انصبت أراء معظم الباحثين في قضايا الحوزة الدينية على تمجيد إرادة الوحدة حيناً، بما يعطي بعداً مؤسسياً تنظيمياً مركزياً عالمياً للحوزة، أو على تمجيد إرادة التنوع ولبس عباءتها حيناً آخر في سياق فكرة الإقليمية الثقافية والجغرافية، أو على أساس فكرة التعددية التي أخذت تتكرس بقوة كاتجاه في الفكر الإنساني.
وبين الوحدة والتنوع ترسو التقاليد المؤسسيّة الراسخة التي تنظم علاقات الوحدات الحوزوية، وإن بدت بنفسها متماثلة من حيث الشكل التاريخي والتدابير البيروقراطية، أو لجهة العلاقة بين الدارسين والمدرسين، دون أن ننسى المرجعيات الدينية ودورها في الحفاظ على ما يشبه البنية الفيدرالية وعلى لامركزية إدارية في أنظمتها صوناً لاستقرار داخلي قديم، وحفاظاً على توازنات وشرعيّات عميقة، يصبح معها الانتقال إلى حالة منهجية وطريقة تعليمية جديدة محكومة لسقوف وعوائق نفسية وتاريخية ومعيارية قاسية.
لكن سؤالاً أولياً ضرورياً يبقى أهم من الانحياز إلى أيٍّ من المسارات الثلاث: التوحيدي، التعددي، التقليدي، هو كيف تقف الحوزة أمام ذاتها، لتناقش بوعي ومسؤولية ظرفيتها الأولى، وتاريخية نشوئها واستمرارها وصولاً إلى التحدّيات التي تواجهها لإجراء تقدير واقعي لموقعها على خريطة المعرفة. هذا النقاش يجب أن يشكل وعياً علمياً موضوعياً بواقعها بل أكثر من ذلك، أن يغدو عملية تربوية تحقق إمكانية نقل هذا الوعي إلى الكيانات الثقافية والاجتماعية الأخرى.
كلنا يعلم أننا بحاجة إلى من يقوم بحفر أركيولوجي في الموروث الحوزوي للبحث في المسلّمات التي كانت تحكم طريقةً تفكيريةً عن أخرى، وفي السياسات الفعلية المتبعة التي كرست منهاجاً وسياقاً تعليمياً معيناً سنين متواصلة، دون أن تلجأ الحوزة إلى تعديله والنظرِ في صلاحيته الزمنية والبيئية، مرتكزة على فكرة أنّ ما عندها هو خير من كل جديد، وما عندها خرّج علماء كبار ولا يقين بأنّ الجديد ينطبق عليه قول طرفة بن العبد «ستُبْدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً/ ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تزوِّدِ». أما شبهة، أنّ المناهج القديمة التي يعتبرها البعض منبع النبوغ والعبقرية قد خرّجت علماء كبار، فللأسف لا أحد من المدافعين عنها يقبل أن يناقش أنّ مسألة نبوغ علماء كبار ليس العامل الوحيد فيها هي المناهج، بل هناك عوامل أخرى كثيرة دخيلة في ذلك. ثم ماذا عن آلاف الطلبة الذين درسوا على نفس هذه المناهج ولم يحصلوا على النبوغ الذي حصل عليه عدد من العلماء الأفذاذ الذي كان لرقيهم المعرفي وإبداعاتهم في علوم مختلفة مواهب وملاكات وقابليات خاصة لم تتوفر لغيرهم. ثم إنّه ليس من العلمية التعصب لمنهج قروناً متواصلة والتوّجه عوضاً عن تطويرها وتحسينها أو تبديلها وفقاً لحركة العلم وكشوفاته إلى ترسيخها على ما هي عليه خوفاً من تلويثها بأفكار حديثة!

كيف تتناقش الحوزة مسؤولية ظرفيتها الأولى وتاريخية نشوئها واستمرارها


باعتقادي إنّ موضوع نقد المناهج والأساليب الحوزوية يجب أن لا يتحول إلى حالة صراعية بسبب التباينات الصارخة في النظرة إليها، بل مجالاً معرفياً في إطار المنافسة حول بناء التصورات والأفكار والقيم، وكانعكاس للحاجات وظروف العصر الحالية. يجب أن ندرك جميعاً أن أزمة المناهج والأساليب لم تعد أزمة داخل الحوزة فقط، بل أزمة لها امتدادتها الاجتماعية والثقافية والتربوية خارج الحوزة على نحو واسع. لذلك نحن بحاجة إلى إعادة تفحّص للمناهج التعليمية على ضوء النظريات الحديثة. والقضية هنا لا علاقة لها بما ينتجه الغرب كغرب، بل لها صلة قوية بتطور العلوم والإنجازات المعرفية، وكذلك بالأسئلة التي انتعشت انتعاشاً مذهلاً في ظل الانجازات التي دشنتها العلوم الإنسانية والاجتماعية، والدعاوى الملّحة التي تطالب جميعها الحوزة بإيجاد أجوبة ومقاربات في مختلف مجالات العلم والحياة. وطالما أنّ المناهج التي يتوارثها الطلبة والمدرسون جيلاً بعد جيل لا تتمتع بطابع مطلق، ولا تقدّم إجابات كليّة على التحديات القائمة، فإنّ نقدها وتحليل علاقاتها أمر لا يجب أن يشكل حساسية سلبية في مسيرة المعرفة والتكامل، خصوصاً أنّ العيوب المصاحبة لهذه التقاليد المنهجية أصبحت أكثر انكشافاً مع التحولات العلمية المتسارعة. وعلى سبيل المثال، فإننا نلاحظ أنّه عندما تطبق مناهج تعليمية منتظمة وغير قابلة للتغيير من حيث الجوهر على قوميات وبيئات وعقول وأفهام شديدة الاختلاف فإنّ هذه المناهج تساعد على الحفاظ على اللامساواة التعليمية عند الطلاب بل ومفاقمتها، فمن الوضوح بمكان أنّ التباين الثقافي واللغوي والجغرافي عوامل لا يمكن إنكارها، وبالتالي لا يمكن لمنهج أن يحقق غاياته القصوى إذا كان مقطوع الصلة بواقعه وبيئته وتاريخيته. وحتى لا نقع في أي التباس مسبق علينا أن نوضح أن أي تعديل في المناهج وأساليب التربية والتعليم وطرائق التدريس على مستوى التقنيات والإجراءات لا يقصد منه إحداث قطيعة مع التراث وفك الارتباط معه، بل الانتقال بالمناهج المتوارثة تلك من موقعها المتعالي ومن كونها مقدساً معرفياً، إلى وضعية اللغة البشرية المتحركة المتداولة والمتحررة من أي تابوهات تاريخية أو قبلِيات مهيمنة. على ضوء ما تقدم، فإنّ على المشتغلين في المجال الحوزوي تحليل العناوين والقضايا التالية:
1. شروط صلاحية المناهج التي تدرس واحدة في معظم البيئات العلمية، والبحث في طريقة اشتغالها وإنتاجها للمعنى.
2. النظرة التعبّدية أو لا أقل النظرة الساكنة إلى المناهج الحالية التي لا يمكن لها أن توّلد المزايا الخاصة لهويات علمية متعددة، وليس لها القدرة على المشاركة في تشكيل السلوك الإنساني الذي يمرّ بأعقد مراحله.
3. مشاعر التعبير عن قضايا تراثية هي لا شك أصيلة لكن طريقة التعبير عنها ومقاربتها ما زالت تثير إشكاليات خصوصاً عندما تُقّدم على أساس كونها حقيقة كلية ونهائية.
4. الفجوة بين النظريات الفقهية والأصولية التاريخية وارتباطها بالفضاء الاجتماعي الإجرائي التطبيقي.
5. غالباً ما يكون للغة تأثير كبير في الفهم، والمتون الدراسية كُتبت بمعظمها باللغة العربية وهي تعكس تأثير الخصائص الثقافية والاجتماعية والبيئية لمؤلفيها، بينما لو كتبت بلغة دارسيها، وكانت ابن بيئتها على مستوى المصاديق وانعكاساً لتحديات محلية، فإنّ الكثير من المشكلات العلمية والعيوب المفاهيمية الشائعة ستدخل في دائرة الفهم والاستيعاب، وستغدو العملية التعليمية أقرب إلى الواقع والنجاح.
6. الدينامية اللازمة للتفاعل مع التطورات الثقافية والمتغيرات العلمية . ففي الوقت الذي يشهد الفضاء الأكاديمي العالمي فورة في الكتب والدراسات التي تبحث في المناهج الدراسية التعليمية، نرى أنّ تعايش الحوزة مع أي منهج جديد يواجه صعوبة بالغة، كذلك فإنّ القيام بإجراءات عصرية تكاد تكون غير مستساغة.
أما في المبادرات فنقترح التالي:
1. أن تتسم مناهج الحوزة بالتغيير والمطواعية والمرونة والتفاعل بين البعد النظري والبعد الواقعي بحيث يكون منطق الكتب والأفكار ملامساً لحركة الواقع خصوصاً أنّ المؤسسات والجامعات ومراكز البحوث العلمية في العالم تتجه إلى رفع قدراتها وكفاءاتها العلمية والمنهجية والتنظيمية، وما وصلت إليه هو نتاج قرون من التبلور، فيما لا تزال مناهجنا الحوزوية على وضعية الدساتير الجامدة.
2. إنشاء مركز علمي متخصص مستقل يُعنى بوضع المناهج الدراسية والمتون التعليمية، إضافة إلى دوره في تقديم خدمات علمية وإرشادية وإدارية وتدريبية أخرى.
3. تأسيس شراكات وبروتوكلات تعاون بين مختلف الحوزات الدينية وأن لا يكتفى بأن نكتشفها متآخية فقط.
4. إعطاء الكيانات الحوزوية البعيدة عن قم والنجف والتي تشعر بضعف هويتها الخاصة واستقلاليتها الثقافية والعلمية حرية كافية للمساهمة في تقوية مبادراتها الفردية لتظهير أفكار وأطروحات أساتذتها وطلابها الإبداعية.
5. البحث عن أشكال جديدة لتنظيم الكيانات الحوزوية بأن تجمع بين التقاليد الفيدرالية والتدابير الدمجية على طريقة الأحلاف السياسية التاريخية.
6. التشجيع على دينامية تنافسية بين الكيانات الحوزوية التي تنتمي إلى إثنيات عرقية وهويات ثقافية ولغوية وإقليمية متعددة، ذلك أنّ التعدد أساس التنمية والمنافسة الإبداعية.
7. إدخال الحوزة في رياضة جديدة بمعنى أن نعيد التفكير في وظيفتها الحضارية وصلة علومها بالحاضر والمستقبل، وكيف يمكن أن نحوّل القيم والبحوث التي تصنعها إلى حقائق اجتماعية.
(مداخلة قدمت في مؤتمر الحوزة العلمية ودورها في العصر الراهن في بيروت)
* باحث وأستاذ جامعي