)، لم يفاوض على تفاصيل وإجراءات الحماية للمخيّمات الفلسطينيّة في لبنان. والتملّص الأميركي من المسؤوليّة بات أقل صدقيّة بعد نشر كتاب جورج فريحة عن بشير الجميّل، والذي ترد فيه خطّة إسرائيليّة ــ قوّاتيّة مسبقة لاقتحام المخيّمات الفلسطينيّة 5.
ويتضمّن الكتاب رسالة رسميّة من خالد الحسن إلى ياسر عرفات (في ١٩ تمّوز) يحثّه فيها على تقديم التنازلات للأميركيّين. والرسالة أتت بعد لقاء بين الحسن (الذي لعب دوراً مؤثّراً في صنع القرار العرفاتي عبر سنين طويلة: لم يخالف عرفات مشيئته إلا في عام ١٩٩٠، عندما رفض عرفات دعم الموقف الخليجي ضد صدّام). 6 خالد الحسن يقول لعرفات إن النصر الفلسطيني بعد هزيمة بيروت ممكن، وإن تحقيقه سيجري في الكونغرس والبيت الأبيض. (ص. ٥٩) ويقترح الحسن على عرفات «سياسة جديدة»، كأن النصر السياسي ممكن بعد هزيمة عسكريّة 7. ولا يتردّد خالد الحسن بأن يحذّر عرفات من أن هناك فرصة لمنظمة التحرير كي تشارك في صنع السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط. أي أن منظمّة التحرير تستطيع أن تفعل ما لم تفعله أي من الحكومات العربيّة المطيعة للحكومة الأميركيّة. ويشدّد الحسن على ضرورة إصدار موقف واضح بدعم القرار ٢٤٢ (الذي لم يذكر الشعب الفلسطيني بكلمة واحدة)، ويطالب بحوار مباشر مع الحكومة الأميركيّة، كأن عرفات هو الذي كان يمانع في الحوار المباشر مع الحكومة الأميركيّة. ويختم الحسن رسالته بالإشارة إلى أن سعود الفيصل يؤيّد «هذا التفكير». لكن الحسن لا يذكر بتاتاً أسباب اقتناعه بأن الحكومة الأميركيّة ستتجاوب بقوّة مع مبادرة من هذا النوع، وخصوصاً أنها أدنى من السقف الذي حدّدته الحكومات المتعاقبة في الحوار مع منظمّة التحرير.

حركة «حماس» تعيد التجربة نفسها، إذ هي تفاوض من موقف
ضعيف للغاية

وفي رسالة لاحقة، يقول الحسن لعرفات (في «تلكس» آخر) إنه أكّد للي هاملتون (كان رئيس اللجنة الفرعيّة للشرق الأوسط في لجنة الشؤون الخارجيّة 8 في مجلس النوّاب الأميركي) أن الحرب الإسرائيليّة ـــ الفلسطينيّة في لبنان «أنتجت عناصر مهمّة» (ص. ٦٠). والغرابة أن الحسن كان مهووساً بشأن الموافقة الأميركيّة على ما تقوم به منظمة التحرير من مبادرات وسياسة. وهو يقول لياسر عرفات في رسالة إن عليه ألا يمضي في مبادرة فرنسيّة ـــ مصريّة مطروحة قبل التأكّد من عدم معارضة أميركيّة لها. (ص. ٦٣). ويتبع هذه الرسالة برسالة أخرى يقول فيها إنه لا يريد حصول فيتو على قرار المبادرة المذكورة، مع أن حصول الفيتو (وخصوصاً في زمن الحرب الباردة) يُعدّ هزيمة أميركيّة لأن تراكم الفيتوات كان يقلق الحكومة الأميركيّة في زمن كانت تعلّق فيه أهميّة على وجهات الرأي العام العربي.
واعتماد عرفات على عدد كبير من أقنية التواصل مع الإدارة الأميركيّة كان يسهّل عمليّة الخداع والتضليل اللذين كانت الحكومتان الأميركيّة والإسرائيليّة تلجآن إليهما في التواصل غير المباشر معه. وكان المحامي الفلسطيني، جواد جورج 9، يقوم بنقل رسائل من الإدارة الأميركيّة إلى عرفات. وفي واحدة من الرسائل، ينقل له عن وفد من الكونغرس الأميركي زار الشرق الأوسط أن جيش العدوّ يملك «مخططات الطوابق لكل مبنى في بيروت» وأن «عدداً من الجنود سيتولّى السيطرة على كل مبنى» (ص. ٦٥). ويُشكّك هواري في هذا الزعم، ويمكن نفيه من أساسه. من الواضح أن العدوّ، من خلال الإدارة الأميركيّة، كان يمارس هنا حرباً نفسيّة على المقاومة الفلسطينيّة. لعل وضع المقاومة وقيادة عرفات في حصار بيروت كان يمكن أن يكون أفضل لو أنه قطع الحوار مع الإدارة الأميركيّة وفاوض مع جهة أخرى حول شروطه للخروج من بيروت.
لم يكن هناك ما يمكن أن يبدّد التفاؤل المفرط الذي كانت القيادة الفلسطينيّة — بإيعاز سعودي — تعقده على الإدارة الأميركيّة. كان المسؤولون الأميركيّون في لقاءاتهم مع وفود الفلسطينيّين الأميركيّين شديدي الوضوح في التعبير عن عدائهم المطلق للمطالب المشروعة لمنظمّة التحرير الفلسطينيّة. قال لهم نيكولاس فليوتس بصريح العبارة إنه لا يمكن أن يجلس إلى طاولة المفاوضات أي من أبو عمّار أو أبو اللطف أو أبو إياد أو أبو جهاد. وزاد فليوتس أنه ليس للدولة الفلسطينيّة «شبح الفرصة» بالنسبة إلى الحكومة الأميركيّة. (ص. ٨١) وجاء توصيف فليوتس بعد أسابيع من تصريح لجورج شولتز (وزير الخارجيّة يومها) والذي نفى فيه إمكانيّة إقامة دولة فلسطينيّة ولو بعد عشرين سنة. وصارحهم فليوتس أيضاً بأن حق عودة اللاجئين لا يعني لأميركا إلا «التعويض» فقط. ونصحهم بإهمال شعارات «تقرير المصير» و«حق العودة». أما ديفيد ماك (دبلوماسي أميركي آخر) فقد بلغت الصفاقة به أن طلب رسميّاً من منظمة التحرير مساعدة بشير الجميّل في الحكم. (ص ٨٤) كيف يمكن أن تستمرّ قيادة منظمة التحرير في التعويل على الحكومة الأميركيّة بعد هذه التصريحات العدائيّة؟ لكن لم يكن هناك من عداء أميركي يمكن أن يثني ياسر عرفات عن المضي في التفاوض، وهذا بالضبط ما وقع فيه بعد فخّ أوسلو، عندما لم يحتفظ لنفسه بأي من عناصر القوّة في التفاوض.
كان الوقت متأخراً على عرفات ليكسب تأييداً شعبيّاً في بيروت الغربيّة كي ينوّع خياراته، لكن القيادات الإسلاميّة وحتى الشيوعيّة في بيروت الغربيّة ضغطت عليه كي يخرج، ولم يعد بإمكان القيادة التمسّك بخيار الصمود إلا بتعارض مع هذه القيادات (لكن هذا الخيار كان ممكناً بسبب تأييد ذلك من مقاتلين لبنانيّين وفلسطينيّين وسوريّين محصورين في بيروت). صائب سلام (الزعيم اللبناني الوحيد الذي جاهر بتأييد مبادرة السادات والذي كلّفه آل سعود بلعب دور العرّاب الإسلامي لبشير الجميّل) صرخ بوجه عرفات أثناء الحصار: «ماذا تريد؟ أن تتهدّم بيروت نهائيّاً ويتشرّد أهلها»؟ 10. أما محسن ابراهيم، فقد نقل عنه أبو موسى قوله لياسر عرفات «اعطونا بيروت. أعطيناكم لبنان عشر سنين تسرحوا وتمرحوا وتعملوا اللي بدكم إياه. وتحمّلنا كل ردّات الفعل الإسرائيليّة (بالحرف). اعطونا بيروت. بمعنى «الله يعطيكم العافية. غادروا». 11
لم تتعلّم القيادة الفلسطينيّة الحالية من تجربة ياسر عرفات في حصار بيروت. حركة «حماس» تعيد التجربة نفسها، إذ هي تفاوض مع الدول العربيّة والغربيّة من موقف ضعيف للغاية، وتقدّم التنازلات تلو التنازلات. مستقبل الحركة يمكن قراءتُه في تاريخ «فتح». وقد تبدّدت عناصر القوّة بسبب عوامل مختلفة؛ منها التحالف المعلن بين العدوّ والدول العربيّة. لكن الخروج من النفق ممكن بإطلاق حركة مقاومة فلسطينيّة جديدة تتعلّم من تجارب أخطاء المرحلة الماضية، وتعيد النظر بأسلوب عمل وأفق ياسر عرفات (أو «حماس» حالياً).

هوامش

1) قال دبلوماسيّان أميركيّان لوفد فلسطيني إن المغرب والسعوديّة ووليد خالدي يقدّمون لعرفات صورة غير دقيقة (أي متفائلة جداّ) عن موقف الحكومة الأميركيّة. ص. ٩٣) من الكتاب المذكور لاحقاً.
2) ص ١١٣ من كتاب هوّاري.
3) راجع محضر اللقاء في خالد عايد، «قطار الموت»، ص. ٢٨٩.
4) راجع شهادة عرفات في «شؤون فلسطينيّة»، العدد ١٣٦ - ١٣٧، وهي مدرجة في كتاب هوّاري، ص 108، ١٠٩.
5) راجع كتاب جورج فريحة، «مع بشير: ذكريات ومذكّرات»، ص.٢٢٢.
6) روى لي الراحل إدوار سعيد أن بسّام أبو شريف كان يتصل به خلال الأزمة وأن القيادة الفلسطينيّة كانت على يقين من أن سلاحاً سريّاً خطيراً كان بحوزة صدّام حسين.
7) يتحمّل عرفات المسؤوليّة عن ضعف الأداء في الجنوب اللبناني وعن عدم التحضير المُسبق للغزو الإسرائيلي، بالرغم من كل التحذيرات التي أتته من أكثر من طرف. لكن الصمود في بيروت الغربيّة والذي رسمه بدقّة «أبو الوليد» مع رفاق له في قيادة المقاومة الفلسطينيّة) كان يمكن أن يؤدّي إلى مكاسب تبخّرت بمجرّد أن وافق عرفات على الانسحاب من دون تحقيق أي تنازل مُضاد.
8) تغيّر اسم اللجنة لاحقاً في مجلس النوّاب الأميركي إلى لجنة العلاقات الدوليّة.
9) عمل رئيساً لـ«المؤتمر الفلسطيني في أميركا الشماليّة» ثم مديراً للجمعيّة الوطنيّة للعرب الأميركيين.
10) من شهادة عن الحصار لشفيق الوزّان، أسير الفريق الانعزالي يومها، والشهادة وردت في مجلّة «الوسط»، وهي منشورة في الكتاب، ص. ١١١.
11) لشهادة من مقابلة مع «قناة الحوار» في الحلقة ٢٤، وهي منشورة في الكتاب، ص. ١١٧.

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)