(1)

ظريفٌ هذا السّجال المكتوم على «لبنان الكبير» بعدما صار عظاماً رميماً تذروه الرّياح. لا لسبب إلا بمناسبة مرور مئة عام على ولادته. مع أن الاحتفال بعيد الميلاد لا معنى له بعد موت الوليد، خصوصاً إن يكُن غير مأسوفٍ عليه حتى لأهله، الذين استولدوه بعمليّة قيصريّة، وأكثر من ذلك أنّنا قد اتفقنا جميعاً، والحمدُلله، بملء إرادتنا، وبصرْف النظر عن أي مشروعٍ ماضٍ أو حاضر، داخلَ الحدود أو خارجَها، على لبنان السيّد الحرّ العربيّ المُستقلّ وطناً نهائيّاً لجميع أبنائه.

وظريفٌ جدّاً وصف الأُستاذ جهاد الزين لبنانَ الكبير بإنّه «اختراع». هذا أشبه بأن تصِف أحدَ أبناء آدم بأنّه «ابن حرام». يعني، انسياقاً مع لغة جهاد، «اختراعاً» لمُخترعٍ مجهول. على أنّ ذلك الظُرف ليس غريباً على حفيد الشيخ علي الزين، شيخ ورائد مؤرّخي جبل عامل. وهو الذي تربّينا على قلمه وتعلّمنا منه كيف تكون باحثاً صلباً وظريفاً في الآن نفسه.
المؤرّخ الدكتور عصام خليفة، الذي دخل عالَم البحث سنة 1970 برسالةٍ على «جبل عامل والإمارة الشهابيّة»، حاول تبرئة «لبنان الكبير» من صفة المشروع الاستعماري الأجنبي المُفروض فرضاً على قسمٍ من شعبه. وذلك بالقول أولاً إنّه نتيجة توافقٍ طوعيّ (!). وثانياً بأنه أبعدُ زمنيّاً بكثير من الاستعمار الفرنسي المُغلّف بالانتداب. بالقول ضمناً، أي من دون أن يُصرّح، بأنه يرجع إلى الفترة التي حكم فيها الأمير فخر الدين المعني الثاني (1535 ـــ 1572). وأنا أخشى أن يكون قد أغمض الأمر، حيث اكتفى بإيراد الحقبة التي حكم فيها المعني من دون اسمه، هرباً من صيت المعنيّ السيّئ. وعلى كلّ حال، فإنّني أراه قد أوقع المسألة في حفرةٍ أعمق من تلك التي احتفرها له الأستاذ الزين.
من السّهل جدّاً أن نُبرّئ ونُنزّه هُويّة وطننا في التاريخ، بالقول إن هذا الأمير قد قتل من اللبنانيين أكثر ممّا قتل أيُّ إنسانٍ آخر في كلّ التاريخ الذي نعرفه. ولكنّني، أنا ابن بعلبك، لديّ ثأرٌ خاص عند هذا الطاغية. وهو الذي دمّر بلدي تدميراً، وجعل عاليه سافله، وهجّر النّاجين من أهله، وأتلف زروعه، وقطع أشجاره، وانتهب حواصله، وساق قطعانه. بحيث أن بعلبك بقيت من بعدُ خاليةً أو تكاد من السُّكان زُهاء قرنٍ من الزمان. وبحيث أن تركيبته السُّكّانيّة الحاليّة، هي نتيجة هجراتٍ مُتمادية إلى البلد الخراب، قادمة من قُرى هضاب السلسلة الشرقيّة، من الجُبّة وعسّال الورد، حتى سرعين والخريبة وطفيل والنبي سباط، إلى قُرى غيرها درست. وأُخرى قادمة من كسروان وجبيل وعكّار. وحتى اليوم ما تزال أكثر أسر المدينة تتذكّر أُصولها إلى هاتيك البلدان والبقاع.
من هذه الأُسرات أُسرتنا. هاجرت (بالأحرى هُجّرت) إلى غير بلدٍ من بلدان جبل عامل. ثم عاد جدّنا بعد زهاء قرنين إلى بعلبك. ومنها أيضاً أُسرة صديقنا الأُستاذ جهاد، المقسومة اليوم بين جبل عامل وبعلبك. وأصل القسمين الأقرب من قرية إيعات المجاورة، وقبله من بعلبك. أي أنّها عانت الهجرة في تاريخها ثلاث مرّات: من بعلبك باتجاه جبل عامل وإيعات. ثم من هذه إلى بعلبك. وهي آخر هجرةٍ بارزة إليها باتجاه المُكوّن السُكّاني الفعلي للمدينة. ولقد تمنّى عليَّ أُستاذنا الشيخ علي الزين مرّةً، جدّ الأُستاذ جهاد، أن أصطحبه إلى بعلبك للتعارُف مع بعض أقاربه الأبعدين. ولكن وضعه الصحّي الدقيق حال دون ما تمنّاه. والأمثلة على مآثر فخر الدين من هذا الباب كثيرة، إلى درجة أنّك تجدُ حتى اليوم عشرات الأُسرات مقسومةً بين بعلبك وجبل عامل.
واليوم يأتي مَن ينسب الفضل في فكرة لبنان إلى ذلك السفّاك. الأمر الذي يطرحُ علينا سؤالاً: أي لبنان هو ذلك الذي أسّس له أو أوحى به؟

(2)


ما يتجاهله الجميع مع أنّه معروف، أن أوّل من طرح في سوق النّخاسة الدولي فكرة إنشاء وطنٍ لمسيحيّي الشرق، في الهضاب المُطلّة على ساحل البحر، المعروفة تاريخيّاً باسم لبنان، هو السياسيّ النمساويّ الدّاهية الأمير كليمنس مترنيش/ مترنيخ (1773 ـــ 1859)، بموازاة وطنٍ لليهود في فلسطين.
العِبرة التي نستفيدها من قراءة التاريخ، أن الطُّغاة قد يملكون البدايات. إذ يعمدون إلى تفصيل مصائر الشعوب بالمقصّ. يقطعون شريحةً إلى سلّة المُهملات. ويضعون أُخرى حيث تقتضي الهندسة الجديدة. ولكنّ الشعوب هي مَن يملك النهايات.
مَن ذا الذي كان يخطر له ببال، أن المشروع اللبناني حسب مترنيخ سيؤول أمره، بعد زهاء قرنين من الزمان، إلى أن يكون المُناجز الرئيس للمشروع اليهودي، بدلاً من أن يُكمله وظيفيّاً حسب مترنيخ أيضاً.
للتاريخ ربٌّ يقوده إلى مُستقرّه. والكلمة الأخيرة فيه للعباد. ولكنّ أكثر الناس لايعلمون.