يُستحسن، بدءاً، تبديد أي انطباع من نوع أنه في سياق ثنائية «الإصلاح» و«المحاصصة»، ثمة، من المعنيين، من يلتبس عليه الأمر، أو أنه لا يدرك ماذا يفعل. ولذلك فالنقاش يدور هنا حول كشف مسار تعبوي إعلامي، مخادع نوعاً ما، من حيث هو لا يسمي الأشياء، تماماً، بأسمائها، وذلك لإضفاء طابع وطني عام على هدف فئوي خاص. أكثر من ذلك، وفي نطاق نقاشات مباشرة أو غير مباشرة، برزت ملامح ارتياح وتهنئة للذات، في كل مرة كانت الانتقادات تتناول ذلك المحتوى الفئوي للسياسات والتوجهات والتعبئة والمطالب والشعارات.
فهذه الانتقادات كانت، على العكس من وظيفتها، تؤكد للمعنيين بها أنهم يسيرون في الطريق الصواب، وأنهم ينبغي أن يواصلوه بثقة أكبر، وفق منطق أن أوضح دليل هو ما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء!
لا يمر أسبوع دون أن يطالعنا صاحب العهد أو مساعدون له بتأكيد إنجازاتهم في الرئاسة والحكومة والتدابير والمواقف... لا يعبأون بما تنطوي علي مسألة نسبة هذه الإنجازات، بمعزل عن طبيعتها، حصرياً، لطرف واحد هو العهد نفسه. قد «يتطفل»، أحياناً، رئيس الحكومة، مبرراً أو ممنِّناً، بأنه هو من بادر في مسألة الرئاسة الأولى، وفي تشكيل الحكومة، وفي بيانها الوزاري، وفي قانون الانتخاب وصولاً إلى «السلسلة»... لكن رئيس الحكومة لا يُلح ولا يدّعي أكثر من فضل المبادرة دون الزعم بامتلاك «مشروع إصلاحي» متكامل للبلد وللمنطقة عموماً إذا أمكن!
«الإصلاح والتغيير»، وفق أصحابه، كما لاحظ كثيرون ولاحظنا، هو «إصلاح» توازنات منظومة المحاصصة بحيث تتأمن «الميثاقية»، وتُزال «الذمية»، وتتحقَّق «المناصفة» بين المسلمين والمسيحيين. هذا التوصيف للإصلاح والتغيير، المعني هنا، قد لا يكون مثالياً من حيث شموليته ودقته. لكنه، بالتأكيد، لا يظلم حملة لوائه: لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون: فمن شعار «الرئيس القوي» إلى مظاهرات ومظاهر الاحتفالات بالنصر على طريق «قصر الشعب» وفيه، إلى استعادة ثنائية طائفية قديمة على مستوى السلطة في مجلس الوزراء خصوصاً، إلى تسخير المؤسسات الرسمية لخدمة سياسات وعلاقات فئوية شبه كاملة، إلى كل التعيينات (ما تقدم منها وما تأخر) وفي كل الحقول والمجالات السياسية والعسكرية والأمنية والقضائية والديبلوماسية والتربوية... في كل هذا السياق حرص أكيد ومتجدد على مواصلة مسار «إصلاح» بات أقرب إلى وهم إمكانية استحضار غلبة بائدة (بالتعطيل على الأقل) منه إلى تطبيق «المناصفة» التي يتكرر الادعاء بأنها دائمة وليست مؤقتة في تسوية «الطائف»! ومعروف أن هذه التسوية، المكرسة دستورياً، وضعت آلية متكاملة لإصلاح النظام: بتحريره من المحاصصة الطائفية والمذهبية، وبإحالة الهواجس الطائفية إلى «مجلس شيوخ» محدّد ومحدود الصلاحيات، يستحدث لهذا الغرض بعد إلغاء الطائفية من المؤسسات الرسمية جميعها دونما تمييز!
في السياق المشار إليه آنفاً، برز، بالإضافة إلى الطابع الطائفي والفئوي، الطابع الفردي أيضاً لجهة إغراق «التيارالوطني الحر» والإدارة الرسمية بأفراد العائلة. يمتُّ ذلك إلى أحد تقاليد الإقطاع السياسي الذي ما زال فاعلاً في البلد، وليس إلى مشاريع إصلاحية حديثة تقوم على مبدأ المساواة والكفاءة واختيار الأنسب وصحة التمثيل بالوسائل الديمقراطية. هذا يُضعف، بالتأكيد، الدعوة للتخلص من السلبيات القديمة المتوارثة، طالما أن قوى حديثة وناشئة تنسج على نفس المنوال.
إن تفعيل المحاصصة قد تكامل، وأحياناً، دون قفازات، مع محاولات دؤوبة ليس فقط لتشويه وتجاهل البنود الإصلاحية في تسوية «الطائف» ودستور البلاد، بل أيضاً للتخلص من هذه البنود نهائياً. حصل ذلك في اجتماع بعبدا التشاوري لجهة المطالبة بتجميد المواد الدستورية المتعلقة بإلغاء الطائفية السياسية. وتكرر هذا الأمر في النقاش الطويل بشأن قانون الانتخاب الجديد لجهة تكريس الطائفية بحيث تنتخب كل طائفة ممثليها (المشروع الأُرثوذكسي)... هذا إلى عقد صفقات أدت إلى التمديد مرة ثالثة للمجلس النيابي (المرشح لاحتمال تمديد جديد)، وإلى تعطيل رقابة المجلس النيابي مجدداً على الموازنات بالسعي لإقرارها دون قطع حساب (تجميد المادة 87 من الدستور)، وإلى عقد صفقات سياسية في مسائل تعود مرجعية تكوين ملفاتها ومتابعة وضع دفتر شروطها وملاحقة التنفيذ فيها، لهيئات مختصة (كما في صفقة البواخر)...
طبعاً، يستطيع العهد وفريقه أن ينسب لنفسه نجاحات في تحقيق بعض ما رفعه من شعارات ومطالب. والمقصود تعزيز «الحضور المسيحي»، ممثلاً بالتيار الوطني الحر أساساً، في سلطة ومواقع القرار السياسي والإداري. ورغم أن العهد قد برَّر، أحياناً، إصراره على «المناصفة» بتصويرها خطوة إجبارية وتمهيدية نحو تطبيق الدستور والتوصل إلى إلغاء الطائفية السياسية، فإن الممارسة قد سارت، تماماً، بعكس هذا التوجه وفق ما أشرنا وما لم نشر إليه من الممارسات.
أما الشق المتعلق بمحاربة الفساد، وهذا بند أساسي في أي إصلاح، فيمكن القول أنه لم يحصل تقدم حقيقي في هذا الحقل، بل إن تراجعاً خطيراً قد تجلى في مسائل النفط والمراسيم التي نظمت حقوق الدولة ورقابتها، وكذلك في ملف الكهرباء والبواخر، وفي دعم المحاسيب واختيار الموظفين، وفي تعميق الولاء على حساب الكفاءة، وفي الصفقات الكبرى التي كان «الإبراء المستحيل» أحد أبرز ضحاياها الأول!
ليس من المناسب أبداً إهمال مواقف سياسية عبَّر فيها العهد رسمياً، عن رفض المطالب والسياسات الأميركية والصهيونية في موضوع المنطقة والصراع فيها وفي مسألة المقاومة ودورها. الخشية أن تكون تلك السياسات مشروطة بتأييد النهج الذي أشرنا إلى محاوره في السياسات والعلاقات الداخلية ضمن منظومة المحاصصة المشكو منها والتي تقوم على تسخير موارد البلاد ومصائر العباد لمصلحة قوى وأفراد يتذرعون، بالدفاع عن «حقوق» طوائفهم، لإقامة دويلات مانعة لبناء دولة حصينة: بمواطنة متساوية ووحدة وطنية راسخة وبنية مؤسساتية متينة...
كتب الأستاذ نقولا ناصيف (الصحافي المستقل بدرجة ملحوظة من الحيادية) يوم الثلاثاء الماضي في «الأخبار»: «في أقل من سنة في عمره لم يسبق لعهد أن خلَّف وراءه هذا الكمّ من السوابق الدستورية والقانونية في مدة قياسية كهذه». طبيعي أن ذلك ليس مسؤولية العهد وحده. لكن للعهد مسؤولية مميزة، حالياً، ولا شك!
* كاتب وسياسي لبناني