تتحضر القوى التقليدية في السلطة والمعارضة (معظمها ممثّل في الحكومة) لخوض معركة الانتخابات النيابية بالطريقة نفسها التي خاضت فيها معركة التمديد المتكرر، ثم معركة قانون الانتخاب الهجين والمشوّه، ثم معركة كيفية ترجمة هذا القانون من الناحية الإجرائية. في كل تلك المراحل السابقة والمقبلة، سواءً بالانتخابات أو بتمديد أو تأجيل جديدين، كان الهاجس، بالنسبة إلى تلك القوى وسيبقى تأمين حجم تمثيلي، لهذا الطرف أو ذاك، بما يوفر له حصة وازنة في المجلس والحكومة، وبالتالي في تقاسم مواقع النفوذ السياسي والإداري والمالي من ضمن سياسة المحاصصة والنهب والصفقات وليّ ذراع الدستور والقانون وتجاوزهما في العديد من الحالات والمجالات.
لنبدأ من أن العهد يعوِّل، رسمياً، على الانتخابات المقبلة، من أجل توسيع تمثيله بما يمكّنه من تحقيق أهدافه ومشاريعه بالطريقة التي يريد، وعلى أساس «استعادة الحقوق» المسيحية كما فعل حتى الآن. ثمّة قوى أساسية، شريكة في الحكم والمحاصصة، تريد ذلك، أيضاً، ولو بصيغ مختلفة. بعضها يريد الحفاظ على مواقعه وحجمه وحصته ويقاتل، بكل الوسائل، من أجل ذلك. بعضٌ ثالث يحاول الدفاع عن حضوره في المشهد السياسي العام، متخوفاً من تراجع وضمور. ثمة فريق رابع انتقل، مؤقتاً، إلى صفوف المعارضة آملاً، من خلالها، باستغلال موجة شعبية متذمِّرة من زيادة النهب والفساد ومن تردي الخدمات وغلاء الأسعار وزيادة الضرائب...، وبالتالي بالحفاظ على دوره وحصته أو بتحسينهما في مواجهة جشع ومنافسة الآخرين.
وتواصل القوى التقليدية في كل ما يتعلق بالانتخابات: قانوناً وتمديداً، وإجراءات (وصولاً إلى النتائج) الإمساك بزمام المبادرة بالكامل تقريباً. وهكذا هو الأمر، أيضاً، بالنسبة لشؤون البلاد العامة حيث الاستئثار يبلغ ذروة غير مسبوقة دون محاسبة أو رقابة: لا في نطاق الأجهزة الرقابية الرسمية نفسها، ولا من قبل هيئات شعبية ضاغطة بما يحد من سياسة الاحتكار والاستئثار والاستهتار...
بالطبع ليست القوى التقليدية، التي تتوزع بين السلطة والمعارضة الرسمية، ضعيفة. هي بالتأكيد تستخدم كل الوسائل (وأكثرها غير مشروع) من أجل تثبيت وتعزيز مواقعها، وصولاً إلى نهب موارد الدولة وتسخير مؤسساتها عبر المحاصصة، وإلى استخدام الموقع العام الرسمي لخدمة المصالح الخاصة، وإلى التزوير والتشويه والمنع والقمع... هذا فضلاً عن تغذية العصبيات والغرائز، خصوصاً الطائفية والمذهبية منها. وهذان قد بلغا في السنوات الأخيرة ذروة غير مسبوقة وسط مناخ إقليمي فاعل في التأثير على الوضع اللبناني إلى حدود التبعية الصافية والمباشرة. في امتداد ذلك تواصل القوى الداخلية المتصارعة استقواءها بالخارج بانشداد متزايد إلى محاوره وأزماته وانقساماته، الأمر الذي يؤدي، أحياناً كثيرة، إلى إرباك السلطة وقواها في لبنان، وإلى دفع آليات عمل هذه السلطة نحو الجمود والشلل العامين وخصوصاً في المؤسسات والمواقع الرئيسية: مجلس النواب ومجلس الوزراء والرئاسة. والأمثلة حيَّة ومتواصلة، وما زالت قابلة للتجدد مع كل منعطف وكل صراع إقليمي حاد...
بيد أن هيمنة القوى التقليدية على المشهد والحياة السياسيين اللبنانيين، لا تعني غياباً مطلقاً لقوى الاعتراض في مستوييها: المنظم الحزبي، وغير المنظم العفوي الشعبي. معروف أن المستوى الأول قد كان، في العادة، هو من ينظم الاحتجاج الشعبي أو يغذيه ويدعمه. لكنه لم يعد يمارس هذا الدور، بطريقة فعّالة منذ سنوات، إلا أن الاحتجاج الشعبي استمر. بل هو، في مناسبات متعددة، قد أثبت حيوية استثنائية خصوصاً بين موظفي القطاع العام (في القطاع التعليمي خصوصاً)، وفي نشاط ومبادرات مجتمع مدني استطاع، أحياناً، أن يحرك الرأي العام والشارع عبر قضايا حساسة وذات مساس كبير بمصالح الناس كقضية، بل فضيحة، النفايات على وجه الخصوص.
إلا أنه رغم خوض معارك كبيرة، أحياناً، في المؤسسات والشارع، وحول مسائل سياسية وخدماتية متنوعة، إلا أن قوى الاحتجاج لم تتمكن من تعزيز حضورها ودورها. وهي افتقرت إلى برنامج واضح وعملي، وإلى قيادة قادرة على تطوير التحرك ودفعه إلى مستوى ما هو مطلوب من الاستمرارية والتصاعد لفرض تغييرات ذات مغزى وإن كانت محددة ومحدودة، في هذا الحقل أو ذاك. إن رسالة هذا التحرك الاحتجاجي، في جانبه العفوي الشعبي خصوصاً، وفي أهدافه عموماً، لم تصل إلى حيث ينبغي. توحَّدت قوى السلطة لمنع وصولها ولإعاقة استمرارها ولإرهاب ناشطيها ولإغراق مسارها في الانقسامات والحذر. ومن جهة ثانية، عجز المبادرون إلى إطلاق التحرك وعجزت أحزاب التغيير، عن التوحد والتفعيل وتفرق المحتجون، تباعاً، لتبقى الساحة خالية لفريق السلطة يواصل سياساته، دون خجل أو وجل، ضد مصالح الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وفي الحقول كافة...
الخشية أن يواصل تيار الاحتجاج المنظم والعفوي أخطاءه السابقة نفسها، خصوصاً أن مكوناته لا تملك فضيلة التوقف والمراجعة والتصحيح (على الأقل كما يفعل ممثلو السلطة، ولو شكلياً، إذ اختاروا لحكومتهم شعار «استعادة الثقة»). ثمة بوادر تدارك هذا الأمر في عدد من المواقف المعلنة الداعية إلى التعاون والتوحد في خوض معركة الانتخابات النيابية في الربيع المقبل (في حال حصولها ولفضح المسؤولين عن تمديد جديد في حال عدم حصولها). ليس في المتناول، حتى الآن، ما يدعو إلى كثير من التفاؤل بسبب سلبيات التجارب السابقة التي طغت فيها الفئوية على كل ما عداها، وانعدمت، تقريباً، روح المسؤولية والمبادرة وتوخي خدمة الهدف العام لا الأهداف الفئوية والخاصة. الانتخابات مناسبة ينبغي أن تتخطى هدفها المباشر، بالنسبة لقوى المعارضة الجذرية، إلى إعادة ترميم، بل بناء، الموقع المعارض نفسه بما يتجاوز المعركة الانتخابية إلى محاولة بلورة استهدافات برنامجية، سياسية واجتماعية وتنظيمية، تتناول المرحلة التي يمر بها لبنان والصراع فيه في ضوء الصراع الضاري الدائر في المنطقة ضد أصحاب المشاريع التآمرية، الأميركية والصهيونية والرجعية، وضد الإرهاب وضد الفئويات والاستبداد وضد التحريض الطائفي والمذهبي...
لم يعد الكلام العام غير المقترن بالخطط والبرامج والآليات، في هذا الصدد، وحده كافياً. بل هو لم يعد حتى جائزاً. المطلوب، إذاً، بلورة خطة تتضمن برنامجاً وتوجهات وآليات وأولويات يكون الاستحقاق الانتخابي، في الربيع المقبل، محطة من محطاتها الأساسية المقبلة، وأن يؤدي ذلك إلى انطلاق تيار وطني لاطائفي، تقدمي وديموقرطي، يخوض معركة التغيير الإنقاذي المنشود.

* كاتب وسياسي لبناني