(هذه هي الحلقة الثانية من المراجعة النقديّة لكتاب إليوت أبرامز، «الواقعيّة والديموقراطيّة: السياسة الخارجيّة الأميركيّة بعد الربيع العربي» 1).
يغفل إليوت أبرامز في سرديّته الانتقائيّة والنفعيّة أن إدارة جورج دبليو بوش لم تستفقْ على موضوع حقوق الإنسان والديموقراطيّة (وذلك حتى عام ٢٠٠٦ فقط، عند فوز «حماس» في انتخابات رمت فيها أميركا بثقلها لصالح محمود عبّاس وزمرة التنسيق الأمني مع العدوّ) إلّا بعدما فشلت القوّات الأميركيّة في العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق 2. أي أن اكتشاف موضوع نشر الحريّة تأتّى عن الحاجة إلى إخراج جديد للغزو الأميركي للعراق.

لكن سرعان ما تبيّن أن فلسفة بوش عن حقوق الإنسان لا تختلف عن فلسفة أسلافه، ومفادها أن الحقوق هذه مهمّة للإدارة عندما يخالفها أعداء أميركا فقط، وأن طغاة أميركا معذورون في خرق حقوق الإنسان.
ونجحت إدارة بوش يومها، في سياق الترويج لغزو العراق واحتلاله، في إقناع الشعب الأميركي بأن الحرص على حقوق الإنسان والترويج للديموقراطيّة هو في صالح الأمن القومي الأميركي وفي صالح الأمن في البلاد الأميركيّة. لكن جردة سجلّ تلك الإدارة لا تختلف عن سجلّ أية إدارة أميركيّة سابقة، ربما باختلاف مصطلحات الخطب الرنّانة التي مزجت بين التهديد والوعيد وبين طرح صيغة مثاليّة ــ ليبراليّة في العلاقات الدوليّة. وكان هذا الاستخدام ذكيّاً لأنه: ١) أقنع الأميركيّين بأن الرئيس حريص على سلامتهم وأنه وجد طريقة أخرى مبتكرة لحمايتهم من الإرهاب على المدى الطويل، ٢) وضع النقد الأميركي الكلاسيكي لـ«محور الشر» — حسب وصف ديفيد فرُم 3 — في خانة الحرص على حقوق الإنسان. لكن خطاب نقد حجّة الاستقرار كدافع في صنع القرار السياسي الخارجي الأميركي لم يطلْ، لأنه ووجه بمعارضة إسرائيليّة قويّة: إسرائيل لم تتوقّف منذ إنشاء الدولة على المحاججة في ضرورة رفض نشر الديموقراطيّة في العالم العربي لعلمها أن الشعوب أكثر عداء (بكثير) من قادتها نحو إسرائيل. هذا لا يعني أن الإمبراطوريّة الأميركيّة ليس لها حججها الخاصّة بها لمعارضة الديموقراطية. إن الإمبراطوريّة الأميركيّة اعتمدت على تدعيم وتسليح الأنظمة الديكتاتوريّة العربيّة وغير العربيّة بحجّة محاربة الشيوعيّة.
ويذكر أبرامز في كتابه أكثر من مرّة استلهام بوش لأفكار الصهيوني، ناثان شارانسكي، في كتابه «حجّة الديموقراطيّة: قوّة الحريّة لهزيمة الطغيان والإرهاب». واستشهد بوش، كما كونداليسا رايز، بالكتاب في خطبه وأحاديثه عن الديموقراطيّة، لا بل جمعه مع نشطاء «ديموقراطيّين». ويقول شارانسكي في كتابه إن نشر الديموقراطيّة في العالم العربي هو في صالح أميركا وفي صالح إسرائيل. وهو يزيد أن الدولة التي تُعامِل مواطنيها باحترام ستكون حتماً حريصة على احترام جيرانها — يقصد هنا إسرائيل. لكن قراءة الكتاب تتيح لنا معرفة ما يعنيه شارانسكي بالديموقراطيّة. هو يسلسل أسماء لمعارضين «ديموقراطيّين» عرب يحظون بتأييده (وتأييد دولته) لأنه يجد في مواقفهم تعبيراً عن معاني الديموقراطيّة التي يعنيها، لكن معظم هذه الأسماء غير معروفة من شعوب الدول التي ينتمون إليها (مَن، مثلاً، سمع بصلاح الدين سدهم في الجزائر أو بمحمد المغربي وسماري طراد في لبنان أو محمد مصطفى واختم نعيسة في سوريا وعصام أبو عيسى وبسام العيد في فلسطين، بالإضافة إلى سعد الدين إبراهيم في مصر—الأخير هو وحده معروف لأسباب عديدة) 4. أي أن إسرائيل وأميركا ستختاران للعرب حكّامهم الديموقراطيّين، وهي ستباركهم لأنها الوصيّة على الحريّة العالميّة. وقد دعا بوش شارانسكي إلى البيت الأبيض وطلب مِن مستشاريه أن يكون مضمونُ كتابه محور خطاب القسم لولايته الثانية 5.
لكن ما هي الترجمة العمليّة لمحور خطاب الحريّة الأميركيّة؟ هنا، نستطيع العودة إلى كلام كونداليسا رايز من أجل معرفة مضمون مبادرات الحريّة والديموقراطيّة الأميركيّة. تقول رايز إن «مسؤولين من أميركا وأوروبا اجتمعا مع وزراء من دول ملكيّة مثل الأردن والسعوديّة وديكتاتوريّات مثل سوريا في جلسات مكرّسة لحقوق الإنسان والديموقراطيّة» 6. لكن وصف «الديكتاتوريّة في المقطع يسري فقط على الدول غير المتحالفة مع أميركا.

تقدّم رايس في كتابها أصرح تسويغ أميركي لرعاية الديكتاتوريّات العربيّة


وهل أن السعوديّة أو حتى الأردن هي ليست ديكتاتوريّة، أم أن وصف الديكتاتوريّة بات — منذ الحرب الباردة — مصطلحاً سياسيّاً محضاً يخضع لحسابات السياسيّة للحكومة الأميركيّة؟ وما تحقّق في هذه الجلسات الديموقراطيّة؟ لم تفصح رايز عن مضامين الأحاديث الشيّقة.
ويجهد أبرامز في التوفيق بين زعمه أن إدارة بوش حرصت على حقوق الإنسان ونشر الديموقراطيّة وبين السجلّ الفعلي للإدارة. حتى هو يعترف أن الخطاب — حتى الخطاب — عن الديموقراطيّة خفتَ واضمحلّ بحلول عام ٢٠٠٦، عندما تخلّت أميركا عن خطابها السابق. وفي سنة ٢٠٠٥، زارت كونداليسا رايز القاهرة وألقت خطاباً شهيراً في ذم الاستبداد العربي، ودعم الديموقراطيّة كضرورة أمنيّة للولايات المتحدة وللاستقرار في المنطقة. بعد سنة واحدة من هذا الخطاب، أي في سنة ٢٠٠٦، زارت رايس نفسها مصر وتغيّر خطابها فيها وعنها. وأكّد مبارك يومها (بعد لقاء رايس) أن موضوع حقوق الإنسان والديموقراطيّة لم يُثَر مع رايس وأنها «لم تتطرّق إلى المواضيع الصعبة ولم تطلب (منّا) تغيير أي شيء» 7. وبوش زار مصر في كانون الثاني من عام ٢٠٠٨ وأصبح ينظّر لمقولة أن مبارك نفسه هو صاحب المشروع التغيير الديموقراطي في مصر، وقال مخاطباً مبارك: «أنت اتخذتَ خطواتٍ نحو الانفتاح الاقتصادي، وقد تحدّثتُ عن ذلك مع رئيس وزرائك، والإصلاح الديموقراطي. وآمل أن تبني الحكومة المصريّة على هذه الخطوات المهمّة» 8. لكن أبرامز يكشف أن بوش قال سرّاً لكتّاب خطبه إنه لا يعقد آمالاً على مبارك وأن لا شيء سيتغيّر في مصر طالما مبارك بقي في الحكم. أي ان أبرامز كشف كيف أن الخطاب الأميركي الرسمي هو خطاب كاذب، وأن الحكومة الأميركيّة تخاطب العالم العربي بلسانيْن. لكن بوش كان ينوي أن يلقي خطبة أقوى في «المنتدى الاقتصادي العالمي» في شرم الشيخ من تلك السنة، لكن نص الخطاب الذي ألقاه تغيّر عن النص الموضوع له. فقد علمت الحكومة المصريّة مسبقاً بموضوع الخطاب الذي تضمّن مناشدة لحسني مبارك، فقام الحكم المصري بالطلب من النظام السعودي أن يضغط على الحكومة الأميركيّة كي تتمنّع عن توجيه هذه المناشدة لمبارك، وهذا ما حصل.
وقد وصف بوش طبيعة لقائه مع مبارك في أيّار ٢٠٠٨ في مقابلة أجراها معه بهذا الصدد أبرامز نفسه، إذ قال: «كان هذا في الوقت الذي بدا فيه أنه سيحشر ابنه جمال. كنتُ معه على انفراد. وقلتُ له: «كما تعلم، اعتقد أنه خطأ كبير لكَ أن تضع ابنكَ جمال في السلطة. أعتقد أنه عليك أن تدع الشعب المصري يختار رئيسَه. وقال لي أساساً، بصوت متعالٍ: أيها الشاب. أنت لا تفهم. إن الإخوان سيفوزون. فقلتُ: حسناً، أيها الرئيس. لماذا لا تفهم أسباب نجاح الإخوان وتقوم بعمل أفضل لمخاطبة الشعب المصري الذي يختار؟...إن (موضوع) الإخوان كان فزّاعة مناسبة لمبارك ليظهرها للزعماء الغربيّين كطريقة للمحافظة على السلطة لأنه يذهب لداعميه مثل الولايات المتحدة ويقول: رجاءً، لا تضغطوا عليْ بالنسبة إلى الانتخابات، وإلّا ستتعاملون مع الإخوان المسلمين» 9. لكن من الملائم لأبرامز ولبوش إيراد المثال المصري في الحديث عن الديموقراطيّة لأن النظام سقطَ، ولأن الحديث عنه بات يشكّل مناسبة لإظهار بطولات أميركيّة مزيّفة لأن رواية بوش وأبرامز تؤكّد ما يذهب إليه العرب أن أميركا لا تكترث لحالة الطغيان في المنطقة، لا بل هي مسؤولة عنها من خلال التسليح والتمويل والحماية. ثم حتى طبيعة الحديث بين مبارك وبوش، لا تنمّ عن سياسة معيّنة بل عن إشارات عابرة بين رجليْن يتبادلان أطراف الحديث. أي إن موضوع نشر الديموقراطيّة لم يكن ولا لساعة ركناً في السياسة الخارجيّة الأميركيّة.
لكن أبرامز ورايس يتفقان أن طرح موضوع حقوق الإنسان والحريّات يندرج ليس من ضمن نظريّة المثاليّة ـ الليبراليّة في السياسة الدوليّة بل من ضمن نظريّة الواقعيّة. وقد شرحت كونداليسا رايس ذلك في كتابها (المذكور أدناه) عندما زاوجت بين «أجندة الحريّة» وبين تركيب جديد للواقعيّة أو ما أسمته بـ«الواقعيّة الأميركيّة»، حيث أن نشوء المؤسسّات والممارسات الديموقراطيّة هي وحدها الكفيلة بهزيمة الإرهاب والإسلام السياسي الراديكالي 10. لكن رايس تعلم خواء كلامها عن «أجندة الحريّة» في ظل إدارة لم تدفع بـ«أجندة الحريّة» إلّا للضغط على حكومات معادية لها فقط. وكتابها تضمّن أبشع أنواع الإقرار بانتهازيّة ونفاق السياسة الخارجيّة الأميركيّة، والتي لا يزال بعض السذّج في بلادنا يصدّقون خطابها ووعودها وأكاذيبها. والبعض الآخر من المُفلسين في السياسة لا خيار لهم إلا الاعتماد على أضاليل السياسة الأميركيّة.
وتقدّم رايس في كتابها أصرح تسويغ أميركي لرعاية الديكتاتوريّات العربيّة فتقول بصريح العبارة: «لا تستطيع أميركا أن تعيد توجيه سياستها الخارجيّة بصورة جذريّة، وأن ترفض التعامل مع أنظمة تسلّطيّة صديقة (هذه العبارة يجب أن تذهب مثلاً عن السياسة الأميركيّة، في فصلها بين «التسلّطيّة الصديقة» والتسلّطيّة العدوّة) مثل السعوديّة ومصر في أمور ذات أهميّة استراتيجيّة. إن «اجندة الحريّة» كانت تقصد إحداث تغيّر استراتيجي بعيد المدى في الطريقة التي نعرّف بها مصالحنا». (انتهى كلام رايس هنا). وتجد أميركا دوماً طرقاً وأساليب لشرح أسباب تخلّيها عن شعاراتها وأحياناً عن أهدافها المعلنة. وتجد إليوت أبرامز نفسه يقول قبل أيّام عن النظام السعودي الذي يؤيّده بقوّة أن المشكلة في السعوديّة أن العائلة المالكة تتقدّم على الشعب في الإيمان بالديموقراطيّة 11.
ويطلع إليوت أبرامز بتخريجة لشرح أسباب تبنّي الديكتاتوريّة الخليجيّة فيقول إن العامل المهم والمفقود في النظم السياسيّة العربيّة هو الشرعيّة السياسيّة. لكن أبرامز يتناول موضوع الشرعيّة السياسيّة بقليل من المعرفة وكثير من الجمود الفكري. يبدو أن أبرامز لم يطالع كثيراً في الموضوع ولم يكلّف نفسه عناء مراجعة الكتاب الأكاديمي الوحيد عن الشرعيّة السياسيّة لمايكل هدسون 12. هدسون يصنِف أنواعاً مختلفة من الشرعيّة السياسيّة في العالم العربي بينما لا يرى أبرامز إلّا الشرعيّة التاريخيّة وشرعيّة التحدّر عن سلالة النبي 13. كأن ذلك يسري على عدد كبير من الأنظمة (التسلّطيّة الصديقة). وإذا كانت الأنظمة الملكيّة التي يصدف أنها حليفة لأميركا متمتّعة بالشرعيّة السياسيّة كما يقول، فلماذا تحتاج هذه الأنظمة إلى القمع وإلى مشتريات باهظة من السلاح الأميركي، وتزيد على ذلك في استضافة القوّات الأميركيّة على أراضيها؟

إن الشرعيّة السياسيّة تُستقى من الإيمان بما لا يخالف الإرادة الأميركيّة

وإذا اكتفت أميركا بالقبول الملائم لنظريّة ان الديكتاتوريّات الملكيّة تحظى بشرعيّة سياسيّة، فلماذا تقوم أميركا بحماية أنظمة ديكتاتوريّة جمهوريّة، فيما هي فاقدة للشرعيّة السياسيّة بحسب تعريف أبرامز؟ ولماذا استفاقت أميركا على فقدان حسني مبارك للشرعيّة السياسيّة فقط بعد رحيله عن السلطة؟ ثم متى كانت أميركا في تاريخها المعاصر في الشرق الأوسط تكترث لشرعيّة الأنظمة القائمة؟ هل كان هناك في التاريخ العربي المعاصر مَن تمتّع بالشرعيّة السياسيّة أكثر من جمال عبد الناصر؟ كان عبد الناصر يستطيع أن يفوز في انتخابات حرّة في مصر وفي عدد من الدول العربيّة، لكن أميركا كانت تعترض على حكم عبد الناصر بحجّة حرصها على الحريّات في زمن كان فيه سلالات الخليج و«الإخوان المسلمون» يحملون مشعل الحريّة الأميركيّة مقابل الشيوعيّة. أي أن الشرعيّة السياسيّة تُستقى من الإيمان بما لا يخالف الإرادة الأميركيّة، وهي تنعدم عندما يخالف الحاكم مشيئة الإرادة الأميركيّة. هل أن الشاه تمتّع بالشرعيّة السياسيّة أكثر من مصدّق في أوائل الخمسينيات، أم أن الشرعيّة السياسيّة تصبح عائقاً عندما تعبّر عن تطلّعات الشعوب للحريّة والاستقلال — أي الشعارات نفسها التي تستغلّها أميركا لغايات السيطرة والطغيان العالمي؟ وتجهل أميركا — أو تريد أن تجهل — أن تحالفها مع حكومات المنطقة كان تاريخيّاً عبئاً على الشرعيّة السياسيّة للأنظمة، إلا أن هذا العامل لم يعد حاسماً بسبب حالة اللامبالاة والالتهاء التي لحقت بالعالم العربي.
ويستشهد أبرامز باستطلاع إقليمي للرأي عن الثقة بالحكومة وهو يضع حكومة الإمارات في مركز متقدّم. لكن ما قيمة هذه الاستطلاعات في بلاد يُحكم فيها على مواطن بالسجن إذا ما عبّر فيها عن «تعاطف» مع دولة عربيّة قرّرت حكومة الإمارات بين ليلة وضحاها أنها باتت عدوّة لها؟ إن المواطن عندما يستجيب لهذه الاستطلاعات (وبعضها يجري وجهاً لوجه مما يُعرّض المستجيب لحرج وخوف إضافي) يعلم أن التعبير عن مواقف مخالفة لمشيئة الحاكم يمكن أن يؤدّي إلى عقوبة السجن. هذه مثل استطلاعات آراء المواطنين في الفساد في الدول العربيّة والتي يأتي فيها لبنان في مركز متقدّم وليس لأن لبنان أكثر فساداً من كل الدول العربيّة قاطبة — على فساد لبنان — بل لأن المواطنين والمواطنات في لبنان يستطيعون أن يعبّروا بحريّة غير موجودة في باقي الدول العربيّة عن آراء سلبيّة إزاء الحكومة القائمة.
ويتضح من كتاب أبرامز، كما مِن كتاب شرانسكي المذكور أعلاه، أن أميركا في دعايتها عن الديموقراطيّة، تختار أفراداً من العرب وتقرّر بالنيابة عن الشعب العربي، أنهم يستحقّون أن يمثّلوا الشعب العربي، وأن دعم هؤلاء (كأفراد) هو التكريس الفعلي للديموقراطيّة. لكن أميركا لا يمكن أن تختارَ أفراداً في أنظمة الخليج أو النظام المغربي أو الأردني. هي تكتفي بأفراد من جمهوريّات لأنها تخشّى في حديثها عن الديموقراطيّات في دول الخليج أن تتأذّى مصالحها وأن يهتزّ استقرار هذه الدول. قرّرت إدارة بوش مثلاً أن تناصر أيمن نور وسعد الدين إبراهيم في مصر، ويرد اسما الرجليْن في أحاديث المسؤولين الأميركيّين ويرد في محادثاتهم مع نظام مبارك. لكن الحكومة الأميركيّة لا تناصر الأفراد إلى درجة التضحية بعلاقاتها الوثيقة مع الطغاة الأصدقاء من الجمهوريّين. هي تكتفي بذكر أسماء المرضي عنهم (كما فعل شارانسكي في كتابه) من باب رفع العتب، وللقول إن أميركا تسعى نحو الديموقراطيّة في العالم العربي. ويرد عرضاً في متن الكتاب لقاءات في البيت الأبيض بين ديموقراطيّين (وديمقراطيّات) عرب ومسؤولين أميركيّين. وأصناف هؤلاء الديموقراطيّين والديموقراطيّات تظهر من خلال الأحاديث. يحدّثنا أبرامز عن «ناشطة ديموقراطيّة مصريّة» (لم يذكر اسمها) وعن زيارتها له في البيت الأبيض في عام ٢٠٠٣ (تُفتح أبواب البيت الأبيض لبعض الناشطين والناشطات العرب إذا كانت توجّهاتهم تتوافق مع توجّهات التحالف الأميركي ـ الإسرائيلي). لكن كيف عرفت هذه الناشطة طريقها إلى البيت الأبيض؟ هل استقلّت سيّارة أجرة (لم تكن «أوبر» قد انتشرت بعد) وطلبت نقلها إلى مدخل البيت الأبيض؟ لم يشرح أبرامز لنا لوجستيّات الزيارة. ماذا طلبت الناشطة الديموقراطيّة من الإدارة الأميركيّة؟ هي عبّرت عن معارضتها لإجراء انتخابات حرّة في مصر. قالت لأبرامز: «ليس الآن. لكن في غضون عشر سنوات، إذا استطعنا أن ننظّم بحريّة لمدّة عشر سنوات» 14. ويثني الداعي الديموقراطي أبرامز على كلامها ويضيف أن «الديموقراطيّين» (يقصد العرب منهم هنا) ليسوا ناجحين في التفكير والعمل كعناصر من «الغوريلا» (أي عناصر في وحدات فدائيّة سريّة) أو التآمر السرّي، وأن ذلك سبب ضعفهم وسبب قوّة الاسلاميّين. أي إن أبرامز يريد من الديموقراطيّين العرب أن يباشروا بالتآمر السرّي من أجل الوصول إلى السلطة — ديموقراطيّاً. تقرأ ذلك وتتيقّن أن ما يعنوه بالديموقراطيّة في بلادنا ليس إلا نسقاً ملائماً جداً لهم من الاستبداد.

هوامش:

1- الكتاب صدر قبل أسابيع عن دار نشر جامعة كمبردج.
2- وروّج عدد من المحافظين الجديد يومها، ومن بينهم جون بولتون، لحكاية أن صدّام حسّين هرّب سلاحه النووي (في أكياس من النايلون، ربّما) إلى حزب الله الذي أخفاها في البقاع. وهذه النظريّة لا زال تسود في أوساط صهاينة اميركا.
3- الصهيوني ديفيد فرم، عمل كاتب خطابات لجورج بوش وهو الآن كاتب في مجلّة «أتلانتيك»، التي يرأس تحريرها الجندي الإسرائيلي «السابق»، جيفري غولدبرغ.
4ـ كتاب شارنسكي، ص ٢٧٣.
5- كتاب أبرامز، «الواقعيّة والديموقراطيّة»، ص ٧٦.
6- كتاب رايس، «لا شرفَ أرفع»، ص ٣٢٨.
7- كتاب أبرامز ص ٨٢.
8- المرجع نفسه، ص ٨٢.
9-هذا مقطع من مقابلة أجراها أبرامز لكتابه، ص ٨٥.
10- كتاب رايس، ص ٣٢٨.
11- راجع مقابلة أبرامز مع جوناثان سوان على موقع أكسيوس.
12- صدر الكتاب في عام ١٩٧٧ عن دار جامعة ييل بعنوان «السياسة العربيّة: السعي نحو الشرعيّة».
13- كتاب أبرامز، ص ٩٥.
14- كتاب أبرامز، ص ٩٩.
(يتبع في حلقة ثالثة وأخيرة).

*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)