يذكر سمير أمين في كتابه الأخير عن روسيا («روسيا والانتقال الطويل من الرأسمالية الى الاشتراكية»، 2016؛ وهو عبارة عن مجموعة دراسات ومقالات كتبها أمين على مراحل متباعدة بين 1990 و2015) أنّه كان قد أصدر مع اندريه غوندر فرانك، في أواخر السبعينيات، نصّاً يوصّف خصائص المرحلة النيوليبرالية التي كانت بوادرها تحلّ في الغرب.
الحجّة الأساسية فيه هي أنّ ثورة المعلومات والتواصل ستتيح للاحتكارات التجارية الكبرى أن تتوسّع بشكل معولمٍ غير مسبوق، وأن «تفكّك» سلسلة الانتاج وتوزّعها على عشرات ومئات «المورّدين» المنتشرين في بلادٍ مختلفة (التكنولوجيا الحديثة تسمح بالتنسيق بين مئات وحدات الانتاج ومتعاقدين موزّعين حول العالم، وتحقيق التواصل بينهم وادارتهم كأنهم جسدٌ واحد، وهو ما كان مستحيلاً في السّابق). أبرز نتيجة لهذه «التجزئة» في عملية الانتاج ــــ وتوسيع الاحتكارات الى مستوى عالميّ غير مسبوق ــــ هي أنّ أنماط التنمية الوطنية «المميّزة» التي سادت تاريخياً في دولٍ كفرنسا أو المانيا أو اسبانيا لن تعود ممكنة. لا يظلّ هناك تلفزيون «صُنع في هولندا»، يقول الكاتبان، فإنتاج أبسط السّلع يصبح سلسلة متناثرة بين أكثر من بلد (مئات المورّدين يصنعون هاتف «آبل» أو طائرة «بوينغ» ويصمّمون اجزاءها، مثلاً، وإن كانت الشركة صاحبة الاحتكار تحجز لنفسها الجزء الأكبر من قيمة الفائض). لا تعود هناك «سيارة يابانية» لها خصائص تختلف نوعياً عن «السيارة الأميركية»؛ ولا تظلّ هناك مساحة لـ«نموذج وطني» للتنمية والاقتصاد، حين تكون شركاتك ومصارفك جزءاً من سوقٍ معولمٍ مترابط لا تتحكّم به الدولة الوطنية.
ما علاقة كلّ هذا بما يجري حالياً في كاتالونيا؟ أنا أقول بأنّ العلاقة وطيدة، بل إنّ حركة الانفصال الكاتالوني ــــ في شكلها الحالي ــــ هي أبلغ تعبيرٍ عن التوتّر الّذي يعتري الرأسمالية اليوم، والذي تنبّأ به سمير أمين وغوندر فرانك، بين السّوق المعولم والدولة الوطنية. لو أنّ كاتالونيا قد طالبت بالانفصال في أيّ مرحلةٍ سابقة، من القرن التاسع عشر حين بدأت نهضتها الصناعية وتميزها الاقتصادي الى عشرينيات القرن العشرين، وصولاً الى أيّام فرانكو، لكان قرار الاستقلال عن اسبانيا يعني أمراً جللاً. الاستقلال كان سيعني الانفصال عن السوق الوطني الاسباني، وعن نموذج التنمية الموجود في اسبانيا والذي تتطوّر كاتالونيا في كنفه، وستقطع الأوصال التي تربط المقاطعة بالاقتصاد الأوسع الذي يغذّيها. بمعنى آخر، كان خيار الاستقلال الكاتالوني يعني، تاريخياً، خسارة الامتداد الاسباني وبناء سوقٍ بديلٍ ضمن حدود المقاطعة والاكتفاء بحجمه الصغير (أو الاندماج تحت سيادةٍ بديلة، كفرنسا مثلاُ). هذا ما جعل القوميين الكاتالان، حين وجدوا أنفسهم أمام المنعطف (في الثلاثينيات وفي أواخر السبعينيات)، يفضّلون الحقوق الثقافية والحكم الذاتي على الانفصال والاستقلال ــــ فيما عبّر الكثيرون غيرهم في كاتالونيا عن أنفسهم عبر حركات سياسية تغييرية، وتقدميّة غالباً، على مستوى اسبانيا ككلّ.
اليوم، في ظلّ الرأسمالية الجديدة، أصبح الوضع مختلفاً بالكامل. لم يعد انفصال كاتالونيا يعني زلزالاً اقتصادياً في المقاطعة ودخولها في سياقٍ جديدٍ غير مضمون العواقب. على العكس تماماً، فإنّ كاتالونيا مستقلّة، عضوٌ في الاتحاد الأوروبي، يمكنها أن تستكمل «العمل كالمعتاد» في الصباح التالي للاستقلال: علاقاتها التجارية مع اسبانيا ستظلّ كما هي، قد تخرج بعض الشركات من المقاطعة وتنقل شركات أخرى مقرّاتها اليها ولكن عمليّة الانتاج والبيع والشراء، بالاجمال، لن تتغيّر، وهي أصلاً مدمجة بالاقتصاد الاوروبي والعالمي وليس «الاقتصاد الوطني الاسباني». كما أنّ نفاذ الشركات الكاتالونية الى اسبانيا ــــ وبالعكس ــــ لن يتغيّر، حتّى ولو غضب الإسبان عليهم وترصّدوا لهم (ففي الاتحاد الأوروبي، انت مجبرٌ على معاملة كلّ الشركات الاوروبية في بلدك على قدم المساواة، ومن المحظور عليك أن تفرض حصاراً أو عقوباتٍ ضدّ جيرانك على هواك).
من هنا، أصبح من الممكن النّظر الى استقلال كاتالونيا كمحض عمليّة «هويّاتيّة»، تتعلّق بالانتماء والثقافة وتوكيد النّفس، ولا تتضمّن «ثورةً» وتحوّلاً في نمط المعاش ولا تجبرك ــــ ككاتالوني ــــ على الدّخول في المجهول وبناء قدرك القوميّ من الصّفر. هذا حتّى لا نبالغ ونقول إنّ مطلب الاستقلال لن يعدو أن يكون أكثر من عمليّة «تجميليّة»، لن يعني بالنسبة الى العديد من أهل المقاطعة، من الزاوية العمليّة، الّا تخفيفاً للعبء الضريبي عن المقاطعة الثريّة (وأنا، صراحةً، لا أفهم ما الّذي يتوقّع الكاتالونيون الحصول عليه من الانفصال؛ فالسلطات المحلية في اسبانيا لديها ــــ بالفعل ــــ صلاحيّات واسعة جدّاً. وفي وسع أهل كاتالونيا أن يطلقوا أسماء أبطالهم التاريخيين على الساحات والشوارع، وأن يكتبوا الأغاني بلغتهم البائدة ويجبروا الأطفال في المدارس على تردادها. بل، وهنا المفارقة، ما معنى «تقرير المصير» والتحقّق القومي، عملياً وفي القرارات الأساسية، وانت تخضع لمنظومات الاتحاد الاوروبي والـ«ناتو» والاقتصاد المعولم؟ اقامة العروض العسكرية؟).

الدّولة والسّوق

بناءً على ما سبق، لو حصل ــــ فرضاً ــــ الاستقلال في كاتالونيا، فإنّ لا شيء أساسياً سيتغيّر على مستوى الاتحاد الاوروبي، ولا على مستوى علاقات الانتاج في الرأسمالية المعولمة ــــ الخاسر الوحيد سيكون الدولة الوطنية الاسبانية. هنا تحديداً يقع أحد مصادر التناقض اليوم، حتّى في الغرب الثري، بين الدّولة والسّوق: السّوق أصبح معولماً وانتفى «النموذج الوطني»، ولكن لا توجد ــــ في الوقت ذاته ــــ «حكومة عالميّة» تدير الأمور. كما أنّ السّياق الديمقراطي في اوروبا يزيد من وضع الدولة الوطنيّة حراجةً. يكفي أن يجد بلدٌ كاسبانيا نفسه في وجه حركةٍ انفصاليّة، قد تحوز على شعبيّةٍ في لحظةٍ ما تحت تأثير أزمةٍ أو هبوطٍ اقتصاديّ، وأن تُخرج النّاس الى الشّارع بمطلبٍ قصووي (كالاستقلال)، حتّى تجد نفسها في موقفٍ صعبٍ للغاية (والأحزاب التي تحكم كاتالونيا اليوم قد جاءت على أجندة الاستقلال، ولا وجود سياسيّاً لها خارجها، ولا حافز لديها لعدم التصادم مع الحكومة أو التواضع في المطالب، ولم يتبقّ هناك أصلاً مطلبٌ «قومي» يمكن للحركة الكاتالونيّة أن تفاوض عليه غير الاستقلال). ستقع المشكلة بغضّ النّظر عن قانونيّة العمليّة أو الاستفتاء، ببساطة لأن الدولة الاوروبية لا تملك أدوات في وجه حركةٍ من هذا النّوع.
العلاج التقليدي للحكومات في وجه الانفصاليين ــــ العنف والقمع ــــ ليس ممكناً في السياق الاوروبي اليوم، بل إنّ مجرّد وضع الشّرطة في وجه محتجّين مدنيين (ونساء وأطفال)، ولو كانوا يخرقون القانون بالمعنى التقني، سيكون بداية مواجهةٍ خاسرة للحكومة، وسيتعاطف الرأي العام العالمي مع المحتجّين، وسيتم وصف الحكومة بالفاشية، وتذكيرهم بفرانكو، بل قد يزيد المنع من شعبيّة مطلب الانفصال والتفاف أهل كاتالونيا حوله في لحظةٍ سياسية مصيريّة (في اميركا، بالمقابل، فإنّ كلّ النّاس الذين رأيتموهم في صور الصحافة في برشلونة يتصادمون مع الشّرطة، كان سيتمّ اعتقالهم، وسيقضون ليلتهم في السّجن، ويكرّسون الأشهر المقبلة من حياتهم للدّفاع عن أنفسهم في المحاكم ضدّ تهم متعدّدة، من مقاومة الشرطة وعدم الامتثال الى احتلال مساحاتٍ عامّة أو التحريض على النظام. في اميركا، فهم الحكّام أنّ ما يحقّق الانضباط والرّدع في الدّولة الحديثة الديمقراطية، ويبثّ الخوف في قلوب المواطنين، هو ليس البطش والسّيّاف والخازوق بل البيروقراطية والشرطة والمدّعي العام). المشكلة هنا لا تتوقّف على اسبانيا وكاتالونيا، بل إنّ هذا النّموذج، لو نجح وتعمّم، فمن الممكن تخيّل مستقبلٍ افتراضيّ لا يعود فيه أمام أي مقاطعة ثريّة في اوروبّا، تدفع ضرائب للحكومة الوطنية أكثر مما تتلقّى، من حافزٍ لعدم اكتشاف هويّتها القلتيّة واحياء مشاعرها القوميّة والمطالبة بالانفصال. هذا، بالطّبع، ليس أمراً سيئاً من وجهة نظر «حقّ تقرير المصير» ولكنّه، عمليّاً، لن يعني غير إعادة توزيعٍ لخارطة الدّول على أساس الدّخل، تزيد من الاستقطاب بين الفقراء والأثرياء (لاحظوا أنّ الأقاليم الأفقر في اوروبا، من الاندلس الى جنوب ايطاليا الى اوكسيتانيا، لا تميل عادةً الى المطالبة بالانفصال، بغضّ النّظر عن تاريخها والقمع الذي تعرّضت اليه في الماضي).

خاتمة

أمّا في بلادنا، من جهةٍ أخرى، فإنّ المعادلة أعلاه عن عولمة السّوق وانحسار الدّولة الوطنيّة لها نتائج أكثر عمقاً وتأثيراً: في المرحلة النيوليبرالية، يكتب سمير أمين، ليس أمام الدّول الطرفيّة الخيار الذي اعتمدته أكثر أنظمة الاستقلال في القرن العشرين ــــ مشروع تنمية متمحورٌ حول الذات، «برجوازية وطنية» لها مصلحة في معاداة الامبرياليّة والسيطرة على سوقها الوطني، ونظامٌ «ثوري» (ولو كانت ثورية «من فوق»). في دولنا الطّرفيّة اليوم، لن تجد «برجوازية وطنية»، حتّى بمعنى النّخب الفاسدة التي تنتجها الأنظمة الهزيلة، بل إنّ الطّابع الكمبرادوري، التّابع، للنّخب أصبح هو الطّاغي في عصر العولمة. الارتباط بين البرجوازيّة في بلادنا وبين الرأسمالية الغربية أصبح مباشراً وعميقاً، ولم يعد مقتصراً على فئاتٍ صغيرة، متحكّمة، كما في القرن العشرين. فكرة أن تكون «ناجحاً» في بلادنا أصبحت مرتبطةً مباشرة بأن تنال موقعاً تابعاً في كنف «البرجوازية المعولمة»: الموظّف في المؤسّسة الدولية أو الجامعة الأميركيّة، الاداري في شركة احتكارية غربيّة كبرى، «المتنوّر» الذي يمثّل الغرب في مجتمعه «المتخلّف»، الخ… بل إنّ المنظّمات الغربيّة تقوم، تصاعديّاً، بتمويل الفنّانين والفرق الموسيقيّة والإعلام «المستقلّ»، مثلما تموّل القضايا والنّاشطين، وستقرّر لنا في المستقبل ــــ عبر نخبها ــــ مقاييس الذّوق الرفيع والفنّ الذي يستحقّ أن يُنتج والفكر الذي يستحقّ القراءة. الرّهان على «برجوازية وطنية» و«مشروع عالمثالثي» تنظّر له وتقوده هو، بكلمات مبسّطة، رهانٌ خاسرٌ منذ البداية والنخبة، كلّها، هي العدوّ. ما هي إمكانيّات ــــ أو معنى ــــ التحرّر في سياقٍ كهذا؟ وما الفائدة من أن تصمد وتنتصر في الحرب وأنت لا تملك مشروعاً بديلاً، مختلفاً، لما بعدها، يعطي معنىً للحرب وللتضحيات والخسائر؟ وهل يكون الصّمود والتحرير مجرّد جسرٍ لتسليم مقدرات البلد، من جديد، الى النّخبة ايّاها، والى السّوق المعولم الذي يسلبنا السّيادة ويحكم علينا بالفقر والتهميش؟ ستمثّل هذه التساؤلات، تحديداً، محور النقاش في المقال القادم.